أقلام حرة

جمال محمد تقي: فلسفة شريعة الغاب!

الغطاء النباتي الشجري كان يكسي الارض، فالارض غابة، وهي مسرح بيئي وفطري للحيوان والقطعان ثم الانسان، وهي مسقط رأس الجميع، عليها ومنها خرج وخاف وتقاتل وعبث وتلذذ وتمرد وتجبر، الانسان، ملكها الذي اصابته لوثة جنون العظمة فتكبر عليها ومازال يهددها وهي تذرف الدموع، كأنها دموع الوداع!

 تطور شرائع البشر يعكس مديات الرقي الذي توصلوا اليه في تأطير وتنظيم علاقاتهم في شتى مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن معتقداتهم وانظمة الإدارة بينهم، والفرق بين ماهو شفاهي وعرفي وتلقائي، في الجماعات البشرية البدائية، وبين المدون والمتشعب والسائد في دول المدن او إمبراطوريات العالم الاقدم، كالفرق النوعي، بين مجتمعات الدولة واللادولة، لأن الظهور التاريخي للقوانين والشرائع الفوقية هي احدى تجليات الدولة التي تحكم اقليم المدينة، ومن ثم الدولة العابرة، للمدن، والاقاليم، او ما نصطلح عليه حاليا بالامبراطوريات الاولى، وهو فرق بالكيف لا بالكم، من البسيط الى المركب، والى مضاعف التركيب،  فالمعقد، الى المحوسب، بين الملكية المشاعة، الى الملكية الخاصة، من مجتمعات خالية من التمايزات الاجتماعية، الى مجتمعات الفوارق المقننة، من مجتمعات الجمع والصيد، الى مجتمعات الزراعة، التي قيدت الحرية بكفالة فائض المنتوج المنتظر، من مجتمعات الامومة الى مجتمعات الابوة، الى مجتمعات الانفلات الكلي!

شريعة الإفتراس من الارض الى السماء:

اذا كانت السماء هي دار الالهة والارض دار البشر والعالم السفلي دار الموتى، فأن الغابة هي دار الحكم والتحكم عاش فيها الانسان ما قبل الاول مثل اقرانه الدواب معيشة الافتراس ثم ارتقى بدرجاته حتى اصبح ملكا له، ملكا للغابة، طامعا بإفتراس الكون ليعلن نفسه امبراطورا إلهي، فغريزة الافتراس تسري في عروقه، دائمة التوارث وهي ديدنه حتى وهو في اوج إنسانيته العاقلة،  ومايزال يخوض معارك جديدة من الافتراس المتدحرج من الخشن الى الناعم الفنائي، وفي كل الارجاء حتى يكتشف يوما حقيقته بنفسه ويعيد انتاج ذاته خارج الغابة القابعة في ذاته او يفجر المعبد بما فيه بقصد او دونه لتعود دورة الغابة البرية لدورتها من جديد!

منذ ما قبل شريعة حامورابي وبعدها، وحتى بعد شريعة الامم المتحدة مازالت شريعة الغاب هي السائدة، فمازال اقوياء البشر، يفترسون الحيوان، ويعذبوه ليأكلوه، ويبضعوه، حتى إنقرضت بعض انواعه، اقوياء البشر يفترسون الشجر والحجر، والضعفاء من بني البشر، يكاد ينقرض نسلهم، كما حصل مع الهنود الحمر، وتم اصطياد العبيد من افريقيا صيد البهائم، حروب يقتل فيها عشرات الملايين، وبأسلحة خيالية، تتندر على النبال والسيوف والمنجنيق، بقنبلة  واحدة يقتل عشرات وربما مئات الالوف، كما في هيروشيما ونكزاكي، الدول كالقبائل تتقاتل على العشب والماء، بحروب برية وبحرية وجوية، بيولوجية وكيميائية ونووية وفضائية، امبراطوريات تتسيد بالقوة التي يضاعفها الذكاء الاصطناعي فاتح الابواب الجديدة لتصدير شريعة الغاب للعوالم الاخرى، شعراء القبيلة يفاخرون بأمجادها، وابواق الدول وإعلامها ومؤسساتها الخبيثة واقمار تجسسها وبثها المسموع والمرئي والافتراضي يغسل الادمغة ويقلب الحقائق، ويشكك البشر بانفسهم، وببعضهم البعض، للامبراطوريات دعاتها وعرافيها وعرابوها ومفكريها ومهندسيها يتفنون في شحن البشر وبرمجتهم على الخنوع للعبودية الجديدة، انت حر في غابتهم كن ما تريد ان تكون قل ما تريد ان تقول انت حر بنفسك ولنفسك لكنك يجب ان لا تقف بوجه المقدسات، آليات سوقهم، ونخاسة بنوكهم وقدسية ملكيتهم مهما اتخمت ومهما جاع وقتل بسببها من المفلسين، وحقهم في التسيد على التاريخ لانهم من يقرره وليس غيرهم، انت حر مادمت لا تخرج عن نصوصهم، انت حر مادمت عبدا لحريتهم في تقرير مصير الارض والسماء !

