كتابات
ماجد الغرباوي: دعوة لانقاذ الدين من سطوة الفقهاء
ثمة أزمة حادة تواجه الشريعة الاسلامية، بل تواجه الدين بأسره، لا تنفع معها تبريرات الفقهاء ومكابراتهم.. أزمة حقيقية، تضغط باتجاه مراجعة نقدية تطال الفكر الديني، وفق قراءة معاصرة تواكب مسار الحضارة، وتُعيد النظر في ثوابت الشريعة، بعيدا عن سلطة التراث والسلف والتراكمات التأويلية التي تكرّس اللامعقول وتحرّض باستمرار ضد الآخر، حتى صار الدين إما يدفع باتجاه العنف والارهاب، او يستقطب باتجاه الخرافة والسحر والشعوذة وجلد الذات، وتصديق هلوسات وأكاذيب بعض رجال الدين، وتقديس الماضي والتراث، وأسطرة الشخصيات التاريخية، واستبدال العبادة بطقوس فلكلورية، انقلبت معها مفاهيم الخير والعمل الصالح، وبات الارهاب دينا، والخداع دينا، والتبست المفاهيم حد الاحتراب فضلا عن الكراهية والتنابذ والاقتتال.
ان مسؤولية التجديد ستخرج من يد الفقهاء، اذا تمادوا في تكاسلهم ولا مبالاتهم تجاه ما يجري. لقد صار الدين مع جمودهم وتخلّف الدعاة شبحا يطارد احلامنا، وباتت شعارات تطبيق الشريعة والاسلام هو الحل والحاكمية الالهية وولاية الفقيه تستفزنا، خاصة مع تمادي بعض الحركات الاسلامية في تطرفها، وارتكابها مجازر يندى لها جبين الانسانية. بل نَسَفَ سلوكهم أغلب ما كتبه المفكرون الاسلاميون عن الاسلام وحضارته ومستقبله في بناء الدولة والمجتمع، وسفّه جميع احلامهم، بل كذّب جميع التأويلات التي اعتادها الكاتب الاسلامي في تبريره لأحكام الاسلام وتشريعاته ونظمه، لكثير من القضايا كـ: المرأة والرق ونظرته للآخر، مما حدا بنا العودة لمراجعة أصل التشريع، واستدعاء ذلك السؤال الخطير، الذي نهرب من مواجهته دائما: (هل الخطأ في التشريع أم في التطبيق؟ أم الخطأ في تعميم الأحكام واطلاقاتها؟).
للامس القريب كنا نردد ما تردده الحركات الاسلامية وجميع الدعاة المخلصين، حينما نواجه اي خطأ سلوكي: (ان الخطأ في التطبيق)، حتى راحت بعض المذاهب والفرق الاسلامية تعوّل على ظهور (المهدي المنتظر)، لتعذر تطبيقها من قبلنا. ولا ادري ما فائدة تشريعات ودين لا يمكن تطبيقه من قبلنا، حتى يظهر المهدي ويرعى تطبيقه بنفسه!! .. وماذا نفعل اذا لم يظهر او تأجل ظهوره آلاف أخرى من السنين؟ ثم ماذا يريد ان يقدّم المهدي من حلول اسطورية لهذه المشكلة؟ هل سيُشرّع لنا أحكاما جديدة؟ وهذا مستحيل، لتعذّر التشريع بعد الوحي. أم سيوظّف عقله وفقاهته؟، اذاً فلماذا لا نوظّف نحن عقولنا بدلا من انتظاره؟. لا ادري هل نعي شيئا من سلوكنا ام نخدع انفسنا ونحسب اننا على حق وغيرنا على باطل!!!. لا اخفيكم، أجد هروبا في فكرة الانتظار، بل اجد فيها إدانة لنا من حيث لا نشعر، والفقهاء قادرون على فقه الشريعة وتقديم قراءة اخرى للدين. فأرى من الأفضل مقاربة المشكلة في بعدها التشريعي، مع مراجعة مكثّفة لآرائنا وفتاوانا، وفق رؤية علمية، واقعية، ترتكز لمنطق القرآن الكريم في اطار مقاصد الشريعة وغاياتها، سنكتشف حينئذٍ حجم الهوّة بين التشريع والواقع.
