أقلام حرة

صادق السمراء: العالَم السكران!!

العالم يتداخل ويذوب في محلول الوجود الأرضي، الذي يتصاغر ليتحول إلى قرية كونية  تتفاعل بإيجابية لتتواصل الحياة.

العالم إنتقل بسرعة  إلى عصر ما بعد السرعة، وما بعد الذرة، وما بعد العلم، وأصبح منساقا وراء أعماق الوعي والإدراك، ومضى يطوف الفضاءات الأخرى باحثا عن قرية كونية ليقيم معها علاقات ويرى حقائق الأشياء، التي عاش في أوهامها وتصوراتها ومعطياتها المختلفة ذات الآثار المتباينة.

في هذا العالم أخذ البشر يفكر بآليات التفاعل مع النواة والنويات في أعماق الخلايا الحية، ويأتي بتقنيات التداخل العلاجي على مستوى الكروموسومات  والحوامض الأمينية، والمرسلات  ما بين النواة وسايتوبلازم الخلايا لصناعة البروتينات اللازمة لظاهرة الحياة والسلوك.

العالم الذي تطورت فيه تقنيات السيطرة عن بُعد، فالجراح ربما  يقوم بعمليته الجراحية وهو في قارة أخرى والمريض في قارة ثانية، وفقا لتكنولوجيا الروبوتات وتطورات التصوير الإليكتروني، والتواصل عبر شبكات الإتصال المتفوقة وبسرعة مذهلة.

العالم المشحون بالتنوعات المتنامية، والأفكار الحامية، والتطلعات المزدحمة، والطموحات التي تتوافد إليه كالشلال المتدفق من ينابيع العقول المتوقدة بالأفكار.

عالم تتسابق فيه المخترعات والرؤى والتصورات وتتفجر الأفكار ولا تتوقف.

عالم يدخل في آفاق الناناتكنولوجي الذي تصير فيه المليمترات قياسات كبيرة،  وفي علوم الفضاء التي تصبح فيها الأميال قياسات صغيرة، عالم الجينوتكنولوجي والبايوتكنولوجي وتكنولوجيا الخفايا والأسرار، وتوجهات حقن النويات وسايتوبلازم الخلايا وليس الأوردة والشرايين والعضلات.

عالم  تكنولوجيا اللامعقول التي أذهلت وحيرت العقول.

وعالم نائم في قبور الأجداث، ومشغول بما مضى وما إنقضى ويهمه ما قاله فلان وما فعله علان،   ولماذا جلس على الكرسي فلان ولم يجلس عليه فلان، ومنهمك بعلوم تشريح الأجداث ونبش القبور والبكاء على مقابر الضمير الجماعية، التي تتوطن النفوس والعقول والخيال فتراه لاهيا في فصول مسرحية البهتان.

العالم الذي نعيشه في القرن الحادي والعشرين يقف أمام محنة كبيرة، وإمتحان حضاري وكوني كبير، وعليه أن يخرج من عاداته ومن صناديق رؤاه الماضية، وأن يتفاعل بمحبة وسلام وقدرة على تحقيق السعادة للجميع، لكي يهنأ البشر بهذه الإنجازات المتسابقة إلى حيث الآفاق اللامحدودة في مملكة الإبداع والابتكار التقني التي أخذت بالصعود إلى ذروتها اللانهائية.

العالم بحاجة لإكتشاف مقتربات جديدة وتوجهات ذات فائدة إنسانية شاملة للمجتمع الأرضي، بعيدا عن صناديق العزلة وخنادق البغضاء والكراهية والأحقاد، وسوء الفهم والتمترس في دروع المشاعر السلبية والعواطف المؤذية للذات والآخر.

العالم عليه الخروج من رحم الأزمات الغابرة، وأن ينفض غبار القرون القاسية، وأن يرى الشمس ويغني للمحبة والألفة والرحمة والسلام، وأن تستثمر البشرية جهودها وطاقاتها كافة من أجل أن تبدأ مشاريع السلام والمحبة، وأن تتوحد جهودها من أجل إزالة الفقر والجوع والجهل،  وحماية البراءة من الموت والامتهان، ولكي تنعم المخلوقات بسعادة التكنولوجيا والتقدم المعاصر، الذي وصل إلى أروع ما يمكن أن يصل إليه جهد إنساني خلاق في تأريخ الأرض.