البشر يحاكون نزلاء الغابة:

 في كليلة ودمنة، كتب بيدبا رسائل على شكل نصائح ضد الطغيان على ألسنة الحيوان للملك دبشليم الذي ظلم وطغى بعد ان مكنه الاهالي من السلطة عندما ثاروا على وكيل الاسكندر الكبير " المقدوني – ذي القرنين "، وهي ليست مجرد حكايات خرافية للتشبه او حالات تقمص لضرورات التورية والتشويق، لان جوهر الفكرة من اساسها لا يخلو من تطابق صفات حيونات الغابة مع صفات البشر، المكر، والحكمة، والغباء، والقوة المفترسة، والجبن، والوفاء، والطبع والتطبع، والغرائزية، بما فيها صلة الرحم، فالحيوان كالانسان يفترس من غيرعائلته، وهو تراحمي مع من هم من نسله، المشكلة في البشر انهم مستعدون لافتراس بعضهم، وفي حالات من بني جلدتهم، فكل الصفات المتفرقة للحيوانات تجتمع في بني البشر، وليس مصادفة ان يستنطق تلك الصفات ويوظفها لخدمة المهتمين باصطياد السطة والاعيب الحفاظ عليها، ميكافيللي، في كتابه الامير، حيث ينحو الى غايات إشباع غريزة الافتراس، افتراس السلطة، وبكل الصفات التي وردت في سيناريو بنات آوى في كليلة ودمنة !

حزبا الحمار والفيل في غابة بلا أشجار:

اختيار الحزبين المتناوبين على حكم اقوى قوة في غابة العالم لرمزي، الحمار والفيل، هو إنتماء الى ذات النزل، الذي نزل به ميكافيللي في فلسفة افتراس السلطة، وليست اي سلطة انها مطلقة العنان، حول العالم، لتشق طريقها عاليا، لحكم السماء، فحرب النجوم كانت بشارة رونالد ريغان للعالم، يرهب بها منافسه السوفيتي، الذي مات بالسكتة القلبية، لكن الذي خلف ما مات، ترثه روسيا ويظهر بوتين باحثا عن الثأر، وما كان من حزبي الحمار والفيل، إلا الركون لمحاصرته، وعلى نار هادئة، يطبخان، ما يريدانه من عشاء اخير للمتطلع الروسي ومن بعده الصيني، وربما تـأتي المفاجئة، بغداء قالب للموازين، من يدري، فالغابة مليئة باسرار لا تخلو من العجائبية، وفي سيرك حزبي الحمار والفيل، لإختيار رئيس جديد، تحتدم المنافسة بين تقاليد الدولة العميقة والمتطيرين من نمطيتها نحو إفتراس لا نمطي للسلطة، تتجسد فيه ملامح السمسرة الفجة والترف الشعبوي، ومهما يكن من أمر، فالرئيس الجديد ان كان من رمز الحماراوالفيل سوف لن يكون مختلفا إلا في لغة وتكتيكات تحقيق مشروع الافتراس القادم !

ترامب يهيج فيل الغابة:

بعد إمتطاء ترامب لفيل الدولة الغابة، يعلن وبكل غرور اختصار الطريق نحو شرعنة، شرعة الغاب، لا للارض، وبشرها فقط، وإنما الى حيث تصل مراكب الفيل الفضائية لكواكب المجموعة الشمسية، الى حيث لا حدود متخيلة لهوس الافتراس !

***

جمال محمد تقي

في المثقف اليوم