لقد ارهقنا التوجيه والتأويل، وصار لا هَمَّ لنا الا تبرير ما جاء في الشريعة من أحكام صدرت قبل اكثر من 1400 عام لواقع آخر. فمن اوصلنا لهذه الحالة؟ وهل كان بالامكان تداركها قبل ان تتحول الى عبء يثقل كاهلنا؟
نعم كان بالامكان تداركها لو كان هناك فقهاء يعون الشريعة وغاياتها ومقاصدها، ويدركون دور الزمان والمكان في تشريع الأحكام، ويستطيعون اكتشاف منطق القرآن ومنهجه في تقنينها، ويفهمون طبيعة المجتمع قبل وبعد تشريعها. لكنهم للاسف الشديد لا يدركون مقاصد الشريعة ولا يفهمون غاياتها. سواء تغيّر الواقع أم لم يتغير، ولا يعرفون شي عن فلسفة التشريع سوى التعبّد حرفيا بما جاء من نصوص، وما قاله السلف. فالمرأة هي المرأة، والمجتمع هو المجتمع. والفقيه لا يفهم الا فعلية الأحكام وصلاحيتها (اطلاقا) لكل زمان ومكان، وعلينا الانصياع لفتاواه من دون اي اعتراض.
نحن لا نشكك في صلاح الشريعة الا من حيث فعلية أحكامها، في ضوء مبادئهم الاصولية، لتغيّرالأحكام بتغير موضوعاتها كما هو مقرر عندهم، وقد تغيرت فعلا بفضل التطور الحضاري (فكرا وثقافة ووعيا ومسؤولية) فلماذا الجمود؟ ولماذا الاصرار؟ متى تأخذهم الغيرة على دين الله؟ ومن المسؤول عن تردي واقع المسلمين وضياعهم؟ ومن يتحمل مسؤولية الانكفاء والرِدّة المفجعة في صفوف الشباب؟ ولماذا يبقى المسلم في موقع الدفاع، يبحث عن اعذار وتبريرات، وفي الدين من السعة والرحمة ما يمكنه البقاء ملتزما بدينه، مسالما في سلوكه، يفتخر بانتمائه. بينما الان يقف حائرا مرعوبا حينما تواجهه سهام الريبة والشك. ويقف مدهوشا بين نظرتين، نظرة الغرب للانسان بما هو انسان، ذكرا او انثى، بلا كراهية ولا بغضاء ولا تمييز، وهو في تطور مستمر. ونظرة الفقهاء المحرّضة ضد الآخر، فغير المسلم في نظرهم كافر، مشرك، نجس، لا يحل طعامه، ولا تؤكل ذبيحته، يستحب النظر له بحنق وكراهية، لا يجوز معاشرته والاقتران به، بل يتمادى بعضهم فيعتبر نساءهم إماء، واموالهم غنائم. وارضهم ارض كفر يجوز لك فيها ما لا يجوز في ارض الاسلام، مهما كان الحاكم المسلم، طاغية، فاجرا، جلادا، مستبدا، دكتاتورا.
