أقلام فكرية

زهير الخويلدي: مسار إدوارد سعيد

بين تفكيك المعرفة الاستشراقية واسترداد الهوية الفلسطينية المغتربة

مقدمة: يُعتبر إدوارد سعيد (1935-2003) واحدًا من أبرز المفكرين في القرن العشرين، حيث ترك بصمة عميقة في مجالات النقد الأدبي، الدراسات ما بعد الاستعمارية، والفكر السياسي. من خلال عمله الرائد الاستشراق (1978)، قدم سعيد نقدًا جذريًا للطريقة التي شكلت بها الثقافة الغربية صورة الشرق، معتبرًا أن هذه الصورة تخدم الهيمنة الاستعمارية. في الوقت ذاته، كانت رحلته الشخصية كفلسطيني مغترب في المنفى تجربة محورية شكلت كتاباته حول الهوية، المنفى، والمقاومة الثقافية. يهدف هذا البحث إلى تحليل رحلة إدوارد سعيد الفكرية والشخصية، مع التركيز على كيفية تفكيكه للمعرفة الاستشراقية وجهوده لاسترداد الهوية الفلسطينية المغتربة، من خلال مقاربة تحليلية تستند إلى أعماله وتجربته الشخصية.

.1. إدوارد سعيد: سياق الحياة والمنفى

وُلد إدوارد سعيد في القدس عام 1935 لعائلة فلسطينية مسيحية، ونشأ في بيئة متعددة الثقافات بين القدس، القاهرة، والولايات المتحدة. بعد النكبة عام 1948، عاش سعيد تجربة المنفى التي شكلت وعيه بهويته الفلسطينية. كما أثر تعليمه الغربي في جامعة هارفارد وبرينستون على تشكيل رؤيته النقدية للثقافة والسلطة (1999). هذه التجربة المزدوجة جعلته يتحرك بين عالمين: الشرق كموطن أصلي، والغرب كفضاء فكري وسياسي. يصف سعيد هذه الحالة في كتابه خارج المكان بأنها تجربة "اللاانتماء"، التي أثرت على رؤيته للهوية كمفهوم ديناميكي ومتنازع عليه.

.2. تفكيك المعرفة الاستشراقية

في كتابه الاستشراق (1978)، قدم سعيد تحليلًا نقديًا للاستشراق كممارسة معرفية وسياسية تُنتج صورًا نمطية عن الشرق لخدمة المصالح الاستعمارية الغربية. استند سعيد إلى أفكار ميشيل فوكو حول العلاقة بين المعرفة والسلطة، مؤكدًا أن الاستشراق ليس مجرد دراسة أكاديمية للشرق، بل خطاب هيمنة يصور الشرقي كـ"آخر" متخلف وغريب (1977; 1978). يرى سعيد أن هذا الخطاب ساهم في تبرير الاستعمار من خلال تقديم الشرق كفضاء يحتاج إلى "تدجين" و"تحضير".من الناحية الميتودولوجية، استخدم سعيد نهجًا تأويليًا لتحليل النصوص الأدبية، الفنية، والعلمية التي أنتجها المستشرقون، مثل إدوارد لين وغوستاف فلوبير، ليكشف كيف شكلت هذه النصوص صورة الشرق في الخيال الغربي. كما أشار إلى أن الاستشراق ليس ظاهرة منفصلة عن السياق السياسي، بل هو جزء من مشروع السيطرة الاستعمارية (1978).

3 - استرداد الهوية الفلسطينية المغتربة

إلى جانب نقده للاستشراق، كرس سعيد جزءًا كبيرًا من حياته الفكرية والسياسية للدفاع عن القضية الفلسطينية واسترداد الهوية الفلسطينية المغتربة. في كتابه مسألة فلسطين (1979)، قدم سعيد تحليلًا للتاريخ الفلسطيني من منظور ما بعد استعماري، مؤكدًا أن النكبة لم تكن مجرد حدث سياسي، بل عملية مستمرة لتشتيت الهوية الفلسطينية ومحوها. كما ركز على مفهوم "المنفى" كحالة وجودية وثقافية، حيث يعيش الفلسطينيون حالة من الاغتراب الدائم بسبب التهجير والاحتلال.في أعمال مثل بعد السماء الأخيرة (1986)، بالتعاون مع المصور جان موهر، استخدم سعيد النصوص والصور لتوثيق الحياة الفلسطينية، مؤكدًا على أهمية السرد الذاتي في مقاومة الروايات المهيمنة التي تحاول طمس الهوية الفلسطينية. كما دعا إلى "المقاومة الثقافية" كوسيلة لاستعادة الصوت الفلسطيني، معتبرًا أن الثقافة والأدب يمكن أن يكونا أدوات لمواجهة الهيمنة السياسية والثقافية.

4. الربط بين تفكيك الاستشراق واسترداد الهوية

تتجلى رحلة سعيد الفكرية في الربط بين نقده للاستشراق وجهوده لاسترداد الهوية الفلسطينية. ففي حين كشف في الاستشراق عن الآليات التي استخدمها الغرب لتشويه صورة الشرق، عمل في كتاباته عن فلسطين على تقديم رواية مضادة تعيد بناء الهوية الفلسطينية كجزء من مقاومة الخطاب الاستعماري. يرى سعيد أن الهوية ليست ثابتة، بل هي عملية ديناميكية تتشكل من خلال التفاعل مع التاريخ، الثقافة، والسياسة (1999). من الناحية النظرية، يمكن اعتبار هذا الربط امتدادًا لمفهوم "الثقافة والهيمنة" الذي طوره سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية (1993). هنا، يربط سعيد بين الأدب، الثقافة، والسياسة، مشيرًا إلى أن الروايات الثقافية يمكن أن تكون أدوات للمقاومة أو الهيمنة. بالنسبة للفلسطينيين، كان استرداد الهوية يعني استعادة السرد التاريخي والثقافي الذي حاول الخطاب الصهيوني والاستعماري طمسه.

5. التحديات والإسهامات

التحديات: الاستقطاب السياسي:

واجه سعيد انتقادات حادة من قبل مؤيدي الصهيونية الذين اعتبروا كتاباته عن فلسطين متحيزة، كما انتقده بعض المستشرقين التقليديين لتفكيكه للاستشراق.

التعقيد الهوياتي: كمثقف فلسطيني في المنفى، واجه سعيد تحديات في التوفيق بين هويته المزدوجة كفلسطيني وأكاديمي غربي.

الإسهامات:

إعادة تعريف الاستشراق: قدم سعيد إطارًا نظريًا جديدًا لفهم العلاقة بين المعرفة والسلطة، مما أثر على الدراسات ما بعد الاستعمارية والنقد الثقافي.

تمكين الصوت الفلسطيني: ساهم في إعادة صياغة الرواية الفلسطينية عالميًا، مؤكدًا على أهمية الثقافة في المقاومة.

التأثير الأكاديمي: ألهم جيلًا من الباحثين في مجالات النقد الأدبي، الدراسات الثقافية، والعلوم السياسية.

6. التوصيات

للاستفادة من إرث سعيد في السياق المعاصر، يُوصى بما يلي:

تعزيز الدراسات ما بعد الاستعمارية في الأوساط الأكاديمية العربية لفهم تأثير الخطابات الاستعمارية على الهوية العربية.

دعم المشاريع الثقافية التي توثق التجربة الفلسطينية، مثل الأدب، الفن، والسينما.

تشجيع الحوار بين الثقافات لتفكيك الصور النمطية المتبادلة بين الشرق والغرب.

تطوير مناهج تعليمية تستند إلى أفكار سعيد لتعليم الطلاب أهمية النقد الثقافي والسياسي.

خاتمة

تُعد رحلة إدوارد سعيد الفكرية والشخصية نموذجًا فريدًا للمثقف الملتزم الذي جمع بين النقد الأكاديمي والنضال السياسي. من خلال تفكيكه للمعرفة الاستشراقية، كشف سعيد عن الآليات التي تستخدمها الثقافة للهيمنة، بينما ساهم في استرداد الهوية الفلسطينية المغتربة من خلال إعادة صياغة السرد الفلسطيني. يظل إرثه حيًا في قدرته على إلهام الباحثين والناشطين لمواجهة التحديات الثقافية والسياسية المعاصرة بأدوات النقد والمقاومة. فكيف يمكن الاستئناس بمسار سعيد النضال الفكري والسياسي في تجذير الفعل المقاوم؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

الاحالات والهوامش:

[1] يُعد مفهوم "المعرفة والسلطة" عند ميشال فوكو أساسًا مركزيًا في تحليل سعيد للاستشراق كخطاب هيمنة.

[2] يشير ادوارد سعيد في خارج المكان إلى تجربته الشخصية كفلسطيني مغترب، مما أثر على رؤيته للهوية والمنفى.

[3] تُظهر أعمال سعيد عن فلسطين، مثل مسألة فلسطين، التزامه بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية من خلال الثقافة والسياسة.

المصادر والمراجع:

Foucault, M. (1977). Discipline and Punish: The Birth of the Prison. New York: Pantheon Books.

Said, E. W. (1978). Orientalism. New York: Pantheon Books.

Said, E. W. (1979). The Question of Palestine. New York: Times Books.

Said, E. W. (1986). After the Last Sky: Palestinian Lives. New York: Pantheon Books.

Said, E. W. (1993). Culture and Imperialism. New York: Knopf.

Said, E. W. (1999). Out of Place: A Memoir. New York: Knopf

في المثقف اليوم