بأقلامهم (حول منجزه)
جبّاَر ماجد البهادليَ: ماجدُ الغّرباويّ أديبَاً وكاتِبَاً مُفكِّراً..
قِراءةٌ نقديَّةٌ في تجلِّياتِ نُصوصهِ الأدبيَّة
تَقديمُ الذاتِ الأدبيَّةِ: حين يتناهى إلى أسماعنا في الوسط الثقافي العربي عامَةً والعراقي على وجه الخصوص ذِكرُ اسم ماجد الغرباوي، الباحث والمُفكِّر الإسلامي، نستحضر بجلاءٍ وإجلالٍ وتقديرٍ تلك الشخصية العراقيَّة النضالية الثقافية ذات الفكر الديني التنويري والوعي التَّحرُّري الإسلامي المعتدل، وصاحبة المشروع السياسي الفكري التضادي المناهض لديستوبيا الظلم والاستبداد. هذه القامة الشاخصيَّة الواثبة التي هَجَرَتْ بلدها العراق عُنوةً إلى أستراليا إبَّانَ حكم نظام البعث العراقي البائد الأسبق، وفيها أسسَ الغرباوي مثابته الإعلامية الأولى وضالته صحيفة (المُثقَّف). وبذلك يعدُّ ماجد الغرباوي رُبَّان مؤسسة المثقف الإعلامي وسادنها الرُّوحي والفكري، وحارسها الأوحد الأمين بمدينة سدني.
ولكنَّ الذي لا بُدَّ من الإضاءة إلية - تنويهاً وتعريفاً - والذي لا يعرفه الكثيرُ من الكُتَّاب والقُرَّاء ومحبِّي ومتابعي وجمهور ومتلقِّي صحيفة المثقَّف الغرَّاء، ويعرفه ثلةٌ قليلةُ من الأصدقاء والمقرَّبين من أنَّ ماجدَ الغرباوي، فضلاً عن كونه عُرِفَ كاتباً إسلامياً تنويرياً متخصِّصاً طوَّع نفسه الأمَّارة بهذا الشأن. هو في الحقيقة المغيَّبة يعدُّ أديباً ومفكِّراً جاداً وشاعراً نصوصياً مرهفَ الحسِّ، وذا قلبٍ نابضٍ بالجمال الرُّوحي ومفعمٍ بالأحاسيس الشاعرية الجيَّاشة، والمشاعر الإنسانية الشفيفة الفيَّاضة.
حتَّى تجده في أدبياته يكتب قصيدة النثر الشعرية الحديثة ذات النصوص الشعرية التأملية المتعدِّدة الثيم والوحدات الموضوعية الفكرية والجمالية، والمعبِّرة بصدقٍ وجلاءٍ عن نوازع فلسفته الذاتية النفسية، والكاشفة لتجارب أناه الشاعرية الفردية مع وقائع محيطه الجمعي الخارجي المائر بالأسى. والتي هي في واقع الأمر مناط رغبته في تأثيث أثير مجساته الشعرية، وبثِّ صور مرآته الفكرية في إنتاج وتصدير التقاطاته العينية لرهان عقابيل الواقع العراقي في مختلف تعدُّد الأُطر (السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والفكري، والثقافي) المتهالك فلسفياً ووضعياً وإنسانياً.
وماجدُ الغرباوي الإنسان والأديب يستمع في نثريات شعره - بتأمُّلٍ وصبرٍ - إلى صوت ذاته العقلية الداخلية المتداعية، فتحوِّلهُ مخايله الذهنية الشاعرية إلى دفقاتٍ شعوريةٍ ووحداتِ حدثٍ موضوعيةٍ شعريةٍ تلامس في واقعيتها نياط القلب، وتجذب إليه في مسامعها نظر المتلقِّي الواعي بتجلٍّ واضحٍ.
فَمثلُ هذا التحوِّل الثقافي المتراتب وعياً وفلسفةً وسلوكاً كان تصميمه المعماري المُهَندَسُ على أساس مستوى التجنيس الشعري لقصيدة النثر الحداثوية.أمَّا على مستوى التجنيس السردي في فنيَّة الكتابة النثرية، فقد مالَ الغرباويّ في كتاباته الإبداعية إلى النصوص النثرية التسريدية القريبة في مثاباتها الفكرية وثيمها الموضوعية وقواعدها وأحكامها واشتراطاتها ومتبنياتها الأدبية السردية من إشكاليات القصة القصيرة. وذلك كونها تجمع في خطِّ بنائها التركيبي الفنِّي بين جدليَّة التخاطر الشعوري الفكري المُسترسَلِ البوحِ نَصيَّاً، والبناءِ القصصي الحكائي المتوالد الأفكار والحكايات.
ومن مُسلَّمات النقدية المهمَّة في السَّرديات أنَّ الحدث السردي بتعاظم صراعاته وعقده، يعدُّ من أهمِّ عناصر فنِّ السرد القصصي الذي هو أصعب فنون السرد، فلو كانت تقانات وآليات الحدث السردي القصصي متكاملةً ومبنيةً بناءً فنياً مُنتظماً ومُحكماً وفق قواعد مسار السردية المعروفة التي هي بالضرورة إدراك عناصر القصة القصيرة الأساسية مثل، (التكثيف، والقصر، والاقتصاد اللُّغوي، والإيحاء، والترميز الفنِّي الحكائي، والأحداث الحاسمة المتَّصلة في صراعها الممتد بصلب الحكاية، وعنصر الإثارة والتشويق في حِبكتها، والهِزة الصادمة في كسر توقُّع مألوف خاتمتها).
وعلى وفق ذلكَ، وفضلاً عن هذا الإلزام كلِّه أنَّ القصة موجَّهة بشخوصها للقارئ الذي يمتلك تجارب معرفية مُسبقة بها. حتَّى إنَّ الرجل الغرباوي قد جمع إنتاج نصوصه الشعرية المُنثالة ووضعها بملفٍّ خاصٍ بعد نشرها فُرادى في الصحف، وأطلق عليه عنواناَ باسم، (نصوصٌ أدبيةٌ) كعتبة عنوانية خارجية رئيسة من عتبات النصِّ الموازية التي أكِّدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت.
ولم يَقُلْ الغرباويً عنها تحديداً نصوصَاً شعريةً أو نصوصاً قصصيَّةً. كونه يُدركُ جيداً مالها ويعي ما عليها من أحكامٍ وضوابطَ فنيةٍ وجماليةٍ وموضوعيةٍ خاصةً بها لابدَّ من أخذ الاعتبار بها إبداعياً وفنياً في عملية التخليق الإنتاجي للمتلقِّي النوعي وغير النوعي البسيط. وترك مهمة الأمر في تدوينها ومعاينتها لذي الشأن من النقَّاد والباحثين، من هم أصحاب الاختصاص والرأي النقدي.
