أقلام فكرية

محمد فراح: موجز فلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول"

مقدمة تمهيدية: يعتبر أوليڤيي روبول فيلسوفا تربويا معاصرا بإمتياز، إضافة إلى أنه تخصص في فلسفة آلان، ويعد كتابه «فلسفة التربية»، الذي نشر في السلسلة الشهيرة «ماذا أعرف؟» التي تصدر عن المطابع الجامعية لفرنسا، سنة 1974، وأعيد نشر هذا الكتاب من جديد، عن نفس السلسلة، ونفس المطبعة، سنة 1989، لكن الجديد في هذه المرة، هو أن الكتاب ثم تنقيحه وتعديله والإزادة فيه، خاصة وأن حقل التربية في فرنسا شهد مستجدات فريدة من نوعها، بل نلحظ معه في هذا الكتاب، إمتدادات جديدة للتربية مع حقول أخرى مغايرة لها مثل السلطة والقيم أيضاً، هذه الأخيرة التي سيعيد إفراد كتاب خاص بها عنونه ب «قيم التربية»، نشره سنة 1992، على أي، ما يهمنا هنا، هو أننا سنعمل على وضع ملخص عبارة عن وجيز مركب وشمولي جداً أو مدخل إلى فلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول، إعتمادا على مؤلفه العمدة «فلسفة التربية»، وسنثير إشكالات فلسفية من داخل الكتاب، عبارة عن أسئلة موجهة للتحليل والمناقشة تعرض الموقف من التربية عند روبول، نصوغها كالشكل الآتي:

ما ذا نقصد بفلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول؟

التربية في الأصل، ما هي؟

وما هي أهم المؤسسات التربوية؟

ما هي البيداغوجيا؟ هل يمكن معرفتها من خلال تناقضاتها؟

التربية والسلطة، أية علاقة؟

هل منهج التربية يتمثل في صرامتها؟ ثم الغاية والتربية أية علاقة؟

سنحاول إذن الإجابة بشكل مباشر على السؤال الأول، ذلك المتعلق ب فلسفة التربية لدى أوليڤيي روبول الذي أفرد له عنوانا خاصا به في الفصل الأول من الكتاب «مدخل إلى فلسفة التربية»، حين يقول أن الفلسفة تبدأ «هناك حيث لا تسير الأمور من تلقاء ذاتها، هناك حيث ما كان واضحا بالنسبة للجميع يكف عن كونه كذلك. إنها تبدأ من السخرية السقراطية» [1]، أي إن الفلسفة تبدأ بالحوار، وهي تلتقي في هذا الجانب مع التربية ؛ أي أن ما يميز الفلسفة هو السؤال، ثم الراديكالية، وأنها تفكير في غايات التربية، أي لها طابع معياري، خلافا لباقي العلوم التي تتميز بالموضوعية والمنهج التجريبي وصياغة نظريات علمية دقيقة جداً وصارمة، لذلك يعود بنا روبول إلى تاريخ الفلسفة، من أجل ممارسة الفلسفة، بل والتعرف على فلاسفة التربية الأصيلين الذين فكروا في التربية كمشكلة، نجد منهم أفلاطون و أرسطو و الرواقيون والقديس أوغسطين و توماس الأكويني و إيراسموس وهوبز وجون لوك وداڤيد هيوم وهيلفيتيوس وروسو وكانط وفيشته وهيغل ونيتشه... «حيث شكلت التربية الموضوع المركزي في فكرهم» [2]، لذلك سيقدم روبول تصورا عن العلوم التي تهتم بالتربية مثل علوم التربية من خلال الإثنولوجيا والسوسيولوجيا والسيكولوجيا والسوسيو-لسانيات والإقتصاد ثم تاريخ التربية، هذه العلوم التي تتميز بالصرامة والموضوعية، أما فيما يتعلق بالتحليل المنطقي فهذا هو المنهج المفضل كثيراً عند الأنجلو-سكسونية في تحليل الخطاب ومن عيوبه وحدوده أنه خال من التركيب هذا ما سيتميز به المنهج الدياليكتيكي لدى أفلاطون.

