بأقلامهم (حول منجزه)
حسن البصام: قراءة في كتاب "مقتضيات الحكمة في التشريع" للباحث ماجد الغرباوي
ضمن حفريات واجتهادات المفكر والباحث الاستاذ ماجد الغرباوي صدر كتاب (مقتضيات الحكمة في التشريع.. نحو منهج جديد لتشريع الاحكام).. عن مؤسسة المثقف - دار امل الجديدة / سوريا.2024م.. وهي ضمن بحوثه الحرة اسماها " متاهات الحقيقة" ينقب في ركائز الثوابت في التفكير والمعتقدات.
وقد نوه الباحث الى ان مشاريع التجديد تهدف الى رقي الفقه نحو مستوى الواقع، ويسعى لارتقاء الاسئلة الفقهية الى مستوى التطورالحضاري والمعرفي.. كلما تطور المجتمع علميا كلما كان بحاجة الى اجابة تتناسب مع حجم هذا التطور لمسايرة تعاملاته اليومية، خاصة المادية منها التي ارتقى التطور بها الى الحد الذي وجب ايجاد وسائل تعامل جديدة باتت تشكل تداولا يوميا ونمطا مسايرا لوجود الانسان، فلا بد من وجود " منهجا جديدا لملء الفراغ التشريعي" خاصة مايتعلق بالتعاملات المالية في البنوك والمصارف وزراعة الاعضاء البشرية او التبرع بها او الذكاء الصناعي وتطور الجينات وغيرها.
كما هو معلوم ان الفقه ظهر لسد الفراغ الموجود بعد الرسول الكريم، بظهور المذاهب الفقهية التي اعتمدت الخلاف في التفسير منهجا مستقلا لكل معتقد، وهو سد فراغ لتجدد حالات بتجدد الظروف الاجتماعية والعلمية التي تستوجب تاسيس ميزان فقهي لكفتي الحلال والحرام.. التطور متسارع والموقف الاخلاقي والعقائدي يبحث عن الطمأنينة في التطبيق، لابد من ارتقاء الفكر الفقهي الى مستوى هذا التطور؛ وهو شغل الباحث الغرباوي في هذا الكتاب.. الذي شغله اختلاف الفقهاء هو " قيمة العقل وما هي حدوده وهل هو مصدر من مصادر التشريع ام لا ؟" الغرباوي يبحث عن العقل الحر غير المكبل باطرافكار رجال الدين الجاهزة التي لا تواكب التطورات التي اشرنا اليها..يقول الباحث" ينبغي اعادة النظر بالفقه ودوره التشريعي،فليست ثمة قداسة لاي منجز بشري،وليس سوى (منهج مقتضيات الحكمة في التشريع) الذي نقترحه،منهجا صالحا لملء الفراغ التشريعي". هو باتجاه التوسع في الاستنباط او القياس مجاراة للتطور. وهي من تطبيقات الكتاب او السنة.
ان التفقه ليس حصرا على احد، ولم تمنح الخصوصية الى علماء او اشخاص بعينهم، وهو ليس ترفا او استخفافا،انه علم من علوم الحديث والكلام والمعتقد يهدف الى التطبيق الصحيح للكتاب والسنة المطهرة، ومثلما كان مجتمعا منغلقا محددا متشابها لاخلاف في التطبيقات انذاك لوضوح الافعال والاسباب...فان التطور المذهل بشريا وعلميا ينبغي ان يسايره بذات القوة فقه يرتقي بالمألوف الى مستوى المستجد.وهذا الكتاب هو امتداد فكري لما سبقه من اصدارات متعددة للباحث في حرية الفكر والمعتقد وتحريك الثابت منها لمسايرة العصر ومنجزاته.
تناول في الفصل الاول منه " اشكاليات التعارض بين الشريعة والاخلاق " وهذا من الفصول المهمة لما تحدثه الاحكام المتطرفة في خلق فقه عدواني يهدف الى تدمير الانسان وتحطيمه خاصة احكام الجهاد والرق والمراة والحدود والقصاص وغيرها من المنظومات الاخلاقية والسلوكية والعملية التي لها صلة بمنهج استنباط الاحكام الشرعية.
وحسب مااشار اليه الباحث ان البحث يهدف الى " تحري حقيقة التعارض بين الشريعة والاخلاق" وكذلك الى نقد مرجعيات التفكير الديني. والى تحري الوعي من تراكمات التراث والعقل التراثي في فهم النص. وكذلك يهدف الى تاسيس منهج جديد لملء الفراغ التشريعي.
وتناول في الفصل الثاني " فرضية مقتضيات الحكمة في التشريع" او ما أسماها بـ "عقلنة التشريع " يتحرى فيه " صدقية التعارض بين الاحكام والاخلاق" الذي ياخذ بنظر الاعتبار "محورية الانسان ومصالحه".