والحقيقة أنَّ نصوص ماجد الغرباوي، هي نصوص أدبية فكرية ناضجة موضوعياً وفلسفياً، وفي غاية الأهمية الفكرية والجمالية؛ كونها تحمل أبعاداً إنسانية تأملية وصوراً تنويرية، وإضاءاتٍ اجتماعية وثقافية ودينية وسياسية واقتصادية في جوهر مضامينها ورؤاها وتقاطعاتها ومدخلاتها ومخرجاتها، وتناصاتها الموضوعية، ولا سِيَّما تلك التاريخية والتراثية والدينية والرمزية والأدبية. وذلك، لأنَّها ناتجة عن أبعاد فلسفته الشخصية، وظلال أفياء مشروعه الفكري التنويري الوارف.
ومثل هذه المزايا والخصال الفنيَّة والأدبيَّة تشي بأنَّ الغرباوي في توصيفه الثقافي يُعدُّ صاحب مشروع فكري إسلامي ديني، ونهج ثقافي أدبي تنويري إبستمولوجي معرفي تحرُّري تأصيلي في يوتوبيا طروحات مدينته الفكرية والأدبية الفاضلة، وفي نهج تقاطعها المتضاد مع ديستوبيا الفوضى وانساق الاستبداد والانحراف القمعي والتضليل المعرفي والفكري الآخر الذي يُمارس صوب وعي المُثقف شَرعنةً وقانوناً وفلسفةً من قبل سلطة الاستبداد السياسي المهيمن على الوجود الزمكاني.
إنَّ الذي يميِّز إنتاجيَّة ماجد الغرباوي في إسلوبيته الأدبيَّة، سواءٌ أكانت شعريةً أمْ نثريةً سرديَّةً، هو رصانة تفوّق لغته الأدبية العالية المكينة، وجماليات حُسن اختياره لمفرداته وألفاظه الدلالية، ودقة انتقائه لعباراته الإنشائية، وجُمَلِهِ التركيبية المنتظمة حبكاً لغوياً، وسبكاً دلالياً، وتماسكاً نصيَّاً في آليات فنيَّة التعبير عن رؤى تشعيراته الشعورية وفلسفة تسريداته الأدبية المتتابعة نصيَّاً في تعدُّد وحداتها الموضوعية والفكرية والمعرفية.
وتحتاج نصوص الغرباوي برغم بساطتها التركيبية في الكثير من سياقاتها اللُّغوية والدلالية إلى متلقٍ مكينٍ واعٍ وقارئٍ فذٍّ حصيفٍ يسبر عمق أغوارها الدلالية، ويُدركُ فهم مكنوناتها ومعمياتها الخفيَّة، ويستجلي بوعي خبايا مكتنهاتها الفلسفية والجمالية المتراصَّة، ويكشف بأناةٍ جدل سياقاتها الثقافية القريبة والبعيدة. ورُبَّما تحتاج بعض نصوصه الشعرية والسردية إلى قراءة فاحصةٍ ووعي نافذ حصيف، وتمكين نقدي في سونار تحليلها وتأويلها الإجرائي، وتتطلب أيضاً فهماً وتفكيكاً لشفراتها اللغوية، وبيان مرموزاتها الخفية وموحياتها السيميائية والإشارية الأيقونية النصيَّة.
وكلُّ هذا التمايز الأسلوبي ناتج عن مقدرة الأديب الغرباوي وموهبته الفكرية وذائقته المعرفية واستعداده الفطري، وميله المعرفي المكتسب لثقافة التلقِّي القرائي، ولنظريات المعرفة الإنسانية في كلِّ أبحاثه ودراساته ونتاجاته، وفي بوصلة توجُّهه الآيدلوجي الذي انماز به فكرياً وثقافياً وإعلامياً.
فالمعرفة الابستمولوجية الدينية والسوسيو ثقافية هي أداة الغرباوي الفكرية التنظيرية والإجرائية التطبيقية، واللُّغة التوصيلية، هي وسيلته المرئية وغير المرئية الهادفة في إرسال وبعث محمولاته الصوتية والحركية والسمعية التعبيرية الراسخة في تصميم ورسم لوحاته الواقعية تجريداً وتجريباً.
ظِلَالُ المُدوَّنةِ الشِّعرِيَّةِ
لقد تضمَّنت مدونة ماجد الغرباوي (نصوصٌ أدبيةٌ) ثمانية عشر نصَّاً إبداعياً، منها (7) نصوصٍ شعريَّةً، و (11) نصَّاً سرديَّاً قصيَّاً، تمكَّنَ من خلالها الغرباوي أن يُصدِّرَ أفكاره لمتلقيه كَعتباتٍ فرعيةٍ داخليةٍ تمزجُ في ثناياها الموضوعية بين رؤية فنِّ المحسوس البصري المرئي، ورؤيا المدروس المخيالي اللَّامرئي الفكري الذي يتماهى فيه مع وقائع الأحداث والتمظهرات الوجودية التي فرضت نفسها على خطى ذائقة أسلوبيته الأدبية في كسر جدر الواقع المرتهن وتحطيمه فنياً. ولعلَّ أولِ هذه النصوص الشعرية التي نستحضرها نقدياً في قراءتنا نصَّه الشعري (تَسمَّرَ الضوءُ) :
شَاهِقَاً كَانَ المَدَى
يَتَوَسَّدُ نَاِصيَةَ السَّمَاءِ
غَارِقَاً فِي هَذَيَانَاتِهِ
يَتَصَفَّحُ جُرْحَاً
تَقَرَّحَتْ زَفَرَاتُهُ العَاتِيَةُ
(نُصوصٌ أدبيةٌ، ص14)
هذه الدفقة الشعورية هي المقطع الأول الذي افتتح به الغرباوي قصيدته ذات المقاطع الخمسة الدالة لغويَّاً على مضمون عتبتها الفنيَّة المؤنسنة انزياحياً. فالغرباوي يمنح بميله اللُّغوي فضاءه الزمكاني (المدى) صورةً حاليةً مكانيةً دالةً على صفات الرفعة والسمو والتطاول والثبات والرسوخ العالي. وفي الوقت ذاته يؤنسنه بصورة نومٍ حركيةٍ آدميةٍ إنسانيَّةٍ أخرى تتوسَّد أعالي السماء. ثُمَّ يضفي عليه صورةً صوتيةً سمعيةً تظهر أضغاث هذياناته الحُلمية العميقة، وكأنَّ ضوءَه المُنساب إنسانٌ ينظر مُتأمِّلاً إلى عمق جراحاته وصور كلومه التي تقرَّحت دماً بزفراته النفسية العاتية.
