أقلام حرة
علي علي: التاريخ يسجل
إن من اهم المتطلبات الضرورية لإعمار البلدان وبنائها هو رأس المال البشري، وهذا ما سمعناه على لسان المتخصصين بعلم الاقتصاد، ومن دون توفير رأس المال هذا، لن يتمكن أي مجتمع من البدء باعمال البناء والاعمار، مع وجوب وجود الإرادة الحقيقية والجادة من قبل صناع القرار في البلد. فالإنسان إذن، هو حجر الأساس الذي تُبنى عليه المشاريع التي تخدم الإنسانية جمعاء.
هنا في عراقنا، لدينا من الكفاءات كثير وكثير جدا، وهم ليسوا وليدي اليوم او الأمس القريب، ومن قلّب صفحات التأريخ تبين له الكم الهائل من ذوي العقول والعلوم والآداب الذين تزخر بهم صفحاته. وباستذكار العقود الخمسة الماضية، نجد أن حدثا شاخصا يتكرر كل عام، ذاك هو استعراض الشركات والوزارات العراقية نتاجاتها، أسوة بشركات من دول عالمية على أرض معرض بغداد الدولي، وكلها تتفاخر بما وصلت اليه صناعات شعوبها، وجدير بالعراق ان يكون لكفاءاته حضور مميز في مجال الصناعات، إذ لم تبخل أمهات العراقيين بإنجاب علماء وأدباء وصناع حضارة.
اما في مجال الفنون، فان مخطوطات الأولين ورسومهم مازالت شاخصة في آثار أور وبابل وآشور، لتشهد انهم أول من ابتكر فن الزخرفة على مشيداتهم، كما انهم اول من اخترع البناء المقوس الذي أثبتوا متانته فيزياويا. ولهم قصب السبق في استغلال الآجر باستحداث عمارة جديدة، والوثوب به الى قمم شاهقة في معابدهم التي أسموها “زاقورة” وترجمتها “القمة المرتفعة”.
كل هذا حدث منذ ألوف السنين، وكان لقادة البلاد وملوكها ورؤسائها الباع الطويل واليد الطولى، في رفد العلماء وفتح ابواب خزائن الدولة وبيوت المال، فضلا عن ابواب قصور الخلافة والدولة، لدعم الكفاءات والقدرات من ذوي العقول، لإيصال علومهم وجديد اختراعاتهم الى دول المشرق والمغرب، الذين بدورهم استمدوا من تلك العقول أفكارهم، وطوروا عبرها صناعاتهم وباقي مرافق حياتهم، ويشهد بذلك المؤرخون والكتاب الذين تزخر مؤلفاتهم بانجازات العراقيين القدماء.
ومن المؤكد ان قادة العراق الحاليين مطلعون على تلك المؤرخات، فالعجب كل العجب وقوف بعضهم بالضد من نشر العلم والأدب وباقي المعارف، ويأبى -متعمدا- دخول سفر التاريخ كقائد يشار إليه بالبنان، وتتغنى به الشعراء كونه سجل خلال حقبة حكمه، صفحة بيضاء لصالح البلد وتقدمه وازدهاره، مع علمه يقينا أن التغني بما حققه والتمجيد به، لن يجد في ذاكرة شعبه حيزا للذكر، إن تسبب في عرقلة سير العلم ومحاربة الرقي! وقديما أنشد شاعر ناعيا بغداد في حقبة من حقبها السوداء:
بغداد يا بغداد يا بلد الرشيد
ذبحوك يا أختاه من حبل الوريد
*
جعلوك يا أختاه أرخص سلعة
باعوك يا بغداد في سوق العبيد
*
ويل لبغداد الرشيد وأهلها
فهولاكو في بغداد يولد من جديد
*
زهدوا بدجلة والفرات وعرضهم
باعوك في الحانات بالثمن الزهيد
هذا واقع حال، أراه اليوم في شوارع بغداد ودجلتها وسمائها، واقع ألمسه كل يوم على واجهات بناياتها وفي حدائقها، واقع أعيشه كل لحظة وأنا أعايش أهلها، فقد أضحوا كشمعة، حصتها من النار اللسع والذوبان، فيما حصة النور تذهب الى خفافيش الظلام خلسة، تحت جنح ليل مدلهم طال مكوثه عند العراقيين، ونأى الصبح عنهم، بما لايدع للأمل فسحة يعللون بها أنفسهم، فضاقت وضاق عيشهم فيها.
***
علي علي