أقلام فكرية
حيدر عبد السادة جودة: الأبعاد الميتافيزيقية للفلسفة الوجودية
في فترة من الفترات كان هناك اهتماماً كبيراً في الوصول إلى الحقيقة النهائية، وتبعاً لذلك كانت المباحث الميتافيزيقية تزدهر، كونها تدعي لنفسها إمكان الوصول إلى الحقيقة المطلقة. أما في المرحلة التي لا تهتم بوجود حقيقة نهائية، وهي مرحلة الوضعيين واللاادريين، فإن الميتافيزيقا تخبو وتتراجع، مع ذلك فمن المشكوك فيه أن يكون من الممكن أخذ تحريم الميتافيزيقا مأخذ الجد الكامل، ذلك لأن الذين ينكرون الميتافيزيقا، يمارسون نوعاً خاصاً بهم من الميتافيزيقا. فحتى النقودات التي وجهها (ديفد هيوم وكانت)، لم تكن بقصد القضاء على الميتافيزيقا، وإنما وضعا علامة استفهام كبيرة على هذا البحث الذي أصبح سيئ السمعة عند كثير من الناس. فقد استمر التأمل الميتافيزيقي على أشده في القرن التاسع عشر، فبرزت ما يسميه (جون ماكوري) بـ الميتافيزيقا الأكثر تواضعاً، وهي ميتافيزيقيا وصفية أكثر منها تأملية، كالتي ظهرت مع (وايتهد)، فهي تأخذ على عاتقها وصف أكثر المقولات عمومية التي يفهم عالمنا بواسطتها، كما تكتشف أعم شروط التجربة... ولقد أصبح بعض الفلاسفة الذين ينكرون إمكان قيام الميتافيزيقا النظرية على استعداد للتسليم بمشروعية ما أسماه (ماكوري) بالميتافيزيقا الأكثر تواضعاً.
وإن الفلاسفة الوجوديون يرفضون الميتافيزيقا النظرية التي تريد أن تحلّق في الأفاق البعيدة، على أساس أن الوجودي ينكر قدرة الفكر على إدراك الحقائق الواقعية العينية للوجود البشري وتنظيمها في مذهب عقلي شامل، فنرى وجودية (كيركجورد) ما هي إلا احتجاج على المذهب الميتافيزيقي لـ(هيغل)، وظل الوجوديون المتأخرون ضد الميتافيزيقا بهذا المعنى، ولكن إذا كان الوجوديون قد فقدوا الثقة في الميتافيزيقا العقلية فليس معنى ذلك أنهم يرفضون كل ميتافيزيقا، فبكون الموجود البشري هو الموضوع الرئيسي للوجوديين، فإن ذلك يستتبع إثارة أسئلة من النوع الميتافيزيقي.
ويستخدم بعض الوجوديين تعبير الميتافيزيقا عن عمد، للدلالة على تلك الأجزاء من فلسفاتهم التي تناقش أسئلة عامة حول مكانة الإنسان في العالم، ويتجنب وجوديون آخرون كلمة الميتافيزيقا، ولكننا نجدهم يستبدلون بها كلمة أخرى مثل الأنطولوجيا... ومن بين الذين يستخدمونها عن عمد هو (بردياييف)، ويذهب إلى أن (إيمانؤيل كانت) هو الذي جعل الميتافيزيقا الوجودية ممكنة، والميتافيزيقا التي يستعملها (بردياييف) هي ميتافيزيقا الذات، في مقابل ميتافيزيقا الموضوع، لكن هذا التعبير بحسب (ماكوري) تعبير مضلل، إذ قد يغرينا بأن نفهم الذات بوصفها ذاتاً مفكرة، في حين أن (بردياييف) يريد أن يؤكد على أن الميتافيزيقا عمل للإنسان ككل.
أما هيدغر فقد جعل من الأنطولوجيا مركز اهتمامه، إلا أن (ماكوري) يشير إلى أن هايدغر في كتاباته المبكرة، لا يكاد يميز ما بين الأنطولوجيا والميتافيزيقا، ففي كتابه ما الميتافيزيقا، يتخذ مشكلة العدم مثلاً توضيحياً للمشكلة الميتافيزيقية، ويبين ارتباطها الذي لا ينفصم بمشكلة الوجود، لكن هيدغر أصبح بمضي الوقت يميز بين البحث الأنطولوجي والميتافيزيقا، ويتحدث عن قهر الميتافيزيقا، فقد اهتمت الميتافيزيقا، كما يفهمها، بالموجودات بدلاً من الموجود بما هو كذلك، فعجزت عن بلوغ مستوى التفكير الأنطولوجي الحقيقي.
أما (كارل يسبرز)، فيرفض لفظي الميتافيزيقا والأنطولوجيا، لكن له ضرباً من الميتافيزيقا يسميه بـ (الأنطولوجيا الشاملة)، فموضوعها هو الشامل، أي الذي يشمل الذات والموضوع معاً، وينتهي (ماكوري) في كتابه الشهير (الوجودية) للتأكيد على ما قاله (رولاند جرمسلي): إن الحركة التي بدأت بهجوم عنيف على الميتافيزيقا الهيغلية، هي بصورة أخرى حركة ميتافيزيقية. ولو رجعنا في الزمن كثيراً، عند (ارسطو) تحديداً، سنجده ينبّه إلى ما تحدثنا به في هذا المقال، فالكلُّ -بحسبه- يتفلسف (الميتافيزيقا)، حتى أولئكم الذي يعادونها ويُعاندونها، فإنما يفعلون ذلك بضربٍ من ضروب التفلسف.
***
د. حيدر عبد السادة جودة