أقلام فكرية
أسعد عبد الرزاق: تأملات في مرجعية القيمة المعرفية للفعل الأخلاقي

في فلسفة الاخلاق جرت دراسات ونقاشات كثيرة حول فلسفة الاخلاق والاسس المعرفية للقيم الأخلاقية، في سياق المحاولة نحو تفسير فلسفي ومعرفي محدد عن قيمة الأحكام الأخلاقية، وارتبطت تلك الأبحاث بالأسس الفلسفية والعقلية لأحكام العقل العملي، وتنوعت المداخل واختلفت النتائج بحسب زوايا نظر متباينة من قبل المهتمين بهذا الموضوع.
وبعد أن اطلعت على بعض المدونات في هذا المجال، تساءلت عن مدى إمكان تصور منحى آخر غير العقل وفلسفاته في تفسير وتبرير الحكم والفعل الأخلاقي، وهل يمكن للوجدان الإنساني أن يتكفل في منح الحكم الأخلاقي قيمته وموقعه وأهميته؟ وكيف يمكن الوثوق بالوجدان في مقام تقييم المعايير الأخلاقية؟ يُعدّ هيوم من روّاد التيار الحسي في الفلسفة الأخلاقية، إذ أكد أن المشاعر والوجدان هما الأساس في تقييم الأفعال. ففي أعماله مثل "مقالة عن الطبيعة البشرية" يُظهر كيف يُعتبر الشعور – وليس العقل المجرد – المعيار الأساس لتحديد الخير والشر، وابن سينا أيضا،
في إطاره الفلسفي والطبي، ناقش العلاقة بين العقل والوجدان، معتبرًا أن تقييم الفعل الأخلاقي يرتكز على تفاعل العقل مع الشعور الداخلي. فقد بيَّن أن لتحقيق السعادة والفضيلة يجب أن يكون للفرد وعي داخلي يتكامل مع تجربته الحياتية الواقعية، مما يساهم في تنظيم النفس وتوجيه السلوك (ظ: نفسيات ابن سينا، برنارد كارا دوفو، ابن سينا: ص ١٣٣، هنداوي)
ان التفاعل الوجداني مع القيمة الاخلاقية يمنحها قيمة مضافة الى جانب عقلانيتها وهو ما يدعم فكرة الغائية الاخلاقية للوجود الانساني..
ومن هنا لا بد من التحول بالقيم الاخلاقية من ميدانها المفاهيمي المجرد وبناءها الفلسفي النخبوي، الى ميدان النفس الانسانية وحاجتها المعنوية للقيمة الأخلاقية..
ان هذا التصور يحد من مساحة الجدل حول فلسفة الاخلاق والأساس المعرفي للقيم الأخلاقية..
المرور عبر الواقع من أجل اكتشاف قيمة القيم ومدى حقانيتها، أهم من المرور عبر العقل وهو يتردد بين أولويات متعددة في ميدان تبرير الحكم الأخلاقي..
إن مرحلة الشهود الواقعي المتاح لكل فرد من شأنها أن تحدد القيم الواجبة لدى العقل.
ابعاد الاختبار الوجداني للقيم في عصر التقدم:
من أهم الأبعاد والآثار المتوقعة من تلقي القيم عبر قيمتها لدى الوجدان الانساني، هو فاعليتها في مختلف الظروف الزمانية والمكانية، من خلال توقع الجدوى والاثر الواقعي للقيم، ومما يضمن تلك الفاعلية هو النضج الوجداني للإنسان الذي يساير الظروف والمتغيرات، فرب موقف أخلاقي يعد قيمة عليا في العصر الراهن بسبب تفاعله مع وجدان الانسان المعاصر، ومع التسليم بثبات الموقف الفطري والوجداني للإنسان فإن التفاوت يقع في أولويات التفاعل وتفاوت الحاجة الى القيمة الأخلاقية بحسب طبيعة الحياة وحاجاتها ومتطلباتها، فثبات الأخلاق شيء ونسبية الحاجة اليها شيء آخر، فالأخلاق النظرية ثابتة الى حدما، في حين تتفاوت الأخلاق العملية بتفاوت الحاجة والنقص الانساني في مختلف مراحل الحياة، فرب حاجة الى أخلاقيات العمل في زمن تتوفر فيه عوامل النمو الاقتصادي، أو تنمو الحاجة الى أخلاقيات التضامن والتكافل في ظروف الأزمات والأوبئة..، وهكذا تكون الحاجة الوجودية الى أي من القيم الأخلاقية نسبية بحسب طبيعة المرحلة والظروف التي تحيط بها.
