أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: معنى اللامحدود.. اتجاهات فلسفية

اكتسبت فكرة اللامحدود أهمية كبيرة في الفلسفة والعلوم والاخلاق، فهي تتحدى فهمنا للواقع والوجود وحدود التفكير البشري. مفهوم اللامحدود او اللامتناهي infinity سحر الفلاسفة والرياضيين والثيولوجيين منذ العصور القديمة. فكرة الشيء اللامحدود واللامتناهي تتحدى الطريقة التي نفهم بها العالم وتثير أسألة عميقة حول الواقع والوجود ذاته. هذه الفكرة حفزت العديد من الفلاسفة على مر السنين وهي مستمرة في تحريض النقاش حول طبيعة الكون ومكاننا فيه. لكن ماذا نعني بالضبط باللامحدود؟

فلاسفة اليونان القدماء واللامحدود

كانت الأفكار اليونانية القديمة حول اللامحدود مثيرة لإهتمام الناس في ذلك الوقت. اليونانيون ناقشوا الفكرة بطرق لازالت تؤثر فينا حتى اليوم. لكن ماذا كانوا يعنون بفكرة الـ"اللامحدود"؟

أحد فلاسفة اليونان القدماء اناكسمندر قال ان الكون ذاته بلا حدود او "لانهائي". كان هناك شيء غير محدود (أطلق عليه اسم Apeiron) يتجاوز ما نستطيع رؤيته. هو اقترح ان الأشياء باستمرار تأتي من هذا العالم اللا محدود الى عالمنا ومن ثم تتحطم او تخرج من الوجود قبل ان تعود مرة اخرى – تشبه نظام تدوير كوني. في تلك الأثناء، كانت لفيثاغوروس رؤية مختلفة. هو فكّر حول اللامحدود في الرياضيات – خاصة عند دراسة الأعداد اللاعقلانية (أعداد لا يمكن كتابتها كنسبة). التفكير بالكسور العشرية اللامتناهية كان له تأثيرا مدهشا جدا على أذهان البعض. لاحقا حلل ارسطو كيفية فهمنا لـ اللامحدود وقسمه الى نوعين: لامحدود محتمل ولامحدود حقيقي. طبقا لارسطو، اللامحدود المحتمل يمكن ان يستمر الى الابد لكنه لم يتم بعد (كما في العد). وفي نفس الوقت، اللامحدود الحقيقي ليس له نهاية فعلية (هو صارع مع هذه الفكرة مفاهيميا).

زينون أحد تلامذة افلاطون جاء ببعض المفارقات التي بيّنت ان الحركة مستحيلة(1). هذه المفارقات كانت ألغازا صادمة للذهن حول الزمان والمكان وتجزئة الأشياء. انها جعلت الناس يتسائلون ان كان اللامحدود شيئا اخترعناه ذهنيا بدلا من ان يكون له وجود في العالم الواقعي. كلا هاتين الفكرتين حفزتا لاحقا على التفكير العميق من جانب الرياضيين والفلاسفة. الفكرتان جعلتا المرء يتسائل عن مقدار ما يستطيع فهمه حول كل شيء – مهما كان.

التفسيرات المدرسية والقرون الوسطى

خلال القرون الوسطى، استطلع الناس الثيولوجي لفهم اللامحدود. العلماء ربطوا هذه الفكرة بالمدرسية scholasticism بما في ذلك المفكرون الكبار مثل توما الاكويني. نظر الاكويني الى اللامحدود من خلال استكشاف الصفات الالهية. هو اعتقد ان الخيرية والقوة والمعرفة هي أجزاء لا محدودة من طبيعة الله. غير ان الأكويني اعتقد ايضا ان هناك اختلافا واضحا بين الاشياء اللامحدودة – مثل الله - وتلك المحدودة التي تشمل كل شيء نستطيع لمسه او رؤيته. طبقا للاكويني، حتى عندما يكون الكون كبيرا ومدهشا، فهو ليس له لا محدودية في جوهره. أفكار الاكويني ساعدت في توضيح كيف يمكن لـ إله لا متناهي خلق عالم محدود. أفكاره بيّنت للمسيحين في القرون الوسطى بان المرء يمكنه الايمان بكلا الشيئين في وقت واحد دون تناقض. حاول المفكرون عبر استعمال التفكير المنطقي المترافق مع نقاش حول الدين (المدرسية)، بذل اقصى الجهود آنذاك ولقرون لاحقة ليس فقط لفهم معنى المسيحية وانما ما يعنيه الوجود ذاته.