ننتقل الآن للإجابة على السؤال الثاني المتعلق بماهية التربية، لكن أولا حاول تمييزها عن الكثير من الإصطلاحات التي تتداخل معها مثل التعليم والتكوين والنضوج الطبيعي والترويض السلوكي، وذلك من خلال الإختلاف الذي يوجد بين المصطلح وإستعمالاته في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ففي الأولى يحيل إلى «آداب السلوك ما يعني الإنضباط والتكيف مع قواعد الطبقة العليا ورموزها وقيمها وألفاظها المتداولة ولكنها تعني الضبط الحقيقي للذات» [3]، أما في الثانية «تعني التعليم كمؤسسة أي كنظام مدرسي وجامعي » [4]، وما يميز التربية المدرسية هي البرنامج والمنهج الدراسي. لذلك يجب علينا التمييز في التربية بين الطبيعة والثقافة، ذلك أن العلوم الإنسانية تعتبر أن الإنسان يصبح إنسانا بواسطة الثقافة، عكس النظرية الطبيعية التي تعتبر أن الإنسان يولد إنسانا بالفطرة أي بالطبيعة، هنا ما سيجعله ينتقل إلى غاية التربية، هل هي في صالح المجتمع أم في صالح الطفل؟ وهناك من النظريات الإمبريقية والثقافوية من تعتبر أن غاية التربية هو تكوين إنسان مندمج داخل المجتمع، عكس النظرية الطبيعية دائماً التي تدافع عن الطفل لأجل ذاته ولذاته وفقط، وبالتالي غاية التربية هي الطفل ولا شيء غيره، لكن روبول يركز على الجانب الإنساني في التربية التي يجب ترسيخها للطفل، أما فيما يتعلق بالتعريف الذي قدمه للتربية بإعتبارها «مجموع العمليات والطرق التي تسمح للطفل الإنساني بأن يقترب بشكل تدريجي إلى الثقافة تلك الثقافة هي ما يميز الإنسان عن الحيوان» [5].

أما فيما يتعلق بالمؤسسات التربوية، يعرف المؤسسة بكونها حقيقة إنسانية وبالخصوص إجتماعية ثابتة ومنظمة ملزمة تبعا لقواعد ولها وظائف إجتماعية، لذلك سيؤكد أن لا يمكن التركيز فقط على الطابع الوظيفي للمؤسسة، هذا ما نجده مع دوركهايم الذي أراد تعويض مفهوم الوظيفة بمفهوم الغائية، إذن الغائية هي ما تجعل من أي مؤسسة، مؤسسة فعلاً، سيتطرق لثلاث نماذج من المؤسسات التربوية.

أولها مؤسسة الأسرة، الذي تتجلى وظيفتها في تلك التربية الأولية والتحضيرية والإستعدادية للطفل، أي تهيئه للإندماج داخل المجتمع، لذلك يجب عليها التركيز على «قيم الخير والجمال على قيم الشر قبل أن يصير قادرا على التعقل والفهم» [6].كما سيعمل في نقد هذه المؤسسة التي أصبحت تعمل على تقييد الطفل، وتسييج حريته والجانب الإبداعي فيه.

ثانياً مؤسسة المدرسة، والتي اعتبرها منشأة هدفها التعليم للعموم، فهي تعمل على تقديم التعليم الأساسي للأطفال بدون غايات مهنية، أما فيما يتعلق بسؤال لماذا المدرسة؟ ينتقل فيه من النقود الموجهة للمدرسة، خاصة نقد إيڤان إليتش لها، من خلال إلزامية المدرسة وإحتكارياتها، لدرجة أنه يرفض رفضا كليا المدرسة من خلال كتابه «مجتمع بلا مدارس»، يرد عليه روبول المعرفة المدرسية لها ما يميزها وذلك كالآتي:

أولاً: معرفة طويلة الأمد.