يجب ان نمزق جدار الصمت، ونقول الحقيقة، باسلوب علمي منطقي استدلالي، يحافظ على قيم الدين ومبادئة، في اطار مقاصد الشريعة وغاياتها، ونعلن صراحة حاجة الأحكام الى اعادة نظر للتأكد من فعليتها واطلاقها (الازماني والاحوالي) المفترض من قبل الفقهاء، وفقا للمتغيرات الزمانية والمكانية، كبعض العبادات، وغيرها من التشريعات كقضايا المرأة في الإرث والحقوق الشخصية، ومأساة قيمومة الرجل عليها مطلقا، والرق وعودته المخجلة على يد (داعش واخواتها). وايضا هناك أحكام الربا والتباس مفهومه الذي يُعيق حركة الاقتصاد (وقد تجاوزت ايران هذه المعضلة بعد ان ادركت ان مفهوم الربا الذي تتحدث عنه الآية غيره المعمول به في البنوك العالمية، وهي خطوة شجاعة تحسب لها، كما استبدلت العقوبات الجسدية بالسجن والغرامات لمّا عرفت ان المراد من القضاء هو استئصال الجريمة وليس الانتقام، واذا كان للسلف ظرفهم فلنا ظرفنا وضروراتنا).
ثم ماذا عن باقي الأحكام الولائية التي صدرت في ظل حروب مستعرة وعدوانية جاهلية مشهود لها تاريخيا لمعالجة واقع خارجي محدد ومؤقت، كحكم المرتد، وحكم المشرك والكافر، ووجوب قتالهم، واخذ الجزية؟ هل تبقى سارية المفعول يتخذها المتطرفون الاسلاميون ذريعة لتشويه سمعة الدين وسماحته؟ انها خطيئة الصحابة عندما تشبثوا بفعلية هذا النمط من الأحكام حتى استُغلت لمحاربة المسلمين كما بالنسبة لحروب الردة، وجاء من بعدهم فقهاء السلطان، تبريرا لسلوك السلاطين والخلفاء في التوسّع من اجل كسب الثروات واشغال المسلمين بما يتيح لهم التفرد والاستهتار بالسلطة.
لا شك ان اعادة النظر في فعلية كثير من الأحكام بات مسؤولية كل الفقهاء، للحفاظ على ما تبقى من الدين، وانتشاله من التخلف والتراجع الحضاري المروع، وعدم اعطاء ذريعة للجهلة والمتخلفين والمتزمتين يفعلون ما يشاؤون. ويجب معالجة كل هذه الأحكام وغيرها، لانها السبب وراء كثير من المآسي .. فما كان للمتطرفين الاسلاميين وغيرهم ارتكاب مثل هذه الافعال لولا وجود فتاوى فقهية تبرر لهم ذلك، بل تلزمهم، على اساس فعلية الأحكام الشرعية مطلقا، في كل زمان ومكان. فمتى نعي ونمزّق جدار الصمت ونقول الحقيقة علانية، ان الشريعة كانت لظرف غير ظرفنا ولزمان غير زماننا، ويجب ان يبقى من أحكامها ما يُلائم وضعنا وحاجاتنا، وارتباطنا بخالقنا، كالعبادات، لنكون أكثر تقوى وعفة، بفضل ايماننا بالغيب واليوم الآخر، ونكون أكثر إتزانا، نفسيا وخُلقيا، كي نؤسس لعلاقات اجتماعية تُعمّق اواصرنا الانسانية، ويسود العدل والسلام، باسم الدين وشريعة سيد المرسلين. اما غير ذلك ففعليته مشروطة بفعلية موضوعه، المتوقف اساسا على فعلية مقدماته وشروطه وقرائنه وكل شي يخصه كي يكون فعليا، وهذا لعَمري بات شُبه مستحيل بعد الف واربعمئة سنة تطور الانسان خلالها اجتماعيا وثقافيا وعقليا، وبات بفعل المراجعة والنقد المتواصل يراعي شرعة حقوق الانسان، ويتطلع لكمال انسانيته، فكيف يمكن للدين ان يمارس دوره في ضوء فهم مبتسر يزرع بذور الفتنة والاقتتال من خلال فرز حاد للانسان على اساس ايمانه واسلامه، فإما ان يكون مسلما او كافرا مشركا يجب استئصاله وقتله؟ ولماذا نأخذ بهذه الآيات ولا ناخذ بآيات اخرى تحث على التسامح والمحبة، وتخاطب الرسول "لست عليهم بمسيطر".