ويتواصل ماجد الغرباوي مُفتتحاً انثيالات المقطع الثاني من القصيدة ذاتها بعبارةٍ تساؤليةٍ ذهنيةٍ عن أثر الذهول الذي انتاب شجرة الغواية، تلك الرمزية التي تَأسرُ نسغ الأرواح بعطرها المنبعث من أزهارها الرقيقة وروعة سحرها العابق. وقد ترك للقارئ النابه، أو المتلقي الناقد مسافةً فراغية لسطرين متتاليين كتتماتٍ إحاليةٍ فكرية؛ لمعرفة أو لتذكُّر قصة الشجرة الرمزية المعروفة. ليبني تراكيب جمله الانزياحية بذلك السراب البعيد الذي كأنه حلم ارتدى متاهاتٍ بعيدةً:
أيُّ ذُهولٍ يَنتَابُ شَجَرَةَ الغُوَايَةِ... ؟
سَرَابَاً اِرتَدَى
حُلُمَ المَتَاهَاتِ القَصِيَّةِ
وَرَاحَ يَتلُو سُورَةَ المِاءِ
وَشَيئَاً مِنْ آيَاتِ الحُطَامِ
يَستَعِيدُ بَقَايَا مُوبِقَاتٍ وَثَرثَرَاتٍ
(نصوصٌ أدبيةٌ، ص 14)
ما هذا السراب المائي الذي استوى فيضه حُلُماً في أرض المسافات المستوية القصيَّة! والذي يظنُّه الظمآن سوراً من ماءٍ خير، أو يحسبهُ بعضاً من آيات العذاب والحطام التي تذكِّره بموبقات المهالك وثرثرة الهذيانات. وكأنِّي بالغرباوي استمدَّ مضامين هذه الدفقة الشعورية وألفاظها القرآنية من نصِّ الآية (39) من (سورة النور) في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعمَالُهُم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحسُبُهُ الظَّمآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَ لَمْ يَجِدْهُ شَيئَاً وَوَجَدَ اللهُ عِندَهُ فَوَفَاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ). ويتواصل الغرباوي مع مقاطع القصيدة الأخرى معتمداً على تناصاته التاريخية الدينية والتراثية.
والمتأمِّل بعيداً في نصوص ماجد الغرباوي الشعرية سيقرأ - حقَّاً - أنَّ الغرباوي في هوسه الروحي الجمالي الصوفي مُتعلقٌ جدَّاً بموجودات الطبيعة الكونية الثابتة منها والمتحركة. فـ (الريحُ والماءُ والمطرُ والنارُ والشجرُ والبحرُ والصخرُ والأرضُ والسماءُ والشمسُ والبرقُ والنيازكُ والضوءُ واللَّيلُ والصبحُ والزنابقُ والعصافيرُ والمَها والسَّنا)، جميعها ألفاظ مثابات لتمظهرات تلك الطبيعة التي وظَّفها الغرباوي توظيفاً تأمليَّاً روحيَّاً صادقاً متماهياً ومتحاكياً معها في ثنايا نصوص قصائده:
تَعَالَتْ صَفِيرَاً
سَنَا البَرقِ لَونُهَا
تَسَرْبَلَتْ نَارَاً حَمِئَةً
تَتَهَادَى
تَهِبُ اللَّيلَ حِلكَة
شَوْهَاءُ تَلتَهِمُ الرَّدَى...
شَاحِبٌ صَدَى أَنِينِهَا
يَتَنَاسَلُ دَمًا يَلْتَهِمُ البَرَاءَةَ
(نصوصٌ أدبيةٌ، ص 19)
مثلما كان لعناصر الطبيعة المتحركة أثر نفسي كبير عند ماجد الغرباوي، فإنَّ لدلالة (الريح) في قصيدته (تبتكرُني الريحُ) الدالة على وقع معانيها الكونية صدىً نفسياً محكياً بالغ الأثر وعظيم التأثر. وكأن لسان حال الغرباوي يلهج بساعة البعث أو الحساب أو العذاب بالنار في يوم القيامة الموعود. فـ (الصَّفيرُ، والبرقُ، والنارُ، والحِلكةُ، والرَّدى، والشُّحوبُ، والأنينُ)، تمظهرات لونية وصوتية وحركية صورية وألفاظ مرعبةٌ دالتها الإشارية اللغوية وعلامتها الأيقونية على مظاهر الخوف.
فما هذه الريح التي تُطلق صفيراً مُرعباً، وتصدرُ ضوءاً مُخيفاً، وتَتسربل ناراً من طين حمئةٍ، وتُحيل اللَّيل الأليلَ سواداً مظلماً حالكاً؟ وما هذه الريح الشوهاء التي تَلتهمُ الموت كالنار الهشيم التهاماً؟ هذه الصورة الصوتية واللَّونيَّة المُرعبة لدالة الريح التي رسمتها لوحة الشاعر التجريبية وانزاحت بها مخيلته الذهنية. وكأنَّ الريح التي وظَّفها الغرباوي في قصيدته، وجادت بها روحه الوجلة الخاشعة بريح صرصر عاتية، (وَأمَّا عَادٌ فَأُهْلِكٌوا بِرِيحِ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)، (الحاقَّة، الآية: 6).
أما الصورة السمعية لهذه الدفقة المقطعية (شَاحبٌ صَدَى أنينِها)، فتكاد تكون مخيفة لهول وشدِّة أثرها الصوري الفعلي على النفس. فألفاظ مثل، (صفيراً، وبرقاً، وناراً، وحِلكَةً، وَرَدىً، وصدىً، وأنيناً، وتناسلاً)، ما هي إلا تردُّدات قرآنية مرعبة لعذابات نار جهنم التي وُعِدَ بها الكافرون في سور وآيات القرآن الكريم. وقد أخذت صداها التكويني الفاعل الكبير في بنائه الشعري الروحي.
ومثل هذا الإجراء التوظيفي (اللَّفظي والفعلي) الشعري المتوالي الذي سيطر على وعي ومشاعر الشاعر يدلِّلُ كلَّ التدليل على ثقافة الغرباوي الدينية الراسخة وتأثُّره بآيات وسور القرآن وتدبُره لمعانيها التي انعكست مرايا صداها الدينية على وقع جمله الشعرية التأمليَّة التي زخرت بها سطور هذه الدفقة الشعرية المُلتهبة.
أمَّا الأفعال الحالية: (تعالتْ، تسربلتْ، تتهادى، تهبُ، تلتهمُ، يتناسلُ، يلتهمُ) والدالة على المشاركة الفعلية للحدث الريحي قد أسهمت كثيراً في تصاعد حدَّة الصورة الهلعية لبوابات الريح المهلكة.
