أقلام حرة
محمد سعد: العرب لا يقرأون التاريخ
من يمحو البقع الحمراء، من يمحو من ذاكرة التاريخ دماء أطفال ونساء غزة، ستنتهي الحرب، ولكن تذكرنا سيدة مصرية يهودية عجوز، في مدينة حيفا، الكل بيروح بالغسيل،
في كتاب "الرسائل" المتبادلة بين الشاعر الفلسطيني محمود درويش وسميح القاسم، يكتب سميح الى محمود كيف انه كان واقفاً في شارع في حيفا مع الشاعر"جورج خليل"، عندما انفجرت مشادة كلامية بين (يهودي وعربي)، فصاح اليهودي" انصرف من هنا ايها العربي القذر".غضب سميح وهدد و لكن عجوزاً يهودية مصرية الأصل كانت مارة بسلة خضار من السوق سألته عن السبب، فقال لها سميح القاسم:
" هذا الحيوان يشتم الفتى بعربي قذر".
وضعت يدها العجوز على كتف سميح بحنان وقالت:
"ماذا قال له..؟ عربي قذر..!!" اسف يا ابني كله بيروح بالغسيل". انفجر بالضحك وأطفات العجوز سحابة الغيظ....!
كل شيء يروح بالغسيل: نعم الوطن والانتخابات والهوية والذاكرة والمجازر، والثروة والسلطة والحرية والمستقبل. ستفرغ الشوارع قريباً من الصور والشعارات ومن التوقعات، وتبدأ لغة التبرير واعادة تزوير التاريخ الحاضر، عن حقبة وبحر من الدماء العربية في سنوات الضعف والهوان العربي ..!!
فنحن لا نمتلك حتى مميزات وذاكرة غسالة ملابس تتوقف عند البقع الوسخة، ولا نتوقف عند منعطفات التاريخ، ولا نقرأ أحداث اليوم الماضي، ولا نعرف ماذا سيحدث في الربع ساعة القادمه.
الم يقل موشي ديان وزير الدفاع يومها عندما طلب عام 1967 خطة حرب مثل عام 1956 فقالوا له:
" ان العرب يعرفون هذه الخطة"
أجاب ضاحكاً:
" العرب لا يقرأون التاريخ".
كل شيء يروح بالغسيل، الشعارات والبرامج، والمؤتمرات عن المستقبل، في وطن لا احد فيه يفهم أحداً، والمثقف كما يسمى صار ضارب زار ورمل وقارئ فنجان في قضايا مصيرية حاسمة تتعلق بالحياة والموت، المثقف أصبح مفلس يتحدث عن الماضي .. مع ان مفهوم المثقف يعني منتج معرفة جديدة ومخلخل السكون العام بلغة جديدة ومشروع تمرد وأفق مستقبلي بلا مصلحة ولا ولاء لغير الحقيقة وطارح أسئلة أكثر من أجوبة جاهزة، فكم من" المثقفين" ينطبق عليهم هذا التوصيف..؟هناك نسيان عجيب لكل ما هو جوهري ويصنع الحياة أو يدمرها من أحداث، وفي المقابل هناك ذاكرة جهنمية تحفظ لسنوات بأدق التفاصيل الشخصية والفردية للناس وخصوصياتهم كما لو ان الفرد صار يؤرشف كسلطة...في زمن الأنظمة السابقة كان يقال ان الدكتاتورية أغلقت النوافذ على الجميع، فماذا تفعلون الان والنوافذ مفتوحة ..!!
الخوف يشل طاقة التفكير والتوقع والعمل والمتعة.
لكن ما الذي يمنعنا اليوم من التفكير..؟
وجميع سبل المعلومات أصبحت متوفرة ..!!في زمن الخمسينيات حتي الثمانينيات كان الإبداع العربي من القوة الناعمة من الثقافة والفن والأدب والسينما يلعب دوراً كبيراً
في المعرفة ماذا قدم كتاب وأدباء هذا الجيل جميعا اذا جصرت أعمالهم وكتبهم لا تقارن بمقدمة كتاب طه حسين في كتاب المعذبون في الأرض..، ؟!
كل مصاعد العمارات تمتلك خطة طوارئ في حالة العطل في ظروف غير مناسبة، كل سفن العالم تمتلك اليوم خططاً بديلة في حال وقوع أحداث مباغتة، المنازل مزودة بابواب طوارئ عند الحريق،
الكلاب والقطط في الغرب تحمل اسماءً وارقام هواتف عند الفقدان، على علب السجاير والكبريت تعليمات عن الاستعمال والمخاطر واماكن الرمي، هناك برنامج مكتوب على ورق التواليت عن نوع المادة والاستعمال والرمي، في حين ان حكومتنا وأحزابنا بلا خطة عمل ولا برنامج عن المستقبل؟
كنا مشغولين بصخب الانتخابات..وقبلها بجنون ارتفاع الأسعار والصراعات في العالم، لكننا اليوم في ذهول، فماذا نفعل في لحظات الحرب ؟ نلعن الحياة..؟ أم نلعب باللغة للخروج الأمن من هذا الصراع؟!
***
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث مصري متخصص في علم الجغرافيا السياسية ..