لا يمكن معالجة التطرف الاسلامي والتخلف الديني بمعزل عن مراجعة أحكام الشريعة وفعليتها، لتشبّث المتطرفين الاسلاميين بها، لانهم مؤمنون، متدينون، ملتزمون، يقصدون مرضاة الله بافعالهم الشنيعة جهلا وتخلفا. ولا يتحركون الا مع وجود حكم شرعي او فتوى فقهية، من هنا جاءت اهمية المراجعة والنقد، كي نجفف منابع التبرير الجهادي والسلوك المنحرف والمتخلف. لكن كيف نجفف منابع الارهاب وآيات الحرب والجهاد بنظر الفقهاء مطلقة صالحة لكل زمان ومكان؟. لقد قدمنا بانفسنا ذريعة للهجوم على القرآن الكريم وعلى ديننا الحنيف بسبب تخلفنا فقهيا. انهم يعتقدون ان آيات القتال تخاطبهم، وهم مأمورون بها، فهل حقا هم المخاطبون بها؟ لماذا يصمت الفقهاء ولا يقولون الحقيقة. هل انخرام قاعدة اصولية صنعوها بانفسهم أهم عند الفقهاء من دماء المسلمين وحيثياتهم؟
كل المحاولات لتجفيف منابع الارهاب الديني فاشلة، ما لم نَعُدْ لفقه الكتاب الكريم، كي نعي شروط فعلية آياته، ونعلن بصراحة بلا مواربة: (لا فعلية ولا اطلاق لآيات الحرب والجهاد، بعد انتفاء موضوعها). فهي آيات عالجت واقعا محددا في حينه وانتهى الأمر. بل بامكان الفقهاء الافتاء بحرمة التشبث بها لتبرير سلوكهم العدواني ضد الآخر، من باب المصلحة العامة وحقنا لدماء المسلمين.
المسؤولية الان بصراحة على عاتق الفقهاء كي يقولوا كلمتهم، او يطلقوا رصاصة الرحمة على ما تبقى من الدين. فلا يكفي الشجب الخجول، ما لم يُعلنوا قناعاتهم بلا مواربة. لكن الفقهاء للاسف الشديد اما مشغول بالافتاء لحركات التطرف، يشعل نار الفتن، ويبرر سفك الدماء باسم الدين، ويعمق مشاعرنا الخرافية، او جالس في بيته قديسا، تُقبّلُ الناس البسطاء يديه، لا يغادر القرن الأول، ولا يدري بما يدور حوله، ولا يتصدى لأي مسؤولية شرعية خارج اطار مسؤولياته الفقهية التقليدية، ويفرض على الاتقياء من المؤمنين دفع "حقوهم الشرعية من خمس وزكاة"، يفعل بها ما يشاء هو وحاشيته، مع انها مخصصة للفقراء والمساكين واصلاح شؤون المسلمين.
الغاء الشريعة أم فقه الشرعية؟
ثمة سؤال ترتعد له فرائص الفقيه: (هل يمكن الاستغناء عن بعض الأحكام القرآنية؟ وهل يمكن اعادة النظر في فعلية أحكام الشريعة التي صدرت لواقع ما قبل 1400 عام؟،).
لا نقول الغاء الشريعة، لكن نطالب بفقه الشريعة في ظل التحولات الزمانية والمكانية، والأخذ بنظر الاعتبار واقع المسلمين رجالا ونساء، وتقديم قراءة جديدة للدين. والفرق هائل بين الالغاء والفقه. الثاني لا يغادر الشريعة ومبادئ الدين من أجل رؤية متجددة في الفقه. وهذا ما ندعو له.
