أقلام حرة
الطيب النقر: نجعة المكارم
الودُّ الشفيف، والحب الشديد الذي يُحظى به السوداني في كل صقع ووادٍ، ليس مرده في وجهة نظري القاصرة، حديثه الممتع الذي تتخلله الفُكاهة، وتحيط به الدعابة، أو لنضجه الذهنيطه وثقافته المتعددة الجوانب، بل لاستقامة خُلقِهِ، ووضوح منهجهِ، وللكم الهائل من حُسن السجايا التي يتحلى بها السواد الأعظم من هذا الشعب الشامخ، ولعل الشيء الأنوط بأفئدة الشعوب، والأعلق بذاكرة الأمم، الكرم الذي يقف السوداني على جادته، فصاحب اللون الكالح، الذي يعيش بجسد مهدود، وعصبمجهود، يخِفُ للمعروف، ويهتز للعطاء، ويرتاح للندى، ويمكنهُ أن يصبر على كل خطب، ويثبت على كل محنة، إلا نائبة تنفصم عندها عُرى جلده، وينهار دونها جُرف اصطبارهِ، فكيف لسخي مخروق الكف والجيب لا يبقي على ما كسب، أو يقبض على ما ملك، أن يلج داره ضيف ولا يوغل في كرم وفادته، كيف لسبط الأنامل، ورحب الذراعين، ألا يستسلم للشجون، ويستكين للحسرة، وهو يرى الفقر المدقع الذي يقيم بداره، كما يقيم الداء الوبيل بالجسد المعتل، وضيف قصده من مكان نائٍ، عندها حتماً يتبدّل الثغر الذي يفترُّ بالابتسام، وتغوص بشاشة الوجه الذي يومض بالبشر والوئام، ويحل محلهما الكدر والسقام، ولا يجد بقية الكرام مراغماً ولا سعة، سوى الدين والاقتراض حتى يحتفي بضيفه، ويطعمه من الأطايب التي تشرئب إليها كل نفس، وتتوق إليها كل معدة.
لأجل ذلك يهش الأنام في وجه السوداني، ويتقاضون عن هناته عملاً بحديث المعصوم عليه الصلاة والسلام: «تجاوزوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيدهِ كلما عثر، وفاتح له كلما افتقر». وخاتم الأنبياء والمرسلين الغزير الفواضل، الكثير النوافل، الذي يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر وصفته سفانة بنت حاتم الطائي بأنه :«يحِبُ الفقير، ويفكُ الأسير، ويرحم الصغير، ويقدر الكبير، قال عن السخي:«السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل».وخصلة الكرم التي تعد بمثابة أصل المحاسن كلها، خصّ الله قاطني الجزيرة العربية بالشقص الأغر، والحظ الأكمل منها، فقد كانوا معادن الكرم، وسدنة السخاء، فقد روت لنا أمهات الكتب العربية أخباراً في الجود، يكاد سامعها ينكرها لبعدها عن المعهود، كما قال الأبشيهي منها خبر ذلك الأعرابي الذي جاء إلي سيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وهو بفناء داره فقال: «يا بن عباس إن لي عندك يداً قد احتجتُ إليها، فصعد ابن عباس فيه بصره ولم يعرفهُ، فقال: وما يدك؟ قال: رأيتك واقفاً بماء زمزم، وغلامك يمتح لك من مائها، والشمس قد صهرتك، فظللتك بفضل كسائي حتى شربت، فقال: أجل إني لأذكر ذلك، ثم قال لغلامهِ: ما عندك؟ قال: مائتا دينار، وعشرة آلاف درهم، فقال: ادفعها إليه، وما أراها تفي بحق يده». ومن أجواد العرب في الإسلام سيدنا عبدالله بن جعفر، كان الخليفة معاوية بن سفيان يعطيه ألف ألف درهم في كل عام، فيفرقها في الناس ولا يُرى إلا وعليه دين، وحدث أن لامه أصحاب المجد الأصيل، والشرف الأثيل، السيدان الشريفان الحسن والحسين رضي الله عنهما على سرفه في بذل المال، فقال: بأبي أنتما، إن الله عز وجل عوّدني أن يتفضل عليَّ، وعودتهُ أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عني المادة، وحدث أن مرض السخي النقي قيس بن سعد بن عبادة، فلم يهرع بعض أخدانه ومعرفته لعيادته، فثقل ذلك عليه، وحينما سأل عن سر ذلك الغياب، قيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع عني الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً ينادي من كان لقيس عنده مال، فهو منه في حل، فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العوّاد
***
د. الطيب النقر