أقلام فكرية
هدى لحكيم بناني: الفردانية المفرطة.. عندما يتحوّل الإنسان إلى مشروع معزول

في خضم التحولات الثقافية والاجتماعية المتسارعة التي يشهدها عالم اليوم، برزت ظاهرة "الفردانية المفرطة" كمظهر بارز لما يسميه علماء الاجتماع "تحوّل القيم الكبرى"، حيث يتمركز الإنسان حول ذاته في انفصال متزايد عن الجماعة، عن المسؤولية المشتركة، بل حتى عن روابطه النفسية والعاطفية. وبينما تُعدّ الفردانية في أصلها مكسباً حداثياً مرتبطاً بالتحرر والحق في الاختلاف، فإن إفراطها بات يهدد تماسك النسيج الاجتماعي ويحوّل الإنسان إلى كائن معزول، غارق في سردية الأنا، يلهث وراء إثبات الذات خارج سياق الانتماء.
لقد ظهرت الفردانية بوصفها إحدى الثمار الكبرى للحداثة الغربية، إذ نادى فلاسفة كـ"جون لوك" و"جان جاك روسو" بحق الفرد في تقرير مصيره، والخروج من سلطة المؤسسات التقليدية كالدين والملك والأسرة. كانت تلك الفردانية في سياقها التاريخي تحرراً من التراتبية الاجتماعية، وتأسيساً لفكرة الإنسان كمركز للمعرفة والقرار. لكن مع صعود النيوليبرالية الاقتصادية والثقافة الاستهلاكية منذ سبعينيات القرن العشرين، تحولت هذه الفردانية إلى حالة مفرطة من التمركز حول الذات، واختزال الإنسان إلى مشروع ذاتي، يسوّق نفسه ويقيس نجاحه وفق منطق الربح والخسارة.
ويشير عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي إلى أننا دخلنا "عصر الفراغ"، حيث تراجعت القيم الجمعية الكبرى لصالح نزعة فردانية تُمجّد الحريّة دون مسؤولية، والتعبير عن الذات دون انتماء. إنها "الفردانية النرجسية" التي وصفها كريستوفر لاش بأنها حالة من الانكفاء على الذات بحثاً عن اعتراف دائم، لكنها في العمق تُخفي هشاشة نفسية واجتماعية عميقة.
وساهمت الثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز هذه النزعة الفردانية إلى أقصى مدياتها. فباتت الذات تُعرض كعلامة تجارية تُسوّق أمام جمهور افتراضي: الصور، الآراء، تفاصيل الحياة اليومية، كلها تتحوّل إلى أدوات لإثبات الوجود وتحصيل "الإعجابات". في هذا السياق، لا يعود الآخر شخصاً أتعامل معه، بل جمهورًا يُقيّمني. وهكذا، يعيد الإنسان تشكيل ذاته وفق معايير خارجيّة لا تُعبّر بالضرورة عن عمقه الوجودي، بل عن صورة مصنّعة تطلب التصفيق.
هذا الواقع الرقمي، رغم ظاهره التشاركي، يُغذّي الانعزال، إذ يخلق وهمًا بالتواصل، لكنه في الحقيقة يعمّق الشعور بالوحدة، ويُضعف القدرة على بناء علاقات حقيقية قائمة على الثقة والانتماء والاستمرارية.
نتيجة لهذا التحول، شهدنا تراجعًا واضحًا في بنى الانتماء التقليدية: تفكك الأسرة، ضعف التضامن الاجتماعي، تراجع الالتزام بالشأن العام، بل حتى ازدياد العزوف عن المشاركة السياسية أو المدنية. أصبحت الجماعة بالنسبة للفرد مجرد وسيلة أو عبء، لا ضرورة وجودية. يقول عالم الاجتماع زيغمونت باومان إن مجتمعاتنا المعاصرة أصبحت "سائلة"، أي هشّة، لأن الروابط التي تربط الأفراد لم تعد قائمة على المعنى المشترك، بل على المصلحة المؤقتة والهوية المتغيرة.
وهكذا، لم تعد الجماعة هي الحاضنة التي توفر للفرد الأمان والقيمة، بل بات يُنظر إليها كقيد على الحرية، أو كعائق أمام التعبير عن الذات. وهذا ما يعزز بدوره شعوراً متنامياً بالوحدة، واللاجدوى، والانفصال الوجودي، خاصة بين فئة الشباب الذين يجدون أنفسهم في مواجهة عبء "بناء الذات" دون دعم جماعي حقيقي.
ليس المقصود من نقد الفردانية المفرطة الدعوة للانصهار داخل الجماعة، أو العودة إلى أشكال قهرية من الانتماء. بل المطلوب هو بناء شكل جديد من الفردانية المتوازنة، التي تحفظ للإنسان حريته، ولكن تُعيد وصلها بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الغير والمجتمع. فالفرد لا يكتمل بوجوده المادي أو الرقمي، بل يتشكل من خلال علاقته بالآخرين، ومساهمته في صناعة المعنى المشترك. ويمكن التأسيس لفردانية مسؤولة من خلال: إعادة الاعتبار للتربية على المواطنة والانتماء، دون فرض الامتثال، وبناء محتوى ثقافي ناقد لخطابات الأنانية الاستهلاكية، وتشجيع المبادرات الجماعية التي تحفّز على المشاركة والتعاون والتضامن.
تبدو الحاجة اليوم ماسّة إلى مراجعة شاملة لنمط حياتنا الحديث الذي يضخّم "الأنا" على حساب "النحن". فالفرد لا يمكنه أن يحيا بالانعزال، ولا أن يُحقق ذاته بالانفصال عن الجماعة. الإنسان، كما قال أرسطو، "كائن اجتماعي بالطبع"، وهذه الحقيقة لا تنتفي مهما تطورت التكنولوجيا أو تبدّلت القيم. إن تجاوز الفردانية المفرطة هو المدخل الضروري لإعادة المعنى للعيش المشترك، وللإنسان نفسه.
***
د.هدى لحكيم بناني