لا شك ان النفي سيكون جواب الفقيه بلا تردد، ما دام مكبّلا بتقليد السلف، وعدم مخالفة المشهور. ويشكو قصورا في وعي الشريعة ومقاصدها، ويلازمه خوف يفرض عليه الاحتياط في الفتوى بكل انواعها، من أجل براءة ذمته الشخصية، على خلاف مبادئ القرآن في السعة والرحمة. لكن ماذا عن الناس وما يواجهونه من احراجات؟ هذا لا يهمه. وماذا عن مصادرة سماحة الشريعة وسهولتها؟ هنا يصمت الفقيه، متعللا بقواعد اصولية صنعها بنفسه ثم جعلها سلطة عُليا توجه وعيه، وتتحكم بفتاواه، كالاحتياطين العقلي والشرعي، واستصحاب الحرمة وبقاء الأحكام كما هي، الى غير ذلك. والأغرب ان بعض الفقهاء يفتي خلاف قناعته الفقهية مراعاة للمشهور!!!.
اما لو عدنا لمنطق القرآن فسنجد متسعا كبيرا، خاصة والفرق واضح بين الدين والشريعة، والخلود قرآنيا للدين وليس للشريعة. قال تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب" (الشورى: 13).
لكن بخصوص الشريعة يقول تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ" (المائدة: 48).
فالدين ثابت، وهو الايمان بوحدانية الله عزوجل وملائكته وكتبه ورسله وعدم التفريق بينهم، كما جاء في الآية الكريمة: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" (البقرة: 285).
والفرق ان الشريعة تقصد مصلحة الانسان، وقد أقر الفقهاء ان الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، وتتناسب معها طرديا، فترتفع درجة الالزام كلما كانت المصلحة اقوى، والعكس صحيح بالنسبة للحرمة عندما تكون هناك مفسدة. وليست المصالح والمفاسد مطلقة في كل الازمان والاحوال، وانما نسبية، تختلف تبعا لمصالح الفرد والمجتمع. وهذه القاعدة اذا لم تنطبق على جميع الأحكام فانها بلاريب تنطبق على ما يخص التشريعات الشخصية والاجتماعية، كالأحكام الخاصة بالمرأة، او الرق. ناهيك عن الأحكام الولائية والقضايا الخارجية.
كما ان وجود شريعة لكل حقبة زمنية أقرب للعدل والانصاف، وهما مبدآن قرآنيان صريحان، تدور حولهما كثير من الآيات القرآنية.
وعندما ندعو لذلك، نؤكد، ان عملية ترقية الأحكام اضافة الى كونها تراعي المصالح، عملية منضبطة وفقا للمنطق القرآني. فنراه يكرّس السعة والرحمة علة، عندما يستبدل شريعة باخرى او حكما بآخر، كي لا تتحوّل الأحكام الى إصر وغل يعيق حياة الناس، رغم انها لم تكن كذلك عند تشريعها (لانه خلاف العدل والانصاف وخلاف رحمة الله ورأفته بالناس بل فيه ظلم عظيم لهم). وهذا ما تؤكده الآية اذ تقول: (الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون). ﴿الاعراف: 157) ..
اذاً نستفيد من الآية امكانية التخلي عن الحكم عندما يتحول الى غل يكبل حركة الفرد والمجتمع. وهذا منطق قرآني سليم، فلماذا لا نهتدي به في فقه الاحكام الشرعية راهنا؟.