ثانياً: معرفة منظمة.

ثالثاً: معرفة مضبوطة من الناحية الديداكتيكية.

رابعا: معرفة برهانية قابلة للفحص والنقد والمراجعة.

خامسا: معرفة نزيهة محايدة بغير غاية مهنية.

لينتقل في الأخير إلى التأكيد أن المدرسة تقدم تكوينا خاصا ولها وظيفة أخلاقية متجدسة في التربية على القيم.

ثالثاً مؤسسة الجامعة، حيث إعتبرها مؤسسة للتعليم العالي والبحث العلمي لها بدورها ثلاث وظائف.

أولاً: الوظيفة التعليمية.

ثانياً: الوظيفة التثقيفية.

ثالثاً: الوظيفة المهنية.

التعليم العالي إذن هو تعليم غرضه المساهمة في بناء وإعادة بناء المعارف الأساسية ويركز على هذه الأخيرة جيداً، كما أنه يهتم بجانب البحث العلمي المعمق الأساسي بصفة عامة، غرضه الإختراع والإبتكار والمساهمة في إنتاج وإعادة إنتاج معارف جديدة أساسية ومبتكرة، كما أن له بعد قيمي أيضاً، وبعد معرفي وبعد فلسفي.

لذلك فالمؤسسة الجامعية تحاول إنتاج المعارف والعلوم والبحوث العلمية المبتكرة من أجل الإستفادة من هذه الخبرات والمهارات لنفسها بغرض الإنفتاح على المجتمع.

ننتقل الآن للإجابة على السؤال المتعلق بالبيداغوجيا حيث أن أوليڤيي روبول يحملها في معنيين ؛ فهي فن بما أنها تدل «أولا على كون الشخص بيداغوجيا، على إكتساب فن التعليم والتربية، وهي مهارة تتعلم بالممارسة» [7]، «وهي نظرية كما يقول دوركهايم، بما أنها تهتم بتطبيق العلوم الإنسانية على فن التربية» [8]، وهو يعرفها، بدمج المعنيين معا، بقوله «البيداغوجيا هي هذا الفن المعقلن الذي يعطي لأولئك الذين نربيهم الوسائل والرغبة في تعلم ما لا يعرفونه» [9].

كما إعتبر روبول أن أول من مارس مهمة البيداغوجي هم السوفسطائيون الإغريق الذي عرفوا بتوجيه الشباب، وجعلوا التعليم فنا منهجيا لهم، كما أن النظريات البيداغوجية مرت من ثلاث مراحل أساسية:

الأولى: التيار الكلاسيكي الذي إعتمد على المضمون والمحتوى التربوي.

الثانية: التيار الوظيفي والتقني الذي ركز على تحديد الأهداف الإجرائية/ الوظيفية.

الثالثة: التيار الإبداعي الذي يركز على الإبداع الذاتي والحر للمتعلم.

يرى روبول أن البيداغوجيا تتيح لنا مجموعة الوسائل تساعدنا في التعلم، ومن الوسائل المميزة للبيداغوجيا نجد الرغبة والحافزية والدافعية والهاجسية ومركز على مشاركة المتعلم لبناء معارفه الأساسية.

لينتقل فيما بعد للحديث عن التلقين والتلقائية، وذلك من خلال تأكيده على أن التلقين عملية سلبية جداً تذكرنا بالبيداغوجيا الكلاسيكية، والتي تجعل من الطفل متلقيا سلبيا، عكس التلقائية التي هي مرادف لكلمة الحرية والتعبير عن الذات، إنها مشاركة المتعلم في بناء وإكتشاف المعارف لذاته وبذاته، لذلك يخبرنا بأنه يجب «التركيز على بيداغوجيا الكفايات» [10]، كما أن ما يميز البيداغوجيا هو الأساليب التقنية التي توفرها للمدرس، ومع تنامي الإبتكارات التقنية من تعليم مبرمج، وتعليم بواسطة الحاسوب أو الذكاء الإصطناعي، أصبح دور المدرس جوهريا متمثلا في التوجيه والإرشاد وتوعية وتثقيف المتعلمين وتشجيعهم على إستعمال هاته التقنيات، لينتقل فيما بعد، إلى البيداغوجيا بين القطيعة والإتصالية، وهنا نجده يؤكد على تصورين:

الأول: الداعي للقطيعة متمثلا في التيار الكلاسيكي أي أن الطفل يقطع مراحل مختلفة أثناء نمائه من طفل إلى مراهق أو راشد تم باقي المراحل، والتربية تحدث قفزات نوعية مع الطفل.