الفلاسفة المسلمون مثل الغزالي أغنى وجهات نظر مفكري القرون الوسطى. افكار الغزالي حول الخالق اللامحدود ونقده لما قبل الأبدية كانت محفزة للمفكرين الغربيين وعززت التفكير عميقا. الغزالي كتب بان الناس لا يستطيعون استعمال العقل ليفهموا بالضبط اشياءً لا متناهية. هو قال هذا في كل من الله والكون ذاته. بهذه المحادثات - حتى عندما لم يكن العلماء المسيحيين وجه لوجه مع الكتاب المسلمين، هم كافحوا مع فكرة اللامحدود في المطلق وطوروا سردا وضع تلك الفكرة في قلب الوجود الانساني والتجربة الروحية.

العقلانيون واللامحدود

كان لدى المفكرين العقلانيين اشياء جديدة حول اللامحدود. هم ربطوا اللامحدود بإحكام بكل من الله والكيفية التي تشكّل بها الواقع من خلال التفكير الشاق وباستعمال العقل وحده. الشخصية الأبرز هنا هو ديكارت. حيث صاغ عبارة "الجوهر اللامتناهي" والتي تطبق حسب قوله فقط على الله لأن الله فقط هو اللا محدود حقا. ديكارت جادل ايضا باننا نعرف هذا اوتوماتيكيا لأننا وُلدنا ومعنا فكرة الله سلفا في أذهاننا. من الطبيعي لنا التفكير بان هناك كائن يستمر للابد.

باروخ سبينوزا طور هذه الافكار الى مدى أبعد. هو اقترح بان الله فقط له صفات لامتناهية (كل واحدة منها تعبّر عن مظهر لطبيعته التي سوف لن تتلاشى او تتغير ابدا). في الحقيقة، طبقا لسبينوزا، كل شيء في الوجود يشكل جزءاً من هذا الجوهر اللامتناهي المنفرد. لذا، فان الله والكون متشابهان. هذه الطريقة في النظر للاشياء كانت جديدة تماما. انها كانت تعني رؤية الالوهية في كل مكان بدلا من ان تكون في السماء العليا فقط.

في تلك الأثناء، طرح ليبنز فكرة الـ monads – وهي وحدات اساسية غير قابلة للقسمة. طبقا لليبنز، هذه الوحدات كلها تعكس كامل الكون لكنها تقوم بهذا بانسجام تام لأن الله ذاته هو الذي رتّبها. هو ايضا جاء بالفرق بين اللامحدود الممكن واللامحدود الحقيقي: نحن البشر نتعامل مع الممكنات (كما في حالة استمرارنا بالحساب الى الابد) بينما الله فقط يمكنه تجسيد تام لـ لامحدود حقيقي.

بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة، لم يكن اللامحدود مفهوما رياضيا استُطلع من جانب مفكرين أذكياء. هم جعلوا الفكرة جزءاً من تفكيرهم الميتافيزيقي. ومن المهم جدا، انهم ربطوا اللامحدود بشكل لا ينفصم بالكيفية التي يكون بها الله تاما وفي كل مكان.

اللامحدود في عصر التنوير

في عصر التنوير، بدأ الناس التفكير حول اللامحدود بطرق جديدة. بدلا من رؤية اللامحدود فقط كفكرة دينية، هم بدأوا النظر اليها علميا وفلسفيا ايضا. عمانوئيل كانط جاء بشيء ما أسماه تناقضات "antinomies ". هذه التناقضات تحدث عندما نستخدم أذهاننا للذهاب الى ما وراء عمل الحواس (وهو ما يقوم به العقل). كانط قال ان هناك مشاكل منطقية في كل من التفكير بالكون كلامتناهي والتفكير به كمتناهي. فمثلا، لو نقول ان الكون يجب ان ينتهي في مكان ما، عندئذ السؤال هو ماذا يكمن وراء ذلك؟ لكن كيف يمكن لأذهاننا ان تستوعب اللانهائية لو قلنا انها تستمر الى الأبد؟ كانط اعتقد ان هذه الأنواع من الأسئلة تبيّن ان هناك حدودا للمنطق الانساني: نحن لا نستطيع تماما فهم اللامحدود لأنه ليس شيئا تستطيع حواسنا تصوره. لذا، بدلا من ان تكون حقيقة قائمة على التجربة (والتي أسماها كانط الواقع التجريبي)، هو اعتقد باللامحدود كفكرة اخترعناها لمساعدتنا في فهم الكون. هذا العصر ايضا شهد تعديلات مكثفة عندما استخدم المفكرون وبشكل متدرج هياكلا عددية وعلمية لفهم اللامحدود. مثال على هذا هو علم التفاضل والتكامل الذي تم اختراعه بواسطة نيوتن وليبنز. انه يستلزم كميات لا متناهية في الصغر أقرب الى الصفر دون الوصول اليه – لحل مشاكل حول التغيير المستمر.