ثم بما ان تطور الشرائع سُنة الهية ثابتة، فمجتمعنا أولى بتشريعات تناسب أفقه الجديد (وعيا ودورا ومسؤولية). ولا سبيل لذلك مع انقطاع الوحي، سوى فقه الشريعة في ضوء مقاصدها وغاياتها، والارتكاز الى العقل، والاستفادة من معطيات العلوم الحديثة، وتجارب الأمم، ومراعاة مصالح الناس، والنظر الى المستقبل، والكف عن استفتاء الموتى في واقع لم يعيشوه، واستحضار الماضي والتراث في معالجة مشاكلنا وحاجاتنا. وهذا مبرر عقلائي آخر وفق منطق القرآن الكريم، الذي يتطلع لخير الانسان، ويتحرى اليسر ووضع الاغلال عنهم. وينبغي ان نتذكر دائما لو كانت الشرائع صالحة لكل زمان ومكان لخلدتها الكتب السماوية، لكنها ركزت على الاديان ومبادئها وقيمها وتاريخها ومسارها، واهملت ما يتعلق بالتشريعات، لهدف لا يخطأه الوعي، والعقل المتوقد، فمتى يعي الفقهاء مسؤولياتهم؟؟.
والأهم، يمكن مقاربة الموضوع اصوليا، حيث ان فعلية اي حكم تتوقف على فعلية موضوعه المتوقف اساسا على فعلية جميع شروطه وقرائنه ومقدماته. وعندما نقارن موضوعات الأحكام نجد واقعا مباينا، وامرأة مختلفة وشخصا مغايرا. فالانسان لا يقاس بجسده، والحكم لا ينصب عليه بما هو كائن بشري، والا ما الفرق بين شخص وآخر، حينما نصف الأول مؤمنا، والآخر كافرا او مشركا ونرتب عليهما حكما شرعيا؟ أليس بما يحملانه من أفكار وعقائد ومواقف ومسؤوليات؟ .. فالأحكام لا تقصد المرأة ككائن بشري، وانما تقصدها وعيا وثقافة ودورا ومسؤولية وواقعا اجتماعيا، ولا شك ان المرأة بهذا الفهم هي غيرها في زمن التشريع. فاذا كان اخضاع المرأة للرجل ضمن ضوابط في ذلك الزمان تحريرا لها من واقع أسوء يصادر حيثيتها وكرامتها وانسانيتها، فانه اليوم يُعد عبودية وامتهانا، بعد ان اثبتت جدارتها في كل مناحي الحياة، بل بات الرجل رغم مكابرته يعتمد على عقلها وتدبيرها. فالنظرة الدونية لها باتت ادانة للدين والتراث وسيرة السلف الصالح. فالمرأة ما عادت متخلفة، ولا عورة، بل غدت تنافس الرجل على جميع المستويات، وتتقدم عليه في حبها للأمن والسلام ورفض العنف، واستهجان السلوك الخشن.
المشكلة الأساس، ان الفقهاء يعتقدون ان الأحكام شُرعت دفعة واحدة، ولم تُشرع لمعالجة واقع معين. بينما الحقيقة ان الأحكام في غير العبادات جاءت لمعالجة واقع كان يعيشه الفرد والمجتمع آنذاك، وجميعها من هذه الزاوية تعتبر آنئذٍ قفزات انسانية وحضارية قياسا بما سبقها. فالمرأة التي حكم الشرع لها في ضوء دورها ومكانتها بنصف الإرث مثلا كانت قبل التشريع لا تتقاضى شيئا، بل كانت كمية مهملة في خدمة الرجل ووعاء لشهوته وشبقه، فنصف الارث في وقتها يتناسب مع دورها ومسؤولياتها، اما اليوم فالامر مختلف. وكذلك بالنسبة للرق وأحكامه قياسا لما كانوا يعانونه على يد اسيادهم قبل التشريع، وايضا كثير من الأحكام الأخرى كالقصاص والحدود. لكن اليوم بعد مرور 1400 عام صار ينطبق على بعض الأحكام صفة الغل والإصر، كما ان بعضها الآخر لا موضوع له كي يكون فعليا.
والأهم سيكتشف الفقهاء عند مراجعة اطلاقات الاحكام عدم فعلية جملة منها، وانما ذكرت قرآنيا كتاريخ من سيرة النبي الكريم وما واجهه، وليس المقصود تشريعا ملزما للمسلمين بعده.