الثاني: الذي يدعو إلى الإتصالية المتمثل في التيار المجدد /الوظيفي والذي يؤكد على ضرورة الإستفادة من ما سبق والإنفتاح عليه دون القطع معه، والتعامل مع المراحل النمائية للمتعلم في كليتها دون تجزيئ.

لذلك سيركز روبول على التصورين معا، لتكوين تصور واحد ووحيد مركب وشمولي من خلال الفصل والوصل، وذلك لأن القطع قد يؤدي إلى الفشل الدراسي أما الوصل «لا يركز على القيمة الإيجابية للتربية» [11]، سنلاحظ هنا أن روبول ميز في هذا المحور أو أثناء إجابته على سؤال البيداغوجيا إنطلاقا من مفردات متناقضة، أي التركيز على تناقضاتها، الإكراه والرغبة، والتلقين والتلقائية، والشك والتقنية ثم أخيراً القطيعة والإتصالية، لينقل فيما بعد للسلطة والتربية أية علاقة؟

يجيب روبول على هذا الإشكال من خلال أن التربية تشكل علاقة عمودية مع المتعلم/ الطفل، هذه العلاقة هي ما تحدثنا على مفهوم السلطة خاصة أن التيار الليبرالي يرفض كل ما له علاقة بالسلطة.

«هل سلطة النظام التربوي شرعية؟ إذا أجبنا بنعم، كيف نفرض هذه السلطة؟ وإذا أجبنا بلا، بماذا نعوض...التربية؟»  [12].

لذلك سينتقل روبول للحديث عن أشكال السلط بعد تعريف السلطة لكونها تلك القدرة التي يمتلكها شخص ما ويدفع بواسطتها الآخرين إلى عمل ما يريد هو بدون اللجوء إلى العنف، هذه القدرة تعود لوضعيته الإجتماعية وكفائته وبالتالي فكل سلطة تتأسس -حسبه- على الشرعية، هناك العديد من أنواع السلط، مثل سلطة العقد القائمة على أساس تعاقدي توافقي وهي عقلانية، ثم سلطة الخبير تعود لخبرته، ثم سلطة الحكم وهي أقل عقلانية نجدها في الميدان الرياضي، وسلطة النموذج من خلال ذلك الشخص النموذج الذي يفرض علينا سلطة أيضاً، وسلطة الزعيم الذي هو القائد، ثم سلطة الملك – الأب وهي سلطة مطلقة تمارس على الطفل، تحت غطاء حمايته والدفاع عنه.

ما يهمنا في الحقيقة هو سلطة المدرس أو السلطة التي تمارس في التربية، لذلك أفردنا لها فقرة مميزة بها، حيث أن هناك نقاش حامي الوطيس أو سجال حول سلطة التربية، بين التربية الكلاسيكية والمدافعين على التربية الجديدة.

تركز التربية الكلاسيكية على ممارسة السلطة المعرفية على الطفل أثناء عملية التربية، عكس ذلك تدعوا التربية الجديدة، التي تتيح المتعلم الحرية وتحاول تخليصه من كل إكراه سواء كان داخلي أو خارجي، يجب على المتعلم أن يشعر بحريته وترك المجال للإبداع الشخصي الحر والذاتي بغرض إنجاز مشروع خاص به. بل تهدف كذلك إلى توسيع مجال الحرية فهي ضد البرامج الدراسية، ومع ترك الإمكانية للطفل في إختيار المقرر المناسب له، وإتاحة إمكانية الإستقلالية في العمل والتعاون فيما بينهم البين (العمل الجماعي)، لذلك تحث على تجنب ذلك الإكراه، وترك مجال للتعلم الذاتي الذي هو تعلم إبداعي.