هذه التطورات، ساعدت التنوير في نقل مفهوم اللامحدود الى ما وراء الميتافيزيقا وحدها. المفكرون يرون المفهوم كشيء حيوي لكل منْ يعمل في الرياضيات والعلوم.

الاستطلاعات الفلسفية الحديثة

في العصر الحديث، ابتعدت الاستطلاعات الفلسفية في اللامحدود عن النقاشات الميتافيزيقية الكلاسيكية، لتحتضن اتجاهات وجودية وفينومينولوجية. مفكرون مثل سارتر وادموند هسرل انتقلوا للتركيز من اللامحدود كمفهوم نظري الى مضامينه في التجربة الانسانية والوعي. جين بول سارتر الوجودي البارز تعامل مع اللامحدود من منظور الحرية الانسانية ولا محدودية الخيار. جادل سارتر ان الانسان كُتب عليه ان يكون حرا، بما يعني ان حجم الإمكانات وغياب الجوهر المقرر سلفا يلقي علينا مسؤولية لا محدودة عن أفعالنا. هذه اللامحدودية الوجودية تسلط الضوء على الإمكانات اللامتناهية التي تشكل وجودنا ومشروعنا الدائم للخلق الذاتي. في العصر الحديث، أصبح التركيز على ما تعنيه اللامتناهية لحياة الافراد (الوجودية) او كيفية التعامل معها (فينومينولوجيا).

سارتر نظر الى فكرة اللامحدود من حيث علاقتها بالحرية: كوننا نستطيع دائما عمل خيارات، ليست مقيدة بأي شيء. قال سارتر ان الناس "محكوم عليهم بالحرية" لأنه عندما يكون كل شيء ممكنا لك، انت عندئذ مسؤول عن كل شيء تقوم به. هذا المظهر اللامحدود ينظر في الكيفية التي تحدد بها الإمكانات اللامحدودة منْ نحن وكيف نخلق أنفسنا باستمرار.

أدموند هسرل، مؤسس الفينومينولوجي، عالج اللامحدود عبر فحص الآفاق اللامتناهية للوعي الانساني. طبقا لهسرل، الوعي دائما له هدف او قصد وهذا التوجيه يستمر الى ما لانهاية لأننا نمتلك تجارب ورؤى جديدة. هذه الفكرة تنطوي على ان الخبرة الذاتية يمكن ان تكون عميقة بلا حدود: هناك دائما الكثير لفهمه والتفكير فيه في كيفية ادراكنا للاشياء. الفيلسوف الفرنسي ايمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas أدخل مفهوم المسؤولية اللامحدودة نحو الآخر. بالنسبة له، ان ارتباطنا الأخلاقي مع الآخرين يتطلب منا ان نستجيب بلا محدودية – واجب لا متناهي يذهب وراء الفهم او الحساب. هذا المنظور يتعارض بشكل صارخ مع الميتافيزيقا الكلاسيكية لأنه يتعامل مع اللامحدود ليس في تنظير مجرد وانما في كيفية ارتباطنا أخلاقيا ببعضنا البعض.

الرؤى المعاصرة لـ اللامحدود

في عالم اليوم، لم يعد اللامحدود فقط موضوعا لتأمل الفلاسفة. انه يدخل في الرياضيات والمنطق ايضا حيث الناس مثل الفيلسوف الامريكي هيلاري بوتنام استخدم فكرة الهياكل الرياضية اللامحدودة في دراسة قضايا في فلسفة الرياضيات وفلسفة الذهن. اللامحدود ايضا يلعب دورا في فرعين من الفيزياء الحديثة: الكوزمولوجي الذي يدرس الأسئلة المتعلقة بالكون ومكاننا فيه، وفيزياء الكوانتم التي تستكشف المظاهر الاساسية للواقع.