من أُتون الريح المهلكة ومشاهد عذاباتها إلى تجلِّيات العشق الروحي الصوفية وأجوائها الماتعة التي وهبها الغرباوي لِأُنثاه المرأة الرمز المعشوقة، فمنحها أجمل ما يحبُّ محبوبٌ من عناقيد العشق المتدلية الأصيلة لمعشوقته.حيث مشاعر الحبِّ والإحساس بعذوبة صوتها الطربي وشهقتها:
لَهَا...
تَتَدَلَّى عَطَايَاكِ
عَنَاقِيدُ عِشْقٍ مُعَتَّقٍ
يَأخُذُنِي إِلَى حَيثُ
صَوتُكِ حِينَمَا يَطرُبُنِي
يَا أَنْتِ كَمْ شَهقَةِ حُبُّ
تُؤَجِّجُ نَارَ الشَّوقِ
تَحرُقُنِي فَأَتُوقُ إِلَى رُؤيَاكِ
سُنْبُلَةً عَطشَى تُرَاودُهَا الأَحْلَامُ
فَتَرتَوِي ظَمَأً
(نصوص أدبية، ص 48)
من التقنيات الفنيِّة التي اعتمدها الغرباوي في مفتتح قصيدته (عناقيدُ عشقٍ) الدالة على محتواها الجمالي العشقي تقنية الحذف التنقيطي التي أهداها عناقيده المتدلية بالضمير (لها...)، أي لفلانة دون التصريح باسمها الشخصي، وفضَّلَ أنْ يترك ذلك للقارئ للتفكير بها، والاستمتاع بمن تكون هذه المعشوقة التي حَزَبَتْ نفسَه المستهامة بهذه الصور البيانية البليغة والجمل الإنشائية الصريحة. وقد زاد على ذلك جمالاً حين خاطبها بضمير المُخاطب المؤنث قائلاً: (يا أنتِ...)، فكأنَّه حدَّدها بالإشارة دون التعريض بعلميتها. أما نصوص المصفوفة الأخرى فكانت تسري بهذه الروح النقيَّة.
تجلِّياتُ المَدَوَّنَةُ السَّردِيَّةُ
والمتتبع لنصوص ماجد الغرباوي السردية سيقرأ أنَّ معظم نصوصه الأدبية القصصية القصيرة أو الطويلة إنْ لم أَقل جميعها يغلب عليها في أسلوبيتها الفنيَّة المزج بين الواقعي الحياتي اليومي، والمخيالي الأسطوري الذي يمنحها بلاغة الفنِّ القصصي وروح تقاناته الموضوعية في جماليات التلقِّي المعرفي، وإن كانت الغلبة فيها لنصوص إطلاق العنان للمخيَّلة الفكرية أنْ تأخذ دورها الحكائي في واقعة الحدث الزمكانية.فهيَ شيء جميل أنْ يُمارس القاصُّ وظيفته الأدبية للفنِّ بِحُريَّةٍ.
وفضلاً عن هذا كلِّه رغبة الكاتب التعبيرية المُلِحّة في معجمه اللُّغوي السردي في أنْ يسلك مسلكاً عدولياً يميل فيه إلى الخروج عن المألوف الاعتباري وكسر آفاق أنساقه السياقية المعجمية السردية الأنية بلغة انزياحية بلاغية جماليَّة محببَّة إلى القارئ تستهوي نفسه وتجذبه إليها؛ كونها تعبيراً غير مباشر بعيداً عن خطاب التقريرية الفجَّة ولُغة المُباشرة البليدة التي تنفر منها النفوس؛ بسبب ألفتها الممقوتة وركودها الممل الذي لا يأتي بجديد في بنية القص الحكائي، بل يضعف من قوَّته المعنوية. ومن نماذج تلك الأسلوبية نصُّ الغرباوي القصصي الدالُ على فكرة الموضوع (ذُهُولٌ).
"أَدمنتُ قَارعةَ الطَّريقِ، أَتصفحُ وُجُوهاً كَالِحةً، تَرمَقُ السَّماءَ تَارَةً، وَأُخرَى تَنظرُ مُنكَسِرةً، حَتَّى إِذَا هَبَطَ اللَّيلُ أَو يَكادُ، رَأيتُ مَذهُولَاً يُسابِقُ النَّاسَ، كَمجنُونٍ يَستفزِّهُم بِهذيانِهِ، اِستهوتنِي مُتابعتُهُ، فَرُحتُ أعدُو خَلفهُ، كَانَ يُباعدُ بَينَ خُطواتِهِ، يَتَلَفَتُ مَرعُوبَاً.. خِفتُ أنْ يَسلُكَ طُرُقَاً وَعرَةً أو مَجهولَةَ لَا أَعرفُهَا، فَقَرَّرتُ العَودةَ، وَجَدتُ نَفسِي مَشدُودَاً إِليهِ، كَانَ غَرِيبَاً فِي أَطوارِهِ، حَركاتِهِ، نَظرَاتِهَ. كَادَ لِشِدَّةِ ذُهُولِهِ أنْ يَرتَطِمَ بِجِدارٍ فَصَرَختُ فِي جَوفِي لُولَا أنْ يَفيقَ فَيَتَحَاشَى صَدمَةً عَنِيفَةً"، (نصوصٌ أدبيةٌ، ذهولٌ، ص 9). فضلاً عن المشاهد الأخرى التي توالت في سطور القصة لاحقاً.
وكأنَّ الغرباوي بهذا التسريد الإنساني المتسارع الأحداث المُذهلة يصف مشهداً قصصياً حقيقياً واقعياً لشخصيةٍ دراميةٍ مُدهشةٍ مُريبةً عابرة في الطريق؛ لكنَّها لافتةً للنظر في كلِّ تصرفاتها الشخصية البصرية المحسوسة، وصور حركاتها ونظراتها وأفعالها الحدثية المتسارعة الخطى. ويُواصل الكاتب - حثيثاً - سرده لنسيج الحكاية بهذا الإيقاع الأسلوبي القصَّي الجمالي في توصيف شخصيته القصصية الفاعلية توصيفاً انطباعياً مؤثِّراً ومثيراً للجدل في موضوعيته وكنهه.
فتراه تارةً يميل حداثياً في لغته التعبيرية إلى التناصِّ القرآني التحوِّلي عندما يقول سارداً: "لَو أنَّ بِي قُوةً فَآوِي إِلَى كَهفٍ، أو أَعُودُ إلى أدرَاجِي"، (نصوصٌ أدبيةٌ، ص10)، متناصَّاً مع قوله تعالى من (سورة هود الآية: 43): (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعصِمُنِي مِنَ المَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ اليَومَ مِنْ أَمرِ اِللهِ إلَّا مَنْ رَّحِمَ وَحَالَ بَينَهُمَا المَوجُ فَكَانَ مِنَ المُغرَقِينَ).