ولو اعاد الفقهاء النظر في الجهاد وموضوعه لاكتشفوا ان موضوعه الدين والرسالة، التي انتصرت بصريح القرآن: (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا)، وقوله تعالى: (اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا). (وقد كتبت عن هذا الموضوع تفصيلا في كتابي: تحديات العنف). بل كل الحروب بعد النبي الكريم لا يصدق عليها جهادا، وانما صراعات سياسية وتوسع بقرارات شخصية، يتحمل وزرها اصحابها. فلا فعلية اذا لآيات الجهاد لعدم فعلية موضوعه وانتفاء شرطه، اي الحرابة المُفضية لفناء الدين وانهيار الرسالة. والدفاع عن النفس والعرض والقيم والمبادئ والاوطان واجب على الجميع ولا يحتاج الى تحريض ديني، فلا تضللنا سيرة الخلفاء والسلاطين في ايجاد مبررات شرعية لكل حروبهم وغزواتهم من اجل تجنيد الطيبين من الناس وزجهم في معاركهم وفتوحاتهم، لانها حروب شخصية وسياسية. من هنا ينبغي للفقه الحذر في تعامله مع سيرة غير النبي الاكرم، إذ لا حجة شرعا الا لسيرته المتعلقة بالقرآن وأحكامه، حيث قال تعالى "ما آتاكم الرسول فخذوه".
نأمل ان يكون سلوك المتطرفين الاسلاميين والريبة التي تدور حول أحكام الاسلام دافعا لمراجعة مبادئهم ومتبنياتهم الاصولية والفقهية لتدارك الامر قبل فوات الآوان، ولانهم مسؤولون امام الله عزوجل: "فقفوهم انهم مسؤولون". ولا مسؤولية كمسؤولية الفتوى، فالفقيه اما ان يكون مجتهدا لا مقلدا لمن سبقه او يستقيل. وسنبقى بانتظار فقيه يقدم لنا قراءة جديدة للدين وآيات الأحكام، تفقه الكتاب والسيرة النبوية ضمن شرطهما التاريخي. قراءة شجاعة تاخذ بنظر الاعتبار فلسفة التشريع وتاريخ الأحكام، كي نلحق بركب الحضارة وننفض عنا غبار التخلف، كل ذلك في اطار مقاصد الشريعة وغاياتها، بعد تأسيس منهج جديد لتوثيق الروايات، ووضع قواعد اصولية تحقق اكبر قدر من اليسر والانفتاح.
وسيبقى حلال محمد حلالا الى يوم القيامة، وحرامه حراما الى يوم القيامة (كما يريدون) لاننا لا نبغي إلغاء اي حكم، وانما تنتفي الأحكام بانتفاء موضوعاتها تلقائيا، وما علينا الا التأكد من فعلية تلك الموضوعات.
واقصد بالقضايا المحرمة ما ثبت منه صريحا في القرآن، والا فان المحرمات اتخذت مسارا تصاعديا مع فتاوى الفقهاء، بينما هي قرآنيا محدودة، وواضحة، حيث يقول تعالى بالنسبة لحرمة بعض الاطعمة: (قل لاّ أجد في ما أوحي إليّ محرّما على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دما مّسفوحا أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ أو فسقا أهلّ لغير اللّه به فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فإنّ ربّك غفورٌ رّحيمٌ) ﴿الانعام: 145).
وردا على من يقول: (أحكام الله لا تقاس بالعقل)، اقول: "لا فقه لاحكام الله الا بالعقل". ولولا العقل لما كلفنا الله بالامانة، ولولاه لما تحملنا مشقة المسؤولية. وليَعلم الفقهاء ان زمن الاصغاء ولى، ومع تطور العلوم المرتبطة بالنص صار بالامكان فقه ومعرفة مقاصده، اذاً، ليتداركوا الامر قبل فوات الآوان. والله المستعان.
***
ماجد الغرباوي - كاتب وباحث
15 – 10 – 2014م