كتابات
ماجد الغرباوي: الحاكمية الالهية .. تهافت الشعار
مفهوم الحاكمية من المفاهيم الزئبقية المغرية، تستهوي الانسان الثوري، وتنطلي بسهولة عليه، ويمكن توظيفه لخدمة اغراض شخصية واخرى سياسية
كان اول مرة طرح فيها مفهوم الحاكمية الالهية1 في حرب صفين، عندما طالب الخوارج الامام علي بالاستجابة لمبادرة معاوية، وهتفوا: (لاحكم الا لله)، (الحكم لله وليس لك يا علي)، في اشارة الى المصاحف التي رفعها جيش معاوية على الرماح. وقد استجاب الامام علي لنداء التحكيم لكنه وصف دعواهم بأنها: (كلمة حق يراد بها باطل)2. وبالفعل فان مفهوم الحاكمية من المفاهيم الزئبقية المغرية، تستهوي الانسان الثوري، وتنطلي بسهولة عليه، ويمكن توظيفه لخدمة اغراض شخصية واخرى سياسية. فالمفهوم يوحي بدلالات واسعة، تجعل الانسان المؤمن يضحي حينما يتعامل مع المفهوم بسذاجة عالية، وقد استقطب في حرب صفين عددا كبيرا من الخوارج ممن طالبوا الامام بوقف القتال والتفاوض مع معاوية، لكنه لم ينطل على العقول اليقظة، لانه مفهوم ملتبس في حدوده وتفصيلاته، فلا ينبغي الانسياق مع ايحاءاته العاطفية. يقول احد الباحثين: (وعمليا فان كلمة الحاكمية الالهية كانت وراء استغلال الدهاة وضلال السذج، فقد استغلها ادهى الدهاة عمرو بن العاص عندما رفع المصاحف على اسنة الرماح ليعلي باطل معاوية على حق علي. وانخدع بها الخوارج فخذلوا عليا وهو اتقى الاتقياء، ومكنوا معاوية من الانتصار بحجة لا حكم الا لله... حكمت الرجال في دين الله)3.
ابو الاعلى المودودي والتأسيس
اعاد ابو الاعلى المودودي طرح مفهوم الحاكمية الالهية ثانية في العصر الحديث، واعتبره جزءا من نظريته السياسية حول الدولة الاسلامية. وهنا ملخص عن نظريته كما جاء في كتيب: (منهاج الانقلاب الاسلامي):
1- ليس لفرد او اسرة او طبقة او حزب او لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية، فان الحاكم الحقيقي هو الله، والسلطة الحقيقية مختصة لذاته تعالى وحده، والذين من دونه في هذه المعمورة انما هم رعايا في سلطانه العظيم.
2- ليس لاحد من دون الله شيء من امر التشريع والمسلمون جميعا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا يستطيعون ان يشرعوا قانونا ولا يقدرون ان يغيروا شيئا مما شرع الله لهم.
3- ان الدولة الاسلامية لا يؤسس بنيانها الا على ذلك القانون المشروع الذي أتى به النبي من عند ربه مهما تغيرت الظروف والاحوال. والحكومات التي بيدها زمام هذه الدولة لا تستحق طاعة الناس الا من حيث انها تحكم بما انزل الله وتنفذ امره تعالى في خلقه.
من هنا يتضح لنا ان الدولة الاسلامية لا تعد ديمقراطية بالمعنى الشائع لانها لا تجعل ارادة الشعب هي اصل التشريع، ولكنها حكومة الهية (ثيوقراطية Theocracy) مع اختلاف جذري في المدلول الاوربي للكلمة، لان الحكومة الاسلامية لا تعرف طبقة السدنة (رجال الدين) الذين يتولون وحدهم في الدولة الثيوقراطية، بالمفهوم الاوربي، التقنين او التفسير طبقا للشريعة الالهية. ومن هنا فان الثيوقراطية الاسلامية يمكن ان تكون ( ثيو – ديمقراطية) Theo democracy او الحكومة الالهية الجمهورية. وذلك لانها خولت للمسلمين حاكمية (او سيادة) شعبية محدودةA limited popular sovereignty تحت سلطة الله القاهرة. ولا تتألف السلطة التنفيذية الا بآراء المسلمين. وبيدهم يكون عزلهم من منصبها وكذلك جميع الشؤون التي لا يوجد عنها في الشريعة حكم صريح لا يقطع بشيء الا باجماع المسلمين.