لذلك سيعتبر روبول أن هذا التصور الذي يدافع عنه رواد التربية الجديدة تصور مشروع، لكن يشير إلى أن التربية تحتاج كثيراً إلى السلطة، لكن بغاية التخلي عنها، إن غاية التربية هو «أن تسمح لكل واحد بأن يتعلم بنفسه مع الإستغناء عن المعلم وأن ينتقل من الإكراه إلى التعلم الذاتي» [13].

لينتقل فيما بعد للحديث عن التربية والديمقراطية أية علاقة؟ بطبيعة الحال يؤكد روبول أنه توجد علاقة بين النظام التعليمي والنظام السياسي السائد في المجتمع، هو يحيل هنا إلى المجتمعات الديمقراطية التي تقوم على هذا النظام، وبالتالي تعيد تصريفه وإنتاجه عن طريق التربية والتعليم، لذلك سيتحدث عن كيف ينتقل هذا المصطلح للتعليم، بل كيف ستصبح دمقرطة التعليم ضرورة إجتماعية ملحة، «عن طريق توسيع نطاق الحرية والإستقلالية والمسؤولية على التلاميذ أنفسهم» [14].

لذلك يجب على المدرسة أن تعمل على تلقين التلاميذ تعاليم الديمقراطية، والتخلص بقدر ما أمكن من البيداغوجيا التسلطية، إضافة إلى توسيع مجال التعليم الإلزامي الأساسي، كما يلح على ترك المجال للمتعلم من أجل تثقيف وتوعية نفسه بنفسه، ويجب على التعليم الديمقراطي أن يتميز بالحيادية والموضوعية، هذا ما كان يميز المجتمع الفرنسي، الذي يشيد به روبول لأنه يعمل على ترسيخ قيم الديمقراطية، ودرء كل أشكال التسلط الذي قد يتحول إلى مذهبية، ويركز كثيراً على هذه المسألة، ويدعو إلى محاربتها خاصة أن المذهبية لها أثر خطير جداً على التربية بل والمجتمع بشكل عام، لذلك سيفرد كتابا خاصا بها عنوانه ب «المذهبية» أو يمكن ترجمتها ب"التلقين" نشره أي الكتاب سنة 1977.

بعدها يذهب روبول للحديث عن الصرامة في التربية التي لا تنفصل عن التربية بتاتا، لذلك فالصرامة هي عبارة عن منهج يوجد في التربية لذاتها وبذاته، فالنظام التربوي خاصة منهجه صارم جداً، لأنه يعلمنا كيف نكبر ونصبح راشدين، ويعلمنا مبدأ الإلزام والإلتزامية، والطريقة الصحيحة للتعلم، كما ميز بين الصرامة والفاشية، وأن الصرامة ضد الفاشية التي تستدعي القساوة التي يمكن إعتبارها عنفا ووحشية، إن الصرامة عكس ذلك هي التي تجعلنا نصبح أكثر معقولية، لذلك على المربي من خلال عبقريته أن يعلم الطفل كيف يصبح صارما، لذلك يصبح مفهوم الصرامة ملازما لكل نوع من البيداغوجيا.