فماجد الغرباوي في نصِّه القصصي هذا يُعيدنا في تماهيه الفكري إلى قوم نوحٍ وقصة الطُوفان التي كان من بين ضحاياها ابنه الذي صار في عِداد المُغرَقين ممن كان على شاكلته من الكافرين. فالخيبةُ والخُسرانُ هُما الرابطُ الأوحد بينَ النَّصينِ القرآني الأصلي القديم، والنص الشعري الجديد الذي تعالق معه الغرباوي نصيَّاً في الفكرة وانزاح عنه متحولاً في تسريده القصصي المتأثِّر فكرةً.
وكما هو الحال في توصيفه الدقيق لذاته السردية العَلِيمَة "أو خَالَطَنِي مّسٌّ مِنَ الجُنُونِ..." (نصوصٌ أدبيةٌ، ص10)، متناصَّاً بتقصيصه الإيقاعي مع قوله تعالى: (إلَّا كَمِا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيطَانُ مِنَ المَسِّ)، (البقرة،. الآية: 175). وتارةً أخرى يعود إلى أدراجه في تعبيره إلى (المخيالي الواقعي) الذي فيه نسبة كبيرة من تجليات الواقع الحياتي الراهن الذي تنطبق أحداثه وصوره الانطباعية على واقع شخصياته الفواعلية المؤثِّرة التي وجدت لها مسلكاً في ثنايا قصصه الجمعية.
فضلاً عن ذلك أنَّ الكاتب كونه الرائيَ العليمَ لقصصه يتكلَّم عن شخصية بطله السارد بلغة المتكلم بتاء الفاعلية المُتَّصلة بالأفعال الماضية التي تدلِّلُ على لغة خطابه السردي، مثل تلك الأفعال الزمانية الماضية التي وردت في مطلع القصة، (أدمنتُ، رأيتً، فَرِحْتُ، خفتُ، قررتُ، وجدتُ، صرختُ). أو بلغة ضمير الفاعلية المستتر (نا)، أو ياء المتكلم بالفعل المضارع الدالة عليه.
ثمَّة أمر آخر لافت للنظر في كثير من قصص ماجد الغرباوي ونصوصه بوجهٍ عامٍ، وفي قصَّته (ذُهولٌ) التي نحن بصدد قراءتها بشكل خاصٍّ أنَّ الخواتيم لم تكن في أسلوبيتها التعبيرية صادمةً مُثيرةً في وقع هِزَّتها مقارنةً بمستوى المطالع والمفتتحات الشائقة في قوَّة إمتاعها ومؤانستها. فَلنَنصتْ بِتجلٍّ في خاتمه قصته التي يقول ففيها: "فِقْتُ صَبَاحَاً تَذَكَّرتُ مَا جَرَى، عَاوَدَنِي الحُزنُ، وَفَغَرتُ فَمِي عِندَمَا عَرَفتُ:أنَّ المُرَمَّلَ كَانَ قَلبِيَ"، (نصوصٌ أدبيةٌ، ص11). فالخاتمة أحسَّ بدهشتها بطلُ القصَّةِ نفسُهُ الذي شعر بترمِّل قلبه لا المتلقِّي لها يشعر بأنها صادمة مثيرةً للفعل السردي.
ولنذهب إلى نموذج إجرائي آخر من نماذج تسريده القصصي التأمُّلي البعيد في فكرة فلسفته الموضوعية حكاية قصة (حُطامُ المسافاتٍ) المتوالدة الأفكار والحكايات في وحداتها الزمكانية. والتي أختار الرائي لها شخصية (ميامي) بطلتها الأُنثى الرئيسة الحالمة بالآمال والتطلُّعات الحياتية التي تسعى إلى تحقيقها ذاتياً كونها إنساناً له تمنيات وحقوق ومآلات وعليها واجبات والتزامات كثيرة.
" مَيَامِي الَّتِي أَلَفَتْ لَوحَتَهَا الجَميلَةَ، أَصبحَتْ تَنقلُ نَظَرَهَا الَّذاوِي بَينَهَا وَبَينَ الشَّجَرَةِ، تَمَنَّتْ لَو تَحَدِّثُهَا عَنْ بُعدٍ وَلَو هَمسَاً، أَو تَصُغَي لِآهاتِهَا. شَعَرَتْ بِاِنجِذَابٍ شَديدٍ وَغَرِيبٍ نَحوَهَا، جَرَّبَتْ أنْ تَتَشَاغَلَ عَنهَا، أَو تَغِيبَ يَومَاً أو أكثر... أَفقَدَ الفُرَاقُ صَوَابَهَا...أَرسَلَتْ حَفنَةَ أَشوَاقٍ مُعَتَّقةٍ. أَجَابتهُ الشَّجرَةُ بِبَاقةِ آهَاتٍ حَالمِةٍ، اِنتَشَرَتْ كَفَرَاشَاتٍ مُلوَّنَةٍ عَلَى سَطحِ اللَّوحةِ الهَامِدَةِ فِي زَاوِيَةِ الغُرفَةِ". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 23).
والملاحظ على تركيب هذه الحكاية أن بطلتها (ميامي)، هي إحدى الشخصيات الفنيَّة النسوية، وليست الذكورية بدلالة ذكر الاسمية الصريحة لها وتردُّدات التاء التأنيثية الساكنة التي اتصلت بجملة من الأفعال الماضية (أَلَفَتْ، أصبحتْ، تمنَّتْ، شَعرتْ، جرَّبتْ، أرسلتْ) المُحرِّكة لفعلية الحدث الدرامي القصصي الهادئ بأجوائه المكانية والزمانية الصورية والحركية التي أضفت عليه نوعاً من الألفة والسكينة بين ذاتين كونيين شريكين في الوجود الحياتي ماءً وهواءً وعيشاً وموتاً، أي بين البطلة الساردة الإنسان ميامي صاحبة اللَّوحة الجميلة والشجرة الرمز الجماد التي تماثلها معاً.
فعلى الرغم من موت المؤلِّف (الكاتب) في هذا النصِّ كشخصيةٍ رائيةٍ غيرَ أنَّنا نشعر بأثر وجودها الحقيقي من خلال هذه الأنسنة الجمادية لدالة الشجرة حين بعث فيها الحياة كإنسان يتحدَّث ويهمس بصوته، ويُصغي صوبَ الآخر المماثل في فواعله وفعلياته الزمكانية بلغةٍ بَصَرِيَّةٍ ونفسيةٍ وحركيةٍ (صوتيةٍ وسمعيةٍ) مُتراتبة الحدث، وبمشاعر حقيقيةٍ مُفعمةٍ بالمحبَّة تبعث رسائل حوارية من المتعة والإدهاش والجمال في توليفتها التعبيرية المتجدِّدة عبر هذا التراسل القصصي السردي الإنساني.
الحدث بتجلياته الصراعية الهرمونية التصاعدية أو التنازلية المختلفة يعدُّ واحداً من أهمِّ عناصر وأركان القصة أو الرواية الأساسية البنائية الأربعة: (الحدث، الشخصيات، المكان، الزمان)، فضلاً عن القدة والصراع ومكملات السرد الأخرى. وكلَّما كان الحدث منضبطاً بمستويات رِتم إيقاعه الأسلوبي الفنِّي، وغير خارج عن مساراته الحقيقية المرسومة لوحدة الموضوع الفنيَّة، كان الأثر واضحاً في تفعيل حركة قواعد فنّ السَّرد القصصي القصير بأدواته التمكينية. والحدث عند الغرباوي يسير بإيقاعٍ خفيٍّ هادئ لا تحسُّ بوجوده العُقَدِي ظاهرياً، وإنما بإنسابيةٍ مسكوت عنها.
وعلى وفق ذلك التمايز الحدثي، فإنَّ أهم ما يميِّز الحدث في سرديات ماجد الغرباوي وفي هذه القصة بالذات هو ذلك التماهي الروحي الموحَّد الذي يخلقه الكاتب لبطله مع نظائره الأخرى في تشكُّل وقائع الحدث تشكُّلاً إنسانياً وحياتياً وفي ظلٍّ سقفٍ زماني ومكاني ما تحدَّده واقعة الحدث وتطوراتها التجددية. وبلغة أنيقةٍ رشيقةٍ وبإحساس ذاتي كبير يتغلَّب على صوت الحدث، حتَّى يتناهى إلى ظنِّكَ كثيراً التأكيد بأنَّ اللُّغة بهذه النصوص القصصصية الرتائبية، هي الشاخص الأوحد المحكي بمجسَّاتها الأثيرية، وأنَّ الحدث مجرد وسيلةٍ أو صدىً عن بلاغة تلك اللَّغة العالية التحكُّم.
فعلى طول مجريات الحدث يأخذك الكاتب في تسريده القصصي إلى تلك العلاقة الحميمية بين بطله وبين الشجرة، ويشعرك بسعادة غامرةٍ أو حزنٍ أسيفٍ مع صورتها الكليَّة الحالية.وكأنَّها كائن بشري يمتلك من المشاعر والأحاسيس الرفيعة، لها من المكانة والمحبَّة والوفاء التي تجعلها ابنةً أو صديقةً مُقرَّبةً لا يمكن التفريط بها لتلك العلاقة الجوهرية بينهما. حتَّى يتراءى إليك أنَّ القاصً قد صيَّرها إنساناً عزيزاً، له أعضاء (أغصان) تمنحه جدلية الحياة أو الموت وقوة الانتشاء أو النكوص.
"ذَاتَ يَومٍ جَالَتْ بِبَصَرِهَا... حَدَّدَتْ مُوقِعَ الشَّجَرَةِ بِدِقَّةٍ، تَفَقَّدَتٍ غُصُونَهَا، وَاحِدَاً وَاحِدَاً، هَالَهَا ذَلِكَ الغُصنَ اللَّعِينَ، رَاحَ يَتَدَلَّى مُودِّعَاً أَنفَاسَهُ. هَل سَتَمُوتُ الشَّجَرَةُ بِمُوتِهِ؟ بَكَتْ... شَعَرَتْ أنَّ، جُزْءَاً مِنهَا سَتَفقُدُهُ إِلى الأَبَدِ، رَاحَ الإِحبَاطُ يُبَدِّدُ آمَالَهَا، عَادَتْ تَجُرُّ أَذيَالَ الخَيبةِ، تَسمَعُ نَشِيجَ وِحدَتِها. رَكَّزتْ نَظَرَهَا عَلَى تَقَاطُعَاتِ لَوحَتِهَا، جَالَتْ بِبَصَرِها فِي زَوَايَاهَا الأَر بَعَةِ، بَدَأتْ حَنَايَاهَا تَتَمَاوَجُ...مَنْظرٌ غَرَيبٌ...بَحَيرَةٌ جَمِيلَةٌ...". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 24).
فالمشاعر الفياضة تغلَّبت على أُس الحدث، وكلُّ العبارات التي نطقت بها البطلة ميامي عن تلك الشجرة وما تحمله من مشاعر إنسانية كبيرة تشي بأنَّها روح كائن متجدد رغم جماديتها الصورية.
ويمضي الغرباوي قُدُمَاً باستكمال قصته الطويلة بهذا النسغ الروحي الرتائبي الخافت لواقعة الحدث المتصاعد بتمظهرات جماليات بلاغة بيان لغته القصصية المتعالية على حساب وقع الحدث. وحين تُجِيلُ النظر تأمُّلاً في قراءة خواتيمه القصصية، ستلحظ أنها على الرغم من كونها نهايات درامية تمزج بين تقنيات المَحسوس البصري وغير المحسوس المعنوي، فإنها تعدُّ نهاياتٍ مفتوحةً للقارئ يتوقَّعها كيفما يشاءُ فهمُهُ القرائيّ لها، وليس فيها من صدمة المفاجأة والإدهاش الذي يكسر أفق توقُّع المتلقِّي بفكرة خاتمة الأفكار التي هي حسن تَخَلُّصِ الحدث الحكائي للفكرة.
"ِالتِفِتِتْ إِلَى الشَّجَرَةِ، اَرهَقَتهَا حَنَايَا أَغصَانِهَا.عَادَتْ لِتَصحَبَهُ، اِمتَلَأَتْ قَبضَتُها شَوكَاً!". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 28). فعلى الرغم من الأنسنة والانزياحية اللُّغوية الصورية، فإنَّ هناك غياباً تامَّا لأثر الخاتمة.
ومن بين قصص هذه المصفوفة الأدبية قصة (اللَّاعبُ المُخادِعُ)، وهي من القصص البوليفونية المتعدِّدة الأصوات في بنائها التركيبي الحدثي، تعتمد على فكرةٍ جميلةٍ تقوم بتبادل الأدوار بين مُعلِّمٍ موسيقي مبدئيّ، وتلميذ هاوٍ مُبتدئ معجب بمعلِّمه عازف الموسيقى. ولكن سياقات العمل بينها تنحرف عن مسارها الأخلاقي المبدئي؛ وفقاً لما تقتضيه المصالح والمُتبنيات والمطامح الشخيصة لبطل القصة الذي يفاجئ تلميذة البارّ الذي يرى فيه صورةً قدسيةً لجلالة المُعلِّمِ الناهضِ بالأجيال.
"وَذَاتَ يَومٍ قَرَّرَ المُعلِّم فَجأَةً أنْ يَكونَ لَاعِبَ سَيركٍ مُعتَمِدَاً عَلَى لَياقتِهِ الجَسَديَّةِ، وَخِفَّةِ حَرَكَاتِهِ. وَعِندَمَا فَاتَحَ عَلِيَّاً [التلميذَ] بِالأمرِ اِستغرَبَ مِنْ قَرَارِ مُعَلِّمهِ، وَانْدَهَشَ مِمَا زَادَ فِي حَيرَتِهِ، فَمَا عَلاقَةُ السَّيركِ بِالمُوسِيقَى؟ غَيرَ أنَّ المُعَلِّمِ وَمَا يَتَمَتَّعُ بِهِ مِنْ لَبَاقَةٍ أقنعَ عَلِيَّاً بِالفِكرَةِ، عَلَى أنْ يَعمَلَا مَعَاً، يَقُومُ المُعلِّمُ بِدَورِ لَاعبِ سَيركٍ، وَعَلَيٌّ يَعزِفُ أَلحَانَاً مُوسِيقِيةً تَتَناسبُ مَعَ حَرَكاَتِ اللَّاعبِ، كَي يَشدَّ اِنتباهَ الجُمهورَ، وَيُمكُنُ اللَّاعبُ مِنْ تَمرِيرِ حَرَكَاتِهِ البَهلَوانيَّةِ بِبَرَاعَةٍ" (نصوصٌ أدبيةٌ، ص38). ومن هنا تبداً (المُخَادَعَةُ) بؤرة الحدث المركزية بين الشخصيتين المتصارعتين.
"يَا وَلَدِي السَيركُ كَالسِّيَاسَةِ، يَعتَمِدُ عَلَى الخُدَاعِ وَالتَشويشِ عَلَى تَفكيرِ النَّاسِ، وَسَرِقَةِ إِعجابِهم، وَاسْتِغلَالِ مَشَاعِرِهُم. - وَمَاذَا عَنْ القِيمَ الإِنسانيةِ؟ وَمَاذَا عَنِ الأَخلَاقِ؟ هَكَذَا سَأَلَ عَلِيٌّ بِبَرَاءَة - أَجَابَ المُعَلِّمُ سَتَعَلِّمُكَ التَّجَارِبُ أنَّ هُنَاكَ مَصَالِحَ تَعلو عَلَى المَبَادِئ وَالأخلَاقِ، فَلَا تَكُنْ سَاذِجَاً. وَأَنَّ مَا نجُنيهِ مِنْ رَيعِ عَمَلِنَا سَنَخدِمُ بِهِ شَرِيحَةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ البُؤسَاءِ وَالمُعدَمِينَ". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 39). فإذا كانت رسالة السيرك تعتمد على خداع الناس، فإنَّ رسالة العلم والتعلُّم تعتمد على فضيلة الأخلاق وعلى تبني حقائق التنوير والأخذ بها لا على ديستوبيا الفوضى والتشويش والقهر التي لا تخدم شريحة المهمشين والمغيبين والبؤساء والمُعدَمين من السواد الأعظم من فقراء الناس.
وعلى وفق ذلك التوجَّه والمغايرة الفكرية قرَّرَ التلميذ عليٌّ مقاطعة عمل أستاذه المُعّلِّم، وإنْ كانت به خصاصة له ورغبة عارمة معه. فإيثاره وموقفه الأخلاقي كان سبب تركه العزف مع مُعلِّمه الذي كان يرى فيه صورة المُعلِّم صاحب الرسالة والأخلاق والقيم والمبادئ الإنسانية الثرة.
"قَرَّرَ عَلِيّ فّورّاً مّقاطَعَةَ العَمَلِ، والاِنْصِرَافَ إِلَى عَمَلٍ آخَرَ، وَمِنْ دُونَ اِستئذَانٍ اِنسَحَبَ مِنْ سَاحةَ العَرضِ، ورَاحَ مِنْ سَاعتِهِ يَبحثُ عَنْ عَمَلٍ يَسِدُّ نَفَقَاتِهِ الحَياتِيَّةِ. فَعَمِلَ عَاملَ اِستنساخٍ فِي أَحَدِ المَكَاتِبِ بِرَاتِبٍ بَسِيطٍ بِالكَادِ يُغَطِّي نَفَقَاتِهِ اليَوميَّةِ، لَكنَّهُ كَانَ يَشعرُ بِسِعَادةٍ عَارِمَةٍ؛ لأنَّ مَوقفَهُ كَانَ مَبدَئِيَّاً وَمُنسَجِمَاً مَعَ قِيَمِهِ". (نصوص أدبية، ص 39).
وفي هذه الدفقة التسريدية رسالة إنسانية أخرى يبعثها ماجد لمُتلقيهِ من خلال شخصية البطل عليٍّ التلميذ الذي فقد عمله وضحَّى به، واشتغل عامل استنساخٍ بسيطٍ، مَفادها أنَّ الأعمال البسيطة المتدنية التي يلجأ إليها الفقراء من عامة الناس والمعدمين مجتمعياً لا تُقلِّلُ من هيبتهم الإنسانية ومستواهم المعيشي بخلاف الأعمال الدونية غير الشريفة والتي تحطَّ من قدر صاحبها وَتُسِيءُ له.
وكأنَّ لسان حال ماجد الغرباوي يتمثَّل بدلالة قوله تعالى: (وَيُؤثِرُون عَلَى أَنفسِهُم وَلَو كَانَ بِهُم خَصَاصَةٌ)، ويبعث في الوقت نفسه برسالة اهتزازية لمتلقيه مفادها أنَّ المعلِّم وإن كان ذا رسالةٍ إنسانية كبيرةٍ قد يحمل تحت معطفها المقدِّس انحرافاً أخلاقياً مُشيناً يعكس طبيعة ذاته الأمَّارة بالسوء لا صفتها الاعتبارية التي كسر أفق توقعها بعقابيل حدث الراهن لشخصية البطل المنحرف.
إذن الصراع القائم بين الرجلين بطلي الحكاية، صراعُ قِيمٍ لا صراعُ وَجاهةٍ أو خلافٌ ماديّ. وقد انعكست صورة هذا الصراع المستديم وتجلياته الفعلية على ابن المُعلِّم الذي كان يستخفُ بعليٍّ ومن عمله الجديد. حتَّى وصل الأمر إلى خاتمة القصة التي تؤكِّد أن الحكاية تسبق الفكرة؛ وبالتالي يعطيك ازدراء الابن نسخةً طبقَ الأصل عن أبيه.وكأنَّ العمل بشرفٍ وعفةٍ يُعدُّ عاراً على صاحبه.
"فبَدَّدَ اِبنُ المُعلِّمِ الصَمْتَ، وَسَأَلَ عَليَّاً: - مَاذَا تَعملُ يَا عَلِيُّ؟ - عَامِلَ اِستنسَاخٍ وَالحَمدُ للهِ - فاطلق ِابنُ المُعَلِّمِ ضِحَكَةً مُدَويَّةً، بِاستخفَافٍ كَبيرٍ، و قَالَ: مُبارَكٌ لَكَ عَمَلُكَ الجَدِيدُ! ". (نصوصٌ أدبيةٌ، ص 40).
كل الدلائل الأسلوبية للسارد الكاتب أو الرائي المحكي الداخلي تشي بأنَّ الغرباوي كان يتذوَّق نصوصه السردية تذوِّقاً فنيَّاً وجماليَّاً ويستشعر أثر قيمة موضوعيتها الفكرية وتأثير وقعها الساحر على فهم القارئ العادي والمتلقِّي الواعي النموذجي الذي يعيش أجواءها الحالية من ألِفها إلى يائها.
والأمثلة السَّردية على ذلك التلقِي المعرفي كثيرة نذكر منها قصة: (هاتفُ الفجرِ، ذُهولٌ، تَمرُّدٌ، حُطامُ المسافاتِ، مِرايا الحُروفِ، وَاِنشقَ القمرِ، حَافاتٌ قَلقةٌ، قَرارٌ ارتجاليّ، اللَّاعبُ المُخادعُ، كِذبَةٌ مُتوهجةٌ، أُمنياتٌ مُتلاشيةٌ).وغيرها من النصوص الشعرية الأخرى لقصائده النثرية في المدونة (يَتهادَى حُلُمَاً، هَمساتٌ لَاهثةٌ، تَسَمَّرَ الضَوءُ، تَبتكرنِي الرِّيحُ، مَدياتُ حُلُمٍ، كَلمَةٌ هِيَ، عَناقيدُ شِعرٍ).
وحين نُجيلّ النظر متأمِّلين بتؤدةٍ وصبرٍ كبيرينِ نصوص ماجد الغرباوي الأدبيَّة، سواءٌ أكانت الشعرية منها أم القصصية التأمُّلية الفكرية، نجدُ أنَّ ماجداً الإنسانُ الماجدُ قبل أن يكون الغرباويّ المفكِّر الكاتب الواعد. وهذه صفة مهمَّة من صفاته الإنسانية ومزاياه الإبداعية التي تميِّزه عن مُجايليه أقرانه من كتَّاب الفكر التنويري والأدبي في عالمنا العربي المعاصر والحديث.
هذا من جهة ومن جهةٍ أخرى بوصفه إعلامياً، أديباً وكاتباً تنويراً مهمَّاً في ناصية الثقافة العربية عموماً والدينية الإسلامية خصوصاً، فإنَّ أسلوبيته المُعجمية تُشير بوضوحٍ إلى أنَّ ماجداً ابن ثقافةٍ بيئيةٍ تراثيةٍ عربيةٍ خالصةٍ طبعت أثرها الروحي بنفسه طبعَاً وأخذت مكانها منه مكاناً قارَّاً.
حتَّى تأكد لنا أنَّ نتاج ماجد الغرباوي وتنظيراته الفكرية المُتأثِّرة بفلسفة التراث العربي الإسلامي الضاربة أنساغ جذوره روحه العميقة بأطناب التاريخ، هو نتاج ثقافي بروحٍ فلسفيةٍ وعلميةٍ جديدةٍ وسطيةٍ متحرِّرة الجوهر، وإن كان شكله الظاهري قرآني بحت الفهم والمعنى؛ لكن أساسات المبنى هي من تضعه في خانة التمَّيز المعرفي الذي من خلاله أن نُقيِّمَ ماجداً ونحكم عليه قيمةً علميةً وعمليةً ثرةً لا نبخس ميزانها الشيئي عدلاً وانصافاً وإحقاقاً.
إنَّ ما يهمنا في هذه الدراسة النقدية المتواضعة هو رمزية ماجد الغرباوي بوصفه الأديبَ الشاعرَ، أو القاصَّ الناثرَ. تلك النقطة الضوئية التبئيريَّة اللَّافتة التي من خلالها أن نفهم بجلاءٍ أسلوبية الغرباويّ الفكرية والأدبية، وأنْ نعيَ جيِّداً أنَّ كل ما يقوم به ماجد الغرباوي المفكِّر الإسلامي الديني المُتنوِّر في آثاره الفلسفية من تنظيرات فكريةٍ وإجرائية تطبيقية، نجدها بحقٍّ ترجمةً حقيقيةً لمعاني آثارها الفكرية واضحة في مناهل وأبجديات صفحاته الأدبية الإبداعية الثرَّة.
وهذا يلفت النظر إلى أنَّ كلَّ ما يعكس فلسفته الفكرية تجده واثباً حاضراً عملياً وعلمياً في ثنايا نصوصه الأدبية الشعرية والقصصية السرديَّة على حدٍّ سواءٍ. وأنَّ محمولات التأثُّر الفكري جليةٌ في بناء آثاره العملية، ولاسِيَّما تناصاته الفكرية القرآنية: (التحوِّلية والإيقاعية والتركيبية) التي وشمت نصوصه الأدبية من حيث الألفاظ والمعاني والانزياحات اللُّغوية البلاغية الأسلوبية الواضحة.
وإنَّ مثل هذا الفعل الكتابي قد سبقه به أدونيس علي أحمد سعيد، المفكِّر والشاعر والناقد العربي السوري في نتاجه (الثابت والمتحوِّل)، وفي كُتبه وتنظيراته الفكرية الأخرى، وفي رمزياته الصوفية وأسلوبيته الشعرية، وفي موقفه الآيدلوجي الفكري الثابت من العقيدة والدين. مع فارق الاختلاف والتشابه الجوهري بين المفكِّرين وتباين الفكر الفلسفي لكلٍّ منهما في البدائل الثقافية والمتبنيات الفلسفية المهمَّة التي هي محطُّ اهتمام نظريهما الفكري. ونشهد لماجد الغرباوي سمته الأدبية التي تُضاف رافداً لمثابة تحوَّلاته الفكرية الراسخة في مكتبة الثقافة العربيَّة عامةً والعراقية خاصَّةً.
***
د. جبّاَر ماجد البهادليَ - ناقدٌ وكاتبٌ عراقي
..........................................
* مشاركة (40) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10