كتابات
ماجد الغرباوي: خرافة الانتماء الطائفي
لم يشهد التاريخ كذبة مدوية كـ "الانتماء الطائفي". كذبة استغلها رجلا الدين والسياسة، فكانت وقود الصراعات على طول التاريخ، حتى راح ضحيتها اعداد غفيرة من الناس الطيبين والبسطاء، بعد ان تمزقت شعوب كانت متماسكة لولا هذه الآفة البغيضة.
لا مشكلة ان ننتمي لطائفة معينة، نعتز بانتمائنا لها، ونفتخر بتاريخها ورموزها، ونتمسك بمذهبها العقائدي والفقهي، خاصة وان الدين بعد وفاة الرسول تشظى الى طوائف وفرق ومذاهب، كل له مبادئه وآراؤه، ومتبنياته العقائدية والفكرية، وانما المشكلة في وعينا لهذا الانتماء، عندما نعتقد اننا على حق مطلق وغيرنا على باطل مطلق، يحق لنا نبذه وتكفيره، وجواز قتله، باعتباره من اهل النار، مرتدا او منحرفا او مشركا او كافرا. لا يشاركنا في الحقيقة ولا بجزئها.
واعني بـ "الانتماء الطائفي"، شعور الفرد بالانتماء لطائفة بعينها على أساس أحقيتها، وامتلاكها الحقيقة دون غيرها، حتى تصبح الطائفة المقوّم الاساس لهويته، بل ان البعض لا يرى في هويته سوى انتمائه الطائفي، ويرى نفسه في اتحاد وتماهي كامل معها. من هنا راح كل من رجل الدين والسياسة يوظّف "الانتماء الطائفي" باتجاهين: داخلي، لتعميق الأواصر وخلق روح من التماسك والانسجام. وخارجي، للتحريض ضد الاخر الخصم والعدو. وبالتالي فالطائفي هو حطب معركة رجل الدين والسياسة وهو الخاسر الوحيد من خلال حجم التضحيات، التي تتناسب مع حجم ايمانه بثوابت ومقولات طائفته.
ويمتاز "الانتماء الطائفي" عن غيره من النوازع ببعده العقائدي، الفكري، الديني، وقدرته على تعبئة وتجييش المشاعر الفردية والجماعية، وهذا لا يتحقق حتى بالنسبة للانتماء القومي الا نادرا. فالشعور الطائفي أقوى وأقدر على استنهاض الهمم الدفاعية والقتالية. فقد يتنازل الانسان عن جزء من وطنه او يتراخى في الدفاع عنه، لكنه لا يتكاسل في الذب عن طائفته، والدفاع عن معتقداته، مهما كانت واهية وبسيطة.
و"الانتماء الطائفي" في مخاضه فكرة بسيطة ثم تتضخم بفعل تراكم التهويل والأوهام، وعادة يلجأ له المتصارعون سياسيا، للمحافظة على كيانهم السياسي، ثم يأخذ طابعا فكريا – عقائديا تُرسخ جذوره دينيا بمرور الزمن، حتى يتحول "الانتماء الطائفي" الى منظومة قيم ومفاهيم عقائدية – فكرية. ويبدأ التأسيس العقائدي من الرأس، من القائد والرجل الأول فتُنسج حوله حكايات وقصص، تمنحه بعدا اسطوريا، وتضفي على سلوكه شرعية مطلقة، وتصبح تحركاته (نجاحاته وانكساراته) مقدّرة في عالم الغيب. ثم بمرور الزمن يتواصل التراكم (معجزات، كرامات، مظلوميات، خوارق للطبيعة، علم بالغيب، عدالة مثالية، مناصب الهية ...)، فيغدو كل ذلك حقائق مطلقة ومقدسة، ترسم معالم هوية الانتماء الطائفي، وبالتالي عندما تتفحص اي انتماء طائفي تجده مليئا باساطير ترسخت بمرور الزمن فغدت حقائق في اذهان معتنقيها، فيستحيل التشكيك بها، بل وتصبح هي المعالم الحقيقية لهذه الطائفة او تلك. وتارة تصل الهشاشة في تلك المرتكزات العقائدية الى درجة ان اي مقاربة تاريخية تطيح بكل مقوماتها، لهذا يتفادى خطباء الطائفة ومتكلموها اي مقاربة خاصة ضمن المناهج العلمية في قراءة التاريخ والحوادث التاريخية.
والغريب رغم تناقض الافكار والمعتقدات بين الطوائف (السنة والشيعة) او (الكاثوليك والارذودكس) مثلا، الا ان كل طائفة تعتقد انها على حق مطلق، والاخر باطل مطلق، وكل طائفة تعتقد هي الفرقة الناجية يوم القيامة، والاخر مخّلد في النار. دون الالتفات الى حجم الأوهام والاكاذيب في منظومة القيم والمعتقدات. والمشكلة الحقيقية عندما تدفع تلك الأوهام باتجاه التنابذ والكراهية والاحتراب.
ان وعي الحقيقة بحاجة الى قدرات عقلية وجرأة تتحدى الممنوع والمقدس، وتتوغل في اعماق الفكرة والمعتقد بعد مقاربات تاريخية جادة، حينذاك سيكتشف الفرد حجم الوهم والأساطير في مساحة واسعة من معتقداته، وهذا كان اول خطوة على طريق التصالح بين الكاثوليك والارذودكس. لكن ما زال السيف يقطع وتين المخالف بين طوائف المسلمين بعد تكفيره، وهي مأساة ترتبط بالوعي والنوازع السيئة لرجل الدين ومن ثم رجل السياسة. ان الحقيقة التي يعتقد كل منتم ٍ لطائفته بانها حكرا عليه، لا وجود لها الا في ذهنه، وستتهاوى تلك الحقيقة عند اول اختباري نقدي. ليس هناك حقائق مطلقة، انما هي اوهامنا نضفي عليها ما يشبع حاجتنا للفكرة والمعتقد، خاصة تلك الافكار التي تعالج يأسنا واخفاقاتنا، وتمنحنا أملا كبيرا ولو مؤجلا. انها قراءات ووجهات نظر وتلفيقات تغدو حقائق ومقدسات.
وتبقى المشكلة اليوم عندما تجد نفسك محشورا في زاوية الطائفية خارج عن ارادتك، وعندما تجد نفسك مصنفا على هذه الطائفة او تلك وانت لا حول لك ولا قوة، ولا تستطيع الدفاع عن نفسك واستقلاليتك. وهو موقف صعب. ان الشعور بالاستقلالية يتناسب عكسيا مع عمق الانتماء الطائفي، حيث يصبح الفرد مسلوب الارادة، اداة بين رجل الدين والسياسة، يتوجس من مخالفتهما ما دام الامر مرتبطا بهويته وطائفته. انه يراها مسالة مصير، بين الحياة والموت، فهو مستعد لكل شي لاجلها، وهذا ما يريده رجلا الدين والسياسة ان ينقاد الشخص من حيث لا يشعر وفاء لمبادئه وقيمه، لذا تجدهما يعزفان على مخيال الشعب، ويناشدان مشاعره واحاسيسه دون ايقاظ عقله ووعيه.
لا عتب على الانسان العادي حينما يندفع ضمن العقل الجمعي، او ينساق لا اراديا تحت وطأة المخيال الشعبي، لكن ماذا نقول عندما نشاهد مثقفا او مفكرا يرفع راية الانتماء الطائفي، ويحشد لتعميقه؟ ألا يشعر بحجم المأساة، وحجم تداعيات الصدام الطائفي، وما يترتب عليه؟ فمتى نفيق؟؟؟
***
ماجد الغرباوي – باحث بالفكر الديني
1 – 9 – 2014م