وكلما مست الحاجة الى ايضاح قانون او شرح نص من نصوص الشرع لا يقوم بيانه طبقة او اسرة مخصوصة وحدها بل يتولى شرحه وبيانه كل من بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين.
من هذه الوجوه يعد الحكم الاسلامي ديمقراطيا الا انه – كما تقدم ذكره من قبل – اذا وجد نص من نصوص الكتاب والسنة في شأن من الشؤون فليس لاحد من امراء المسلمين او مجتهد او عالم من علمائهم ولا للمجلس التشريعي بل ولا لجميع المسلمين في العالم ان يصلحوا او يغيروا منه كلمة واحدة، من هذه الجهة يصح اطلاق كلمة الثيوقراطية4.
وانما اقتبسنا النص بطوله لانه يلخص فكرة المودودي عن الحاكمية الالهية كاملة.
سيد قطب والحاكمية الالهية
ثم جاء سيد قطب واخذ فكرة الحاكمية الالهية وجاهلية المجتمع عن المودودي وصاغهما باسلوبه الادبي المعروف، مشحونة هذه المرة بدلالات اكثر ثورية. وقدم قطب فكرة الحاكمية على مستويين: نقدي وبنائي. (الجانب النقدي يرى ان العالم الاسلامي المعاصر عالم جاهلية وطاغوت، وان انظمة الحكم في العالم الاسلامي صارت جزءا منه. والجانب البنائي يقول بضرورة اقامة الدولة الاسلامية التي تطبق الشريعة، لاعادة المشروعية الى مجتمعات المسلمين ودولهم)5.
ويعتبر كتاب معالم في الطريق مستودعا لكلا النظريتين اللتين نجد جذورهما مبثوثة ايضا في تفسيره: "في ظلال القرآن". (وقد اصبح معالم في الطريق هو الذي يلهم كل المجموعات الرافضة. ومع ان المضامين الثلاثة التي قام عليها الا وهي: الحاكمية الالهية والعبودية لله والجاهلية ليست جديدة تماما، فقد قالها المودودي من قبل الا ان الجديد هو حسن تقديمه وصياغته والبرهنة عليها. لا بأدلة منطقية او علمية فهذا ما يستبعد في مثل هذا الكتاب، ولكن بنصوص اعطيت بريقا ليس لها ... واصبح الكتاب وثيقة ملتهبة)6. ويضيف: (اذن كان سيد قطب قد بعث افكار المودودي، ومن ثم فلا تعد جديدة، فان الجديد الذي يمكن ان ينسب اليه هو تصوره للجهاد، وانه لم يكن للدفاع كما يذهب الى ذلك المنهزمون كما ارتأى. وانما هو اداة الاسلام لحمل رسالته وتوصيلها للعالم اجمع، وهو التصور الذي ادى لظهور جماعة الجهاد، واثر اثرا كبيرا على فهم هيئات اسلامية لمضمون الجهاد وكان للاسف الشديد مضمونا يشطح بالجهاد بعيدا عن حقيقته ويحمله ما لا يحمله، بل ونقيض ما يحمل)7.
والنظرة المنصفة، ان سيد قطب لم يقتصر على النقل والاقتباس عن المودودي وانما اعطى للمفهومين ابعادا ثورية جديدة، واعاد صياغتهما وتسويقهما بشكل الهب مشاعر الحركات الاسلامية، ووضعها على مفترق طرق مع الانظمة والمجتمعات الاسلامية. اذ بات المفهوم يعني نزع أي مظهر من مظاهر السلطة لغير الله تعالى حتى على مستوى المشاعر والاحاسيس ولم يقتصر على السياسة والحكم. يقول قطب: (ان الناس عبيد الله، ولا يكونون عبيدا لله وحده الا ان ترتفع راية لا اله الا الله. لا اله الا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته، لا حاكمية الا الله، ولا شريعة الا من الله، ولا سلطان لاحد على احد، لان السلطان كله لله)8. ويضيف: (كانوا يعرفون – أي العرب- أن الألوهية تعني الحاكمية العليا، وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله سبحانه بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، وردّه كله إلى الله، السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة، والسلطان في المال، والسلطان في القضاء،والسلطان في الأرواح والأبدان)9. اذن لم يقتصر قطب في بيان مفهوم الحاكمية على ابعاده المعرفية وانما نجح في صياغة خطاب تحريضي ارتكز اليه التطرف الديني في ممارسته للعنف باسم الجهاد وباسم الحاكمية الالهية، يقول: (كانوا يعلمون – أي العرب- أنلا إله إلا اللهثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله، ولم يكن يغيب عن العرب، وهم يعرفون لغتهم جيداً ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة،لا اله إلا الله، ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياستهم وسلطانهم، ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة- أو هذه الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها هذه الحرب التي يعرفها الخاص والعام)10.