العالم في وقت إكتشافٍ لوسائل صيرورته الجديدة وتفاعلاته المتلائمة مع العصر التقني الذي أصبح فيه، وفي مراجعة متواصلة لمفردات وعناصر وتصورات تأسره، والخروج بسياقات حضارية ذات قدرة على المواكبة والصعود إلى قمة القرن الجديد، الذي يتحرك بسرعة تسابق الضوء في مجموع جهوده وإضافاته الإبداعية والتقنية والمتلاحقة.

عالم تتساقط فيه شركات عملاقة وتولد أخرى، وفقا لمفردات الحركة العلمية الجديدة، وتتبدل الأشياء بسرعة أيضا، فالأدوات التي تم إستخدامها في الأمس لا  تعاصر اليوم وما عندنا لا يعاصر في الغد.

عالم يتم فيه إنتاج الملايين من أجهزة الكومبيوتر يوميا، في ظاهرة لم تشهدها الأرض من قبل، مما حولها إلى عالم يميل إلى التعبير الحقيقي عن نفسه ووجوده وهويته الكونية المتمثلة في نقطة متناهية الصغر في محيط الأكوان المطلق المزدحم بالأجرام التي تتفوق بحجمها على الأرض بما لا يحصى من المرات.

الأرض تميل إلى القرار بكونها نقطة أو جرم صغير جدا وما على الأحياء التي تتوطن هذه البقعة الصغيرة إلا أن تقر بحقيقتها وتتفاعل مع بعضها من أجل الحفاظ على النقطة في بخصائصها في بحر اللامنتهى الكوني وقرب إخوانها الأجرام التي تدور مثلها حول الشمس وحول نفسها وهي في غثيان وتفاعلات كهرومغناطيسية لا ندركها ولا نعرف كيف تحقق هذا الثبات الدقيق والتواصل البقائي المتفاعل بمقدار.

العالم يتهاوى على ذاته وما بقيت بقعة أرضية لا تؤثر في بقعة أخرى منها، وما عادت الأفكار رهينة الصناديق والأزمنة والطرقات، لقد أصبحت تحلق في فضاءات الأرض بحرية تامة وتحط على كل الأغصان والأشجار، وتتفاعل مع كل الأدمغة وتصنع ما تصنعه بتأثيرها في هذه البقعة أو تلك.

وما عادت العقول المنغلقة المسجونة في بئر الذات العميق، بقادرة على المواكبة من غير الخروج من ظلمتها، والتفاعل مع ضوء العالم المتعدد الألوان، الذي يمنح الحياة البهيجة والسعادة، ويفتح أمامها الآفاق الرحبة لصيرورة إنسانية مثلى خالية من أمراض الرؤى والتصورات، وبعيدة عن خنادق المآسي والويلات.

العالم المتدفق بالحياة وتنوعات الإبداع والأفكار، صار نسيجا زاهيا بألوانه وصوره وأشكاله، يبعث على الفخر والزهو والمحبة والأمل والرجاء، الذي يدفع إلى الخروج من معاقل إحتكار الرؤى إلى سوح تفاعلاتها وتنميتها، وتثمير الإيجابيات وطرد السلبيات، وتأكيد الموضوعات الصالحة لبناء الحياة السامية اللائقة بالإنسان المعاصر المتحضر، الذي أضفى عليه ضوء المعرفة والعلم قدرا من الوعي والفهم الذي لم يتحقق لأجيال بشرية قبله، فعليه أن يسعد بنعمة المعرفة والإبتكار والإبداع، لا أن يحولها إلى نقمة وأداة للكراهية والبغضاء فيُحزن الأرض ويُغضبها فيصيب الأجيال بالأوجاع.

إنها الأرض التي تفخر بحملها وبما أنجبه العقل الخلاق، وتريد الخير منه وتبغض الشر كله.

إنها الأرض تريد أن تعيش سعيدة زاهية في عالم الأكوان المتعدد الصياغات والألوان.

عالم مولود من رحم الإختلافات والتفاعلات الخلاقة في فضاء متمدد يستوعب الجديد ويمنح الفرصة، لكل مولود يغني للحياة ويصنع الأمل والفرح وارتقاء!!

فهل ستنجو الأرض من وعيد القرن المبيد؟!!

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم