أقلام فكرية
حيدر عبد السادة: الدوائر المغلقة وانتصار الأنا

يعتقد الفيلسوف والمؤرخ الألماني (اوسفالد شبنغلر) إنّ لكل حضارة اسلوبها الخاص الذي يميزها عن غيرها من الحضارات، ولهذا اطلق عليها بـ(الدوائر المغلقة)، والتي تشير إلى ثقافة الاختلاف السائدة بين الحضارات، ولا وجود لشيءٍ قد يؤسس لتقارب ذلك الاختلاف، فقد وجد الاختلاف داخل الحضارات وبني على أساس التأصيل، وكأن الحضارة تتطور بمدى قدرتها على الانغلاق والاختلاف عن الحضارات الأخرى. وليس لواحدةٍ من تلك الحضارات أن تفرض سطوتها الاجتماعية والثقافية والقيمية على غيرها، لأن الحضارات مقفلةٌ على ذاتها، وإن أرادت الانفتاح على غيرها من الحضارات فإن ما تستند عله لا يتجاوز ما يسميه (شبنغلر) بـ (التشكل الحضاري الكاذب)، فتعمد على اختراع صور ملائمة، لا إلى ذاتها، وإنما لتوجهات الحضارة الأخرى، لكن في جميع الأحوال، لا يمكن لنا أن نسمي ذلك انفتاحاً على ثقافات الآخر، وإنما هو تسليك مبدأي يشي بقبول ما يقدمه الآخر من أجل غاية قد تذكر أو لا تذكر، أما الحقيقة، فإن الإرث محفوظ، ولا يسمح للانفتاح أن يؤثر في محيط وعمق الثقافة المتجذرة في حضارة ما.
وإذا كان (شبنغلر) قد استوعب وأورد قوله في وصف تلاقح الحضارات، وانتهى إلى فشل إمكانية التواشج والحوار بين الحضارات، إلا أنه لم يدرك أن الزمن الذي سيليه قد أسس لتعميق فجوة التنافر والتناشز والتأصيل لثقافة الانغلاق، فلم يكن الأمر حكراً على قيام حضارة ما بالانغلاق على نفسها، فبدلاً من الدائرة المغلقة، أصبحنا اليوم أمام دوائر أكثر انغلاقاً، وسواء اتسعت دائرة تلك الدوائر أم انكمشت، فإن الصياغة الحقيقية لها لا تلوح إلا بالانغلاق وقطع الطريق أمام إمكانية التواصل الخلّاق، فالحضارة والدين والأمة والدولة وحتى المجتمع، بات الجميع يعيش تحت ظلِّ الانغلاق على ذاته، لغرض الحماية من المحيط الخارجي من جهة، ولأجل التنمية الذاتية من وجهة نظر أخرى، والحقيقة أن الآخر بات أكثر رعباً من بين جميع الفترات والحقب التاريخية، وحقّ للجماعات أن تفتعل الأروقة في داخر الدوائر المغلقة... لذلك يجب الإقلاع عن وهم ما يسمى بالحوار والتواصل (حوار الحضارات، حوار الأديان، تواصل الثقافات).
والعجب يكمن في أن الأمر قد ألقى بضلاله على الاسرة، فالأخيرة بدأت تأخذ موضع الانغلاق على الأُسر الأخرى، فالمتابع لطبيعة الحياة الأسرية قبل ربع قرن، سيجد إمكانيات التواصل والتلاقح حاضرة وبقوة، أما اليوم فبدأ الناس يعيشون في محيط مغلق، يفتقر هذا المحيط إلى أدنى مظاهر التواصل، حتى صلة الرحم، فإنسان اليوم يخرج بعياله من بيتٍ كان يجمعه مع أسرته الأولى، فيهجر الأخيرة بقطيعة مطلقة، ليؤسس إلى أسرة تنشأ بمعزل عن الاسرة المربية الأولى، بل يذهب البعض إلى ضرورة عدم تواصل الأبناء مع أبناء الأسر القريبة عليه، بغية الأثر والتأثير، لأنه بصدد خلق دائرة مغلقة خاصة، تنشأ وتترعرع في فضاء خاص لا يحيط به سوى الأب، ومن دون أيِّ أثرٍ أو تأثير.
وقد اتسع الموضوع كثيراً إلى جعل الذات الإنسانية دائرة مغلقة على ذاتها، فأصبح الآخر جحيماً حقيقياً، لا كما وصفه الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر) بأنه جحيمٌ مثمر، لان الذات لا تنكشف إلا بالآخر وإن كان جحيماً، أما الآخر في عصرنا الحالي، فيمثل هلاكاً من وجهة نظر الذات، وكل ما على الأخيرة فعله أن تردم مسافات التلاقح والتواصل مع ذلك الآخر، لنجد أنفسنا اليوم لا نعيش إلا بذاتنا، مع ذاتنا ومن أجل ذاتنا، فاتسعت بذلك دائرة الأنانية وانعزلت الدائرة الاشتراكية التواصلية.
وفي الآونة الأخيرة، يربط صاحب هذا المقال جميع ما يكتب، بألوانه المختلفة، مع ما يمرُّ به مجتمع فلسطين العزيز، ونعتقد أن التأسيس للدوائر المغلقة قد أدى بنا إلى أن نكون مجرد ذوات تستخدم آلات ناقلة للأخبار، نتفرج على ما يحدث، ويكتفي أشرفنا بالتحسر على ما سيحدث، من دون موقف يذكر، لا قولاً ولا فعلاً... وإن وجد ذلك القول أو الفعل، فإن الأصل في ذلك هو (التشكل الكاذب للذوات)، فالأمر كما هو مخطط له، أكتفي بدائرتي وأعمل على إحكام إغلاقها وليحصل ما يريد أن يحصل.
ويمكن لنا بالأخير أن نجد السبب الحقيقي من وراء قصورنا إزاء القضية الفلسطينية، فلقد باتت الدول والمجتمعات والذوات البشرية تختلق لها مناخاً مغلقاً تمارس فيه أنانيتها بمعزلٍ عن جميع ما يحصل أو ما سيحصل في القشرة الخارجية لذلك السور المغلق، فاكتفت الدولة بالدفاع عن حكومتها، والشعب عن مغانمه، وليذهب الآخر إلى الجحيم، لأنه لا يمكن أن تتصوره إلّا بعدّه جحيماً.
***
د. حيدر عبد السادة جودة