وبايجاز، فان لازم مفهوم الحاكمية عند المودودي وسيد قطب رفض حاكمية البشر وضرورة الثورة عليهم (لذلك خرجت الجماعات الدينية على النظم القائمة كما فعلت الخوارج من قبل)11. بل (وينتج عن فكرة الحاكمية، تكفير النظام القائم، وتكفير الحاكم والخروج عله، وجواز قتله، واغتنام اموال الدولة، ومحاربة الجيش والبوليس، واعتبار الخدمة فيهما كفرا. فلا طاعة الا لامام، ويجب عصيان امارى الكفر والسفه والجاهلية. تؤدي فكرة الحاكمية اذن الى تقويض شرعية النظام القائم)12.
نقد مفهوم الحاكمية الالهية
يمكن تسجيل عدة ملاحظات اساسية على مفهوم الحاكمية الالهية عند سيد قطب، اهمها:
اولا - لا دليل على ارادة الحاكمية الالهية من قوله تعالى لا اله الا الله. اذ الواضح من كلمة (لا اله الا الله) انها بصدد تنزيه الخالق وتأكيد وحدانيته ونفي الشرك عنه. ومسألة الالوهية واثبات وحدانية الله تعالى تختلف موضوعا ومفهوما عن مسألة الحكم. فدعوى سيد قطب تبقى مجرد تأويل ووجهة نظر خاصة به. غير ان الاسلوب الادبي للكاتب قد اجج مشاعر اعضاء الحركات الاسلامية، الى درجة اصبح المعنى الجديد مسلمات ونهائيات لا تقهر.
ثانيا- ان مفهوم الالوهية واضح في دلالاته بينما مفهوم الحاكمية ما زال مبهما، غير واضح كما هو المفهوم الاول، فكيف يكون المبهم شعارا للمسلمين جميعا، على اختلاف مستوياتهم العلمية والثقافية؟.
ثالثا – لو كانت الحاكمية مرادفة لمفهوم الالوهية، لحظيت بنفس القدر من التوضيح والاهتمام في القرآن الكريم. بل اكثر من ذلك ان مصطلح الحاكمية غير موجود قرآنيا، وانما هو مفهوم اشتقاقي او تلفيقي ان صح التعبير، مشتق وملفق من عدة مفاهيم اخرى، اجتهد في اعادة صياغتها المودودي ومن بعد سيد قطب.
رابعا – اذا كان المراد من مفهوم الحاكمية الحكومة والحكم فهي من القضايا التي لم يتفق عليها عموم المسلمين، فمنهم من ذهب الى وجود نظام سياسي اسلامي ومنهم من نفى ذلك، وقبل ذلك اختلفوا في النظرية السياسية. والقائلون بوجود نظام سياسي في الاسلام لم يتوفروا على تفصيلات كافية في الموضوع وانما اختلف المجتهدون والمنظرون فيها. فيكف يكون المختلف فيه رديفا للواضح البين كالالوهية؟.