عندما يدرس علماء الكون مدى اتساع الكون مثلا، فان بعض الافكار التي يعملون بها لها أبعاد لامحدودة – او تقترح ان هناك أكوانا لا محدودة الى جانب كوننا. في فيزياء الكوانتم، اللامحدودات تظهر فوق المكان. انها استُعملت لحساب مدى احتمال تفاعل الجسيمات خلال ردات الفعل او تصف الارتباطات الشبحية بين عدة أجزاء لا محدودة لفضاءً فارغ. التكنلوجيا ايضا تستكشف مفهوم اللامحدود من خلال استكشافها لـ "إمكانات حسابية لامحدودة". مثال على هذا تطوير الحوسبة الكمومية. انها تستعمل مبادئ مثل التراكب والتشابك لتؤدي في نفس الوقت حسابات لامتناهية. لذا انها قد تزيد بشكل دراماتيكي كل من مقدرة الكومبيوتر وكيفية استعماله. هذا التعامل الحديث مع اللامحدودية يعرضها ليس فقط كشيء مجرد او فلسفي وانما كقوة حية تساعد في قيادة التحقيق العلمي والإبتكارات التكنلوجية.

***

حاتم حميد محسن

............................

* للمراجعة: The collector, 24Jan, 2025

الهوامش

(1) طبقا لزينون (430-490ق. م) اذا كان كل شيء في الوجود له مكان، فان هذا المكان هو ايضا له مكان، وهذا الاخير يحتاج ايضا الى مكان وهكذا تستمر السلسلة الى ما لانهاية (الفيزياء، ارسطو قسم 208). عرض زينون سلسلة من الحجج المنطقية في إثبات ان الحركة والتغيير والتعدد هي مستحيلة. من بين 40 حجة نُسبت الى زينون كانت هناك أربع مفارقات هامة تتعلق بموضوع الحركة ومنها مفارقة السهم ومفارقة السباق: في الاولى يرى زينون لكي تحدث الحركة يجب على الشيء ان يغيّر الموقع الذي يشغله، يعطي هنا مثالا عن السهم. في أية لحظة السهم لا يتحرك الى المكان الذي هو فيه، ولا الى المكان الذي هو ليس فيه. هو لا يمكنه التحرك الى المكان الذي هو ليس فيه لأنه لم يمر وقت كافي لكي يصل الى هناك، وهو لا يمكنه الحركة الى المكان الذي هو فيه لأنه موجود فيه سلفا، بكلمة اخرى، لا وجود لأي حركة هناك، فاذا كان كل شيء ساكنا في أي لحظة، والزمن مؤلف من لحظات عندئذ تكون الحركة مستحيلة. وفي مفارقة السباق يؤكد ايضا ان ليس هناك أية حركة لأن منْ يتحرك يجب ان يصل الى المنتصف قبل الوصول الى النهاية، ولكن قبل الوصول الى المنتصف لابد من الوصول الى منتصف نقطة المنتصف، وهذه الاخيرة لا يمكن بلوغها قبل الوصول الى منتصف منتصف النقطة الاولى وهكذا الى ما لانهاية. هو يعتقد بوجود عدد لا متناهي من نقاط الوسط بين أي موقعين ويتسائل كيف لنا عبور كل هذه الأعداد اللامتناهية للمواقع، وبهذا تكون الحركة مستحيلة. بمحاولة زينون نفي الحركة يكون قد أثبت لامحدودية المكان والزمان. لكن ارسطو انتقد مفارقات زينون قائلا بعدم وجوب افتراض ان مسار المتسابق يعتمد على أجزائه، لأن المسار موجود سلفا، والأجزاء تأسست من جانب المراقب، وكذلك أشار الى ان الخط لا يحتوي على نقاط غير قابلة للقسمة. غير ان هذا النقد تعرض بدوره الى نقد مضاد لكونه غير منسجم مع المستويات الحالية للتحليل وفرضياتها في اللامحدود الحقيقي.

 

في المثقف اليوم