وهو يطرح فرضية مفادها " ليست الاحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا،بل ان تشريعها يجري وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في افق الواقع وضروراته "
ومنطلقات فرضية الحكمة في راي الباحث هي: "انتفاء البعد الميتافيزيقي للاحكام..وكذلك لاتحول قداسة النص /الحكم الشرعي دون مقاربته وفهمه،مادام مفهوم القداسة يتعدد بتعدد زوايا النظر.وكذلك تفاوت مستوى الالزام في الاحكام الشرعية بين الوجوب والاستحباب او بين الحرمة والكراهية مثلا ليست مسالة تعبدية،بل محكومة لمبادئ وقيم تحدد مستواه."
وفي الفصل الثالث تناول" الفراغ التشريعي ومتطلبات الواقع" والذي يقصد به" كل حكم لم يرد فيه نص صريح في مقامه،او تلك المساحة التشريعية التي ترك الاسلام ملأها للدولة او أولي الأمر في اطار اهداف الشريعة".
بينما في الفصل الرابع تناول "الاسس الاخلاقية للتشريع" التي تبحث في مركزية العدل وعدم الظلم باعتبارهما قيمة اخلاقية.والسعة والرحمة..وهي الانتقال من العسر الى اليسروالتحرر من التشريعات السابقةوكذلك المساواة في الاوامر العبادية والتشريع الا ما يتعارض مع القيم الاخلاقية.. وكذلك مراعاة الواقع باعتباره منهجا من مناهج الحكمة وهو موضوع الحكم. اي حين يتغير الواقع يتغير الحكم..يقول الباحث: " لذلك يفشل كل فقيه لايراعي شروط الواقع وحاجات الانسان، وهذا احد اسباب فتاوى العنف والارهاب والكراهية ".
وفي الفصل الخامس تناول المؤلف "التشريع وفق مقتضيات الحكمة" يقول الباحث" التشريع اذن متاح للخبراء والمتخصصين وفقا لمقتضيات الحكمة، يتقدمهم الانبياء،وهم اولى ولاريب بترتب الاثار المعنوية والمادية وهي تتصدى لتنظيم مناحي الحياة ".
وفي الفصل السادس تناول" الفقيه وسلطة النص" قائلا " ليس من السهل تعطيل او تعليق اي حكم شرعي في مجتمع مرتهن لقداسة الدين، اضافة لرمزيته التي تبعث الرهبة والوجل في نفس الفقيه قبل غيره فتجده يتشبث بالاحتياط ولو على حساب الانسان والمجتمع"
وتناول في الفصل السابع " حاكمية الدليل الاخلاقي" يقول" ان استنباط الحكم الشرعي ليست بريئة ولا حيادية، وتتاثر بمرجعيات الفقيه وقبلياته وثقافته وعقيدته، وبأدلته ومقدماته ومنهجيته في استنباط الحكم واصدار الفتوى ".
وقد اشار الى وجود اسباب عديدة عجز الفقه عن مواكبة التطورات الحضارية في مجال حقوق الانسان والقضاء وغيرها منها : ارتكاز الفقيه الى قيم العبودية في فهم الدين وتهميش الاخلاق.
وتطرق الى العديد من الرؤى ووجهات النظر الفقهية في بقية الفصول التي شارفت على الفصل الثاني عشر، حيث اوصلنا الى يقين عبر صفحات الكتاب المتكون من 422 صفحة، انه لم يكن الفكر التنويري الذي نهجه الباحث ماجد الغرباوي وليد اليوم..انه مرتكز على اصرار وتحدي لتحرير العقل من عبودية التبعية وظهرت نتائجه البحثية عبر العديد من الكتب التي حركت الساكن والراكد من خلال تحريكه عتبات يظن الاخرون انها مقدسة....انه يسعى باتجاه تنوير العقل العربي، كما فعله الفلاسفة والكتاب العرب والغربيين من خلال تحديهم للفكرالمتخلف التبعي السائد انذاك، حتى انهم لاقوا التسقيط او التصفية او المحاربة انه ينقل العقل العربي من تقديس لاواعي الى تحرير بما بتناسب مع التطور البشري والعلمي والاجتماعي من خلال مناقشة التراث والتراكم المعرفي الممتد عبر قرون الذي لم يجرأ انذاك على المساس به او تحريك عجلته بعصا التغيير، فهو يعتمد ومن خلال هذا الكتاب المهم الى مناقشة الفقه الديني مستندا الى الكتاب والسنة والفكر الحر وتراكم الثقافة والمعرفة، ليرتقي بالفكر الديني بموازاة التغيرات المجتمعية والسلوكية التي طرات على الانسان والمجتمع، وهو يسعى الى ان يعيش الانسان بطمأنينة وعدالة ورقي عبر اشباع حاجاته اليومية المتغيرة مع التطور بعيدا عن التسقيط او التهديد او الاعتقاد بغضب الله وعقابه.
***
د. حسن البصام