و المشكلة -بالأحرى- مركبة من شقين، الأول أفول القيم وبقاءها في التراث كأجنّة كما يعبر عنها محمد إقبال، والثاني هو الاستدعاء الاعتباطي لبعض منها، من دون الالتفات الى ما يتطلبه الواقع الراهن، لأن مشكلات الإنسان لها تمظهراتها وخصوصياتها عبر الزمن، وهي واحدة من مشاكل القيم عندنا في البيئات الاسلامية عندما يتم استدعاء القيم من التراث على نحو شعارات خطابية، والذي ينبغي إدراكه، هو ضرورة قراءة الواقع وتشخيص طبيعة المشكلات التي تستدعي قيماً خاصة متبلورة بوعي جديد، يجعل منها إطاراً حيّاً وعملياً في توجيه قيم المجتمع ونظمه.
ففي تجربة الغرب في جانبها الايجابي ثمة ما ينبغي ملاحظته من توظيفهم للقيم بما يحتاجون اليه، فنمت عندهم مثلا قيم العمل واخلاقيات المهنة، حتى بدا المجتمع وكأنه اكتسب سلوك الآلة في نشاطه، بأن تجرد عن جوانب انسانية كثيرة تتعلق بالعلاقات الاسرية والاجتماعية في سبيل تحقيق العمل الدؤوب نحو التقدم الصناعي والتقني، في حين لم تتقدم البيئات العربية في هذا الميدان، مع أنها بقيت محافظة على قيم قديمة رسخت فيهم الألفة والعلاقات الاجتماعية على حساب التقدم المهني والصناعي.
التباينات:
الكرم يُعتبر قيمة هامة في معظم الثقافات، ولكن كيفية التعبير عنه يمكن أن تختلف: في الثقافة العربية، الكرم يتجلى في استضافة الضيوف بشكل كبير، وهو قيمة متوارثة، في الثقافات الأخرى، قد يُنظر إلى الكرم بالنحو الذي ورثه العرب نوعاً من البذخ، وتتجلى صورته عندهم ما يكون على نحو تقديم المساعدة والدعم المادي للمحتاجين.
من هذا المثال البسيط يظهر أحد وجوه التفاوت، ومدى افتراض ثبات الاخلاق من تغيرها، على أن مقدار التغير -في حد المثال أعلاه-يكمن في كيفية التطبيق والفعل للكرم كقيمة أخلاقية، وفي كلا النموذجين يتضح محل اختبار الفعل الأخلاقي ومدى تجسيده للقيمة المختزلة فيه.
إن المبالغة في تعقل القيم فلسفياً، قد يفقدها مجالها وفاعليتها في الواقع، ومن هنا تبرز ضرورة منطق التبسيط في عصر تتسارع فيه النماذج الحضارية بين الظهور والأفول.
وفي مقام إدراك أزمة القيم في الواقع الراهن، تتجلى ضرورة انصهار القيم في مجال الفعل والواقع العملي، من خلال تحديد أولوية الصدق والانطباق والفاعلية في عمق السلوك الاجتماعي، بعيدا عن عبء المصطلحات والتنظير المجرد، الذي يحيل بنحو ما الى صراع المنظومات القيمية، في حين لابد من وعي القيم كمعيار لتقييم المجتمعات، وذلك عن طريق ملاحظة الواقع العملي وتجلي القيم في نماذج الممارسة.
***
د. أسعد عبد الرزاق الأسدي