خامسا- اعتبر سيد قطب الحاكمية مصداقا لعبودية العبد، ولا يكون العبد عبدا حقيقيا لله تعالى الا باقرار الحاكمية الالهية، يقول (ان الناس عبيد الله، ولا يكونون عبيدا لله وحده الا ان ترتفع راية لا اله الا الله. لا اله الا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته، لا حاكمية الا الله، ولا شريعة الا من الله، ولا سلطان لاحد على احد، لان السلطان كله لله)، وهذا النوع من الفهم لم تؤكده الوثائق التاريخية ولا المفاهيم العقدية التي بين ايدينا. وليس لدينا نص واحد يؤكد ان النبي (ص) كان يطالب الناس باقرار الحاكمية الالهية كشرط لاسلامهم، وانما كان يقول لهم قولوا لا اله الا الله، واشهدوا ان لا اله الا الله واني رسول الله. وبالفعل كان يتحقق اسلام الفرد ويصان عرضه وماله ودمه بشهادة ان لا اله الا الله محمدا رسول الله وكفى. ولم يطلب الرسول من أي مسلم التخلي عن ولائه لاهله وعشيرته او التمرد على الاعراف والقوانين الا ما تعارض مع العقيدة الاسلامية وثوابت الشريعة.
سادسا – الخطاب الذي اعتمده سيد قطب في بيانه لمفهوم الحاكمية الالهية خطاب تحريضي، يقول كما تقدم: (كانوا يعلمون – أي العرب- أن لا إله إلا الله ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله، ولم يكن يغيب عن العرب، وهم يعرفون لغتهم جيداً ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة، لا اله إلا الله، ماذا تعني هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياستهم وسلطانهم، ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة- أو هذه الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها هذه الحرب التي يعرفها الخاص والعام).
فسيد قطب صريح في ادانة الحكومات القائمة، لأنها حسب رأيه بلا استثناء حكومات معتدية، غاصبة، لحقوق الحاكمية الالهية، يجب الثورة عليها لاسترداد ذلك الحق ولو بالقوة والعنف. وهذا اللون من الخطاب يؤسس للعنف وشرعية العمل المسلح ضد كل انظمة الحكم، سيما وقد اعتبر قطب الجهاد والعمل المسلح مبدأ اساسيا لتحقيق اهداف الدين في اقامة دولة اسلامية. كما ان النص المتقدم لا يخفي الاهداف السياسية من التنظير للحاكمية الالهية، والعمل على تحقيق تلك الاهداف بممارسة العنف والجهاد واعلان الثورة. من هنا يتضح حجم المفاهيم الثورية المتولدة عن هذا اللون من مفهوم الحاكمية، وهو حزمة كبيرة من مشاعر ثورية لم ترتكز على اسس نظرية متينة، وانما مفاهيم براقة مواربة لا تثبت على معنى محدد، وتمتلك مرونة كبيرة يمكن توظيفها لاي هدف وباي اسلوب، وهذا احد الاسباب الاساسية في تفاقم العنف على يد الحركات الاسلامية المتطرفة.
***
ماجد الغرباوي - كاتب وباحث
....................
1 - بحث مستل من كتاب: تحديات العنف، ماجد الغرباوي، 2009م، دار العارف، بيروت – لبنان، والحضارية للابحاث، بغداد – العراق، ص 280- 290.
2- نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة رقم: 40.
3- جمال البنا، الاسلام دين وامة وليس دينا ودولة، القاهرة، دار الفكر الاسلامي، ص 279
4- النص مقتبس عن: جمال البنا، مصدر سابق، ص 267-268.
5- السيد، رضوان، الاسلام المعاصر والليبرالية، مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العدد: 24-25، 2003 - 1424 ، ص 176.
6- جمال البنا، مصدر سابق، ص 277.
7- المصدر نفسه، ص 281.
8- قطب، سيد، معالم في الطريق، بيروت، دار الشروق، 1399هـ - 1979م، ص 24. ويرى الدكتور حسن حنفي ان كتاب معالم في الطريق ليس مؤلفا ذا بناء محكم وانما هو (مجرد تأملات تعبر عن عذاب
9- المصدر نفسه، ص 22.
10- المصدر نفسه، ص 22.
11- حنفي، د. حسن، الحركات الدينية المعاصرة، الكتاب الخامس ضمن موسوعة الدين والدولة في مصر 1952-1981، القاهرة، مكتبة مدبولي، ص 127.
12- حنفي، د. حسن، الاصولية الاسلامية، القاهرة، مكتبة مدبولي، ص 114.