ننتقل هنا إلى آخر سؤال كنا قد طرحناه في المقدمة، وهو المتعلق بالقيم والتربية، أية علاقة؟ لكن في الفصل الأخير السابع من كتابه هذا والذي عنونه ب «القيم والتربية» [15]، من هنا ينطلق من أنه لا وجود لتربية بدون قيم، حيث أن القيم هي ما تشكل غاية كل نظام يدعي أنه تربوي، بل من وظائف المدرسة هي التربية على القيم، ليجعل من القيم خصيصة النظام التربوي، كما ميز بين أحكام القيمة التي نطلقها على النتائج المدرسية، والقيمة كغاية في ذاتها، ليميز بين العلوم التي ليس غرضها التفكير في القيم، بل تستند على الموضوعية والحيادية والتجريبية، كما جعل من غاية المدرسة هو تقديم التعليم الأساسي، بشكل مطابق لجميع الأطفال بدون أي غاية مهنية، فالتربية الأسرية والمدرسية ليس هدفهما الطفل وإنما الإنسان الذي سيكون بعد عشرين سنة ! إذن القيم التي يتم تربيتها للطفل هي قيم إنسانية، تجعل منه إنسانا على التربية إستهدافها، هناك من يعتبر أن ما يستحق أن يدرس هو ما يتطلبه الإنتاج الإقتصادي والمناقشة الدولية، ربما يكون ذلك مهما، لكن ليس أساسيا، لأنه سيجعل الإنسان عبدا للآلة الإقتصادية، عوضا من جعل الإنسان إنسانا حرا، ومسؤولا «يمكننا ملاحظة مفارقة تتجلى في أن الدول الإشتراكية تضع هذا المعيار (أي العمل الإنتاجي) في المرتبة الأولى، إلا أن النجاح الإقتصادي ليس هو دليل قوتها بينما فيما يخص الثقافة الإنسانية (إبتداءا من قراءة الروايات إلى الموسيقى) فيمكنها التفوق علينا» [16].

إذن كان هذا هو الغرض من كتابه «فلسفة التربية»، وذلك أننا نلحظ في هذا الفصل الأخير منه تركيزه على مسألة القيم من خلال التوجهات الأساسية التي كل منها تنظر إلى موضوعة القيم منظورا خاصا بها، سواء عندما يتعلق الأمر بالوضعية أو حتى النسبوية، لكن ما يهمنا هنا هو الإشكال الذي تثيره مسألة القيم في التربية، حيث تشكل القيم الموضوع المركزي في فلسفة التربية، وكل الفلاسفة التربويين وضعوا تصورا فلسفيا حول القيم، خاصة في الفترة الحديثة مع روسو وإسبينوزا وكانط وفيشته، بل حتى مع كونت ودوركهايم وآلان، فنجد أن هناك نمطين كبيران من القيم، القيم التي غرضها الإندماج الإجتماعي، وتنطلق من المجتمع لتحديد القيم، وبالتالي تصبح القيم هي نفسها السائدة في المجتمع، والقيم الليبرالية التي تدعوا إلى التحرر الذاتي والإستقلالية والمسؤولية والإبداع الحر والذاتي، وبالتالي تجعل من الإنسان المبدأ الأول الكامن في ذاته، تحترم كثيراً توجهاته وإختياراته وتحرره من كل الإكراهات الخارجية، المجتمعية خاصة أنها تحرره من هيمنة الجماعة وتنظر له كإنسان، هذه النزعة الإنسانية هي التي يدافع عنها روبول ويشعر بالفخر بإنتمائه لها لأنها تحرر الفرد من قيوده وتدعوا للإستقلال، هذا بالضبط ما يدعوا له في نهاية هذا الفصل، يدعوا للنظر إلى الإنسانية في الإنسان، والتعامل مع المتعلم كإنسان وليس كشيء، يجب إحترامه وتقديسه، والإخلاص له وتحرير عقله من كل دوغمائية ووثوقية.

