أقلام فكرية
طه جزاع: مدارات فلسفية.. الإنسان الطائر بين ابن سينا وديكارت
استكمالاً لما طرحناه في مدار "الورقاء التي حيَّرت الشيخ الرئيس" حول موضوع النفس في المقال السابق، نعرض هنا لأهم البراهين التي قدمها ابن سينا لإثبات وجود النفس وطبيعتها، لكونه أحد أهم فلاسفة الإسلام الذين أبدوا عناية فائقة بها من حيث وجودها وطبيعتها وقواها ومصيرها، ومن الواضح كما رأينا في القصيدة العينية، أن ابن سينا قد أخذ بمبدأ إن النفس مخالفة في طبيعتها للبدن، وانها لا تهلك بهلاكه، لذلك فانه مضطر لأن يوجد لها مكاناً وحالاً بعد هلاك البدن. ويبدو انه قد تسلى في أول الامر بنظم هذه القصيدة التي جمع فيها رأي أفلاطون الى رأي أفلوطين في هبوط النفس من عالمها العلوي الالهي الى العالم الأرضي، ثم اتصالها بالجسد، وبعد ذلك نفورها من هذا الجسد – السجن، وصولاً الى اطمئنانها اليه مع مرور الايام واعتيادها عليه، ثم يصف ابن سينا فرح النفس اذا هي فارقت البدن، وعادت الى عالمها الذي أُهبطت منه عنوةً ومن دون رغبة منها لـ " تعود عالمةً بكل خفيةٍ في العاَلَمين". و يُعَّد الفيلسوف اليوناني أفلوطين 203- 270 م من ابرز ممثلي الافلاطونية المحدثة التي تبلورت على يديه في مدينة الاسكندرية المصرية، وقد تحدث عن ثنائية في النفس: نفس عليا اقرب ما تكون الى العقل وابعد ما تكون عن إحداث المحسوسات، ونفس دنيا اقرب ما تكون الى المحسوس، وبالتالي هي القادرة وحدها على إحداث كل الحوادث او الموجودات المحسوسة. ومن أهم البراهين التي قدمها ابن سينا لإثبات وجود النفس ومخالفتها للبدن - والتي استخلصناها من كتبه الشفاء والإشارات والتنبيهات ورسالته في معرفة النفس الناطقة وأحوالها، فضلاً عما تم شرحه بصددها في كتب إبراهيم مدكور، وعبد الرحمن مرحبا، وعمر فروخ، ومحمد قاسم -، البراهين الخمسة الآتية:
1- البرهان الطبيعي:
يُقسم ابن سينا الحركة الى قسمين: الحركة القسرية، والحركة الارادية، والحركتان لا تصدران عن الجسم، فالأولى تصدر عن محرك خارجي يحركهُ، والثانية نوعان : منها ما يحدث على مقتضى الطبيعة، كسقوط حجر من أعلى الى أسفل، ومنها ما يحدث ضد مقتضى الطبيعة، كالإنسان الذي يمشي على وجه الارض مع ان ثقل جسمه كان يدعوه الى السكون، أو كالطائر الذي يحلق في الجو بدل ان يسقط الى مقره فوق سطح الأرض، وهذه الحركة المضادة للطبيعة تستلزم محركاً خاصاً زائداً على عناصر الجسم المتحرك, وهو النفس، وفي الواقع أننا " نشاهد أجساماً تحس وتتحرك بالإرادة، بل نشاهد أجساماً تتغذى وتنمو وتوَلِد المِثْل وليس ذلك لها بجسميتها، فبقي ان تكون في ذواتها مبادئ لذلك غير جسميتها، والشيء الذي تصدر عنه هذه الافعال، فإنما نسميه نفساً ". وهذا البرهان أخذه ابن سينا عن أفلاطون وأرسطو.
2- البرهان السيكولوجي:
وهذا البرهان يستند الى الادراك " ومن خواص الانسان انه يتبع ادراكاته للأشياء النادرة، انفعال يسمى التعجب ويتبعه الضحك، ويتبع ادراكه للأشياء المؤذية انفعال يسمى الضجر، ويتبعه البكاء، وقد يتبع شعوره بشعور غيره أنه فعل شيئاً من الاشياء التي قد أجمع على انه لا ينبغي ان يفعلها، انفعال انساني يُسمى الخجل". ويمتاز الانسان ايضاً بالