أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: أهمية الطريقة السقراطية في الفلسفة والتعليم

وصف الفيلسوف اليوناني سقراط نفسه بذبابة حصان مزعجة. هو كان الذبابة والأثنيين كانوا الحصان. مهمة سقراط كانت نقد المواطنين الأثنيين وتحريضهم على الفعل. هو قام بهذا من خلال توجيه الكثير من الأسئلة. هذا الاستجواب النقدي عُرف بالطريقة السقراطية واصبح الاساس في الفلسفة. في هذا المقال سوف ننظر في السياق الذي كان يعمل به سقراط، نتعرف على ماهية الطريقة السقراطية ثم ننتقل الى تطبيقاتها في الفلسفة والتعليم.
أثينا والثلاثون طاغية
في ثماني أشهر دموية بين عامي 403 و 404 ق.م كانت اثينا قد خضعت لحكم مجموعة من الرجال الطغاة عُرفوا بـ "الثلاثين طاغية". الاسبارطيون الذين انتصروا في الحرب البيلويونيسية نصّبوا هؤلاء الطغاة كحكام اوليغارشيين لأثينا. محاولات الطغاة لفرض السيطرة وسحق الديمقراطية الاثنية قادت الى تمرد وإعادة ارساء للديمقراطية. سقراط كان جنديا في تلك الحرب، وكانت له مواجهات غير سارة مع اولئك الطغاة، وكان نشطا في تحدّي الناس في اثينا في الفترة التي تلت. هذا التحدي من جانب سقراط وصل الى درجة دفعت حكام اثينا الديمقراطيين لإتهامه بعصيان الآلهه وافساد الشباب حيث حُكم عليه بالموت عام 399ق.م.
يروي افلاطون محاكمة سقراط في (الابولوجي). هنا يطرح سقراط رسالته في الحياة. هو اراد ان يبيّن لمواطني اثينا ان الحكمة والحقيقة وتحسين الروح هو اكبر قيمة من النقود او السمعة. سقراط رأى نفسه كمعلّم ولديه طريقة للتدريس:
"انا استجوبه واختبره واذا اعتقدت انه ليس لديه فضيلة، وليس لديه ما يدّعي، انا انتقده بتقليل أهمية الاكبر وتعظيم قيمة الأقل".
هذا يمكن تلخيصه بطرح اسئلة عن عقائد الناس وتوقّع وجود اسباب جيدة. سقراط سعى الى الحكمة، لذا هو اعتقد ان الناس يجب ان يكونوا قادرين على اعطاء اسباب جيدة حول صحة ما اعتقدوا به. الفيلسوف مارثا نسباوم Mrtha Nussbaum جادل بان سقراط في هذه الطريقة، كان يدافع عن الديمقراطية. اذا اراد المواطنون العمل في الديمقراطية يجب عليهم التفكير بانفسهم، ولديهم اسباب لعقيدتهم، ويكونون قادرين للتعبير عنها للناس الاخرين. الديمقراطية تتطلب منك ان لا تقبل ما قيل لك كحقيقة او حكمة او صحيح. انت تقرر لنفسك.
الحياة غير المُختبرة (غير المدروسة)
من أشهر عبارات سقراط كانت "الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش"، والتي وردت ايضا في "ابولوجي" افلاطون. هذا يجسّد جوهر ما كان سقراط يفعله في فلسفته. في دفاعه، يوضح سقراط انه في بحثه عن الحكمة، هو تجوّل حول اثينا متحدثا الى مختلف الناس. هو قام بهذا في محاولة لإبطال الادّعاء الصادر من معبد الالهه بان لا وجود لشخص اكثر حكمة من سقراط. هو تحدث مع سياسيين ثم مع شعراء واخيرا مع حرفيين. في كل حالة، هو يفشل في العثور على شخص ما اختبر حياته وتمكّن بشكل كاف تبريرعقيدته. سقراط ادرك انه بينما يعتقد الناس انهم حكماء، لكنهم حقا ليسو كذلك، هو ذاته كان حكيما فقط لأنه عرف جهله.
سقراط لم يكن مهتما في التأمل حول العالم المادي كما فعل فلاسفة ما قبل سقراط. هو كان مهتما في كيف يجب ان يعيش الناس. حياته كانت سعيا مستمرا للحقيقة والحكمة. هذا التركيز على اختبار الحياة يعني ان سقراط اراد ان يتعلم حول الفضيلة او "arête". اريتا لها عدة معاني: اقرب الترجمات هي "التميّز". في مناقشته للفضيلة، اراد سقراط ان يعرف ما المقصود بالشخص الممتاز. هو اختبر فضيلة الشجاعة والعدالة والاعتدال والتقوى – وهي صفات الشخصية المهمة في الحياة اليومية. برر سقراط ذلك في انك اذا لم تعرف ماهي الفضيلة وماذا تعني، فمن غير الممكن ان تعيش حياة فاضلة.
الطريقة السقراطية
الطريقة التي استخدمها سقراط لفهم الفضيلة واختبار الحياة كانت عبارة عن طرح اسئلة. هو اراد تحدي الناس ليفكروا بأنفسهم ولا يقبلوا الدوغمائية. اختبار الحياة يتطلب الاستبطان او التأمل الذاتي، والتفكير وما نسميه اليوم بالتفكير الخلاق. استعمل سقراط الاسئلة ليوجّه الناس ليقوموا بذلك كما تحفز الذبابة الحصان. اسئلة سقراط اتبعت شكلا نموذجيا، والطريقة التي عرضها طلابه افلاطون وزينون رسمت المحادثات على شكل حوار يجعل من السهل انطلاق التفكير. الحركة الفكرية المتكررة باتجاهين متضادين بين سقراط ومحاوره في الحوار تفسر لماذا اصبحت هذه الطريقة تسمى بالديالكتيكية.
معظم الحوارات تركز على موضوع محدد، وسقراط يقترح الموضوع عبر طلب تعريف "ما هو x"؟ حيث x عادة هي الفضيلة. محاوره يقترح تعريفا. بعد ذلك يتقدم سقراط بطرح اسئلة، باحثا عن خاصية واحدة مشتركة بين جميع الامثلة لتلك الفضيلة. الطريقة السقراطية تعمل كثيرا في التفنيد. سقراط يبيّن ان تعريف المحاور له للفضيلة غير منسجم مع العقائد الاخرى. وعبر طرح سلسلة من الاسئلة، هو يُظهر تناقضات، يجد فجوات في المعرفة او الاستدلال، ويستبدل ثقة المعرفة بوعي الجهل.
تجنّب الدوغمائية
في حوارات سقراط الافلاطونية، لا يتم الوصول دائما لجواب محدد لسؤال سقراط الأصلي. هذا ربما يبدو محاولة لتجنب موقف صعب، لكنه كان منسجما مع الكيفية التي عمل بها سقراط. هو ادّعى انه لا يعرف، بدلا من ذلك هو لديه المهارة لمساعدة الناس الاخرين في استجواب عقائدهم والوصول الى رؤية صحيحة.
معرفة ان عقائدنا غير صحيحة او غير منسجمة هي اول خطوة في المسار نحو فهم أعمق. كما في حالة الوعي بمحدودية فهمنا. سقراط رفض تعليم الناس مباشرة كما فعل السوفسطائيون او اعطائهم اجوبة، لأنه عرف ان تفكير المرء هو اكثر أهمية. هذه نقطة هامة جدا،وسبب رئيسي للاهمية المستمرة لطريقة سقراط والتي لاتزال ملائمة في التعليم والفلسفة الى يومنا هذا.
الدوغمائية تتطلب قبول افكار مهيمنة وتلقّي معرفة من شخصيات سلطوية. انها سلبية وتتطلب فقط التذكّر. بالمقابل، طريقة سقراط تمكّن الشخص من اكتشاف المعرفة والحكمة من خلال تفكيره الخاص. انها نشطة،عملية خلاقة وهي الطريقة الوحيدة لتحرير الذهن من العقيدة الدوغمائية. الناس نادرا ما يغيرون آرائهم من خلال المواجهة المباشرة حين يقال لهم انهم مخطئون. لكن عندما تتحفز افكارهم بتحدي الاجابة على الاسئلة، هم يمكنهم تحرير انفسهم من افكارهم الخاطئة. هذا يجعل الطريقة السقراطية مؤثرة جدا.
حدود الطريقة السقراطية
أشار ارسطو الى ان طريقة سقراط هي شكل من الاستدلال الاستقرائي. سقراط حاول العمل من خلال حالات معينة للفضيلة ليصل الى استنتاج عام حول تلك الفضيلة. سقراط لم يعتقد ان الفضائل نسبية. هو اعتقد انها مطلقة، تنطبق على كل شخص، وعندما يعرف الناس الصحيح من الخطأ حينئذ يمكنهم تعلّم العيش في امتياز. ارسطو طور استدلالا استنتاجيا يتجاوز الميدان الاخلاقي، ولاحقا استخدمه فرنسيس باكون كأساس للطريقة العلمية. مقابل الاستدلال الاستنتاجي، الاستدلال الاستقرائي لا يمكن ابدا ان يعطي اجوبة محددة.هناك حدود اخرى للطريقة السقراطية. اذا كانت طريقة سقراط تقودنا فقط الى تعريفات لغوية، من الصعب رؤية كيف يمكنها ان تعطي نوعا من المعرفة الاخلاقية التي امل سقراط في الحصول عليها. بدلا من ذلك، نحن نريد ان تكون معرفتنا الاخلاقية اساسا للتصرف في كيفية العيش. الطريقة السقراطية جيدة للتقييم النقدي والتوضيح للعقائد القائمة والافتراضات. انها ليست جيدة لكشف تام لمعرفة جديدة خاصة من النوع التجريبي. هذا يجعلها افضل للتفكير الاخلاقي والتفكير النقدي بدلا من عمل العلم.
تنمية مواطنين صالحين
كما ذكرنا انفا، يمكن النظر الى سقراط كمدافع عن الديمقراطية. وبينما هو لم يصبح سياسيا بشكل رسمي، لكنه فعلا حاول التأثير على سياسة اثينا. في اثينا، تقريبا كل الوظائف الحكومية بما في ذلك القادة العسكريين كانت تتقرر من خلال التصويت. طبقا لـ زينوفون Xenophon ، في احد الحوارات يتحدث سقراط مع شاب يريد ان يُنتخب كقائد عسكري. في اسلوبه المعتاد، سقراط يعلن ان الرجل ليس لديه المعرفة المطلوبة للتنفيذ الفعال للمهنة التي يتقدم اليها. هذا الحوار يبيّن ان سقراط شخصية مختلفة واكثر عملية. بدلا من الاهتمام فقط بالفضيلة الاخلاقية، هو اعتقد ان الناس يجب ان تكون لديهم مهارات ملائمة ومعرفة وخبرة لآداء وظائف الحكومة. الديمقراطية كانت اكثر من مباراة شعبوية.
هناك ارتباط قوي بين الطريقة السقراطية والتعليم، وهو ما كان واضحا حتى في ايام سقراط. في محاكمته، اشتكى سقراط ان مسرحية (الغيوم) لارستيفان وصفت سقراط وطريقته بشكل غير منصف. في جوهر نقد اريستيفان كان التصادم بين التعليم "التقليدي" و "التقدمي". في التعليم التقليدي، الطالب يُتوقع منه تذكّر وتعلّم واتّباع الطريقة التقليدية في عمل الاشياء، وبهذا يضمن الاستقرار. لكن التعليم "التقدمي" تجسّد في طريقة سقراط في الاسئلة. كان يعني التفكير بنفسك وان لا تقبل عقيدة بسبب كونها "تقليدية". هذه الاسئلة للسلطات القائمة اعتُبرت تخريبية في اثينا القديمة. لكن سقراط اعتقد انها ضرورية لديمقراطية صحية.
أحسن طريقة لتعيش حياة جيدة
التعليم الليبرالي يسمى ليبراليا لأنه يركز على تحرير العقل. ميراث الطريقة السقراطية هو تطبيق التفكير النقدي ومسائلة قضايا الحياة اليومية. في هذه الطريقة، يمكن للتعليم ان يعطي الطلاب المهارات والمعرفة بما يكفي للمشاركة في المجتمع وانجاز دورهم كمواطنين احرار وديمقراطيين. نحن لا يمكننا ان نتوقع تحقيق تقدم ايجابي بدون مسائلة الافتراضات التي تُبنى عليها عقائدنا، والعثور على التناقضات، واكتشاف الفجوات في معرفتنا. هذا يتطلب كل من التواضع والرغبة في التعلم. يمكن القول ان طريقة سقراط تبقى احسن طريقة في السعي المستمر لعيش حياة جيدة.
***
حاتم حميد محسن