على سبيل الختم، إن كتاب «فلسفة التربية» لصاحبه أوليفيي روبول لهو كتاب ممتاز جداً، وشيق أيضاً، بل يمكن إعتباره الكتاب المؤسس لفلسفة التربية في اللحظة المعاصرة، علما أنه سبقه العديد من الفلاسفة للتفكير في التربية كمشكلة، بدءا من أفلاطون وأرسطو إلى جون لوك وداڤيد هيوم وهيلفيتيوس وروسو وإسبينوزا وكانط وفيشته وهيغل ونيتشه وآلان، لكنهم كما قلنا طرحوا التربية كإشكال وقدموا تأملات ميتافيزيقية (نحتفظ  كثيراً على هذا المصطلح) حولها، وذلك لأن غرضهم لم يكن التأسيس لفلسفة التربية، فمثلا السوفسطائيون الإغريق أول من مارسوا البيداغوجيا كمنهج التدريس، لكن لم يؤسسوا البيداغوجيا كعلم مستقل بذاته ولذاته، وكذلك أفلاطون يمكن إعتباره كأول مربي وضع منهجا لتربية المحاربين في جمهوريته، لكنه لم يؤسس لفلسفة التربية وكذلك كانط تأملات حول التربية وليس تأسيس لفلسفة التربية، روسو إيميل أو في التربية وليس التأسيس،...إلى آخره من الفلاسفة، لذلك ننسب لروبول التأسيس الفعلي، كما أن كتابه هذا كان عبارة عن ملخصات مكثفة ومركزة لفلاسفة التربية عبر تاريخ الفلسفة، نجد هنا وهناك إقتباسات وإشارات لفلاسفة التربية الكلاسكيين، لكن في حقيقة الأمر أوليڤيي روبول عندما كان أستاذا بجامعة ستراسبورغ بفرنسا، لم يكن يعتبر نفسه فيلسوف تربية، بل هذا الإسم سيأتي فيما بعد عندما حوَّل إهتماماته وركزها حول التربية، في عدة أعمال مثل «التربية حسب آلان» و «المذهبية» و «ما معنى التعلم؟» و «لغة التربية» و «فلسفة التربية» وأخيراً «قيم التربية»، كما أننا نجد تحولات مثيرة شهده فكره التربوي، خاصة عندما ختم أعماله الفلسفية في التربية بتركيزه على مسألة القيم، ولهذا أصبح فيلسوف تربية معاصر بإمتياز مهتم بالقيم في التربية والتعليم، نلحظ هذا في الفصل السابع والأخير من كتابه هذا الذي عنوانه ب «القيم والتربية» تشعر أثناء قراءته أنه ليس كاملاً بل هو تمهيد لكتاب آخر، وفعلا جعله تمهيدا لكتابه الذي ختم به فكره التربوي «قيم التربية».

كملاحظة أخيرة، أقول أنه من الضروري جداً لمن أراد التعرف أكثر على فيلسوفنا أن يعود إلى محراب الكتاب، الذي يحتوي فقط على 125 صفحة، ولغته سهلة جداً وبسيطة، في متناول الجميع، فالكتاب في الحقيقة يلخص نفسه بنفسه، لا يدعو إلى أي تلخيص آخر، وكل تلخيص أو موجز هو خيانة للكتاب، كانت هذه محاولة متواضعة جداً، للتنويه فقط إلى هذا الفيلسوف يمكن اعتبارها مدخلا تمهيديا وموجزاً لقراءة الفيلسوف ولا تعبر حقيقة عن متن الكتاب، بل هي قراءة تأويلية مختزلة ومركزة لفلسفة التربية عموماً ولموقفه منها خصوصاً الذي نجده في مؤلفاته الأخرى وليس في هذا الكتاب.

***

محمد فراح – تخصص فلسفة

............................

المصدر المعتمد:

[1] – LA PHILOSOPHIE DE L'ÉDUCATION , Olivier Reboul, puf Dépôt légal 1 re édition: 1989, 11 e édition: 2016 , juin Éditions CHAARAOUI, 2017 , P3

[2] - Ibid , p 6

[3] – Ibid , p 17

[4] – Ibid , p17

[5] – Ibid , p27

[6] – Ibid , p34

[7] – Ibid , p 51

[8] – Ibid ,  La même page

[9] – Ibid , p 53

[10] – Ibid , p 57

[11] – Ibid , p 65

[12] – Ibid , p 69

[13] – Ibid , p 77

[14] – Ibid , La même page

[15] – Ibid , p 96

[16] – Ibid , p 106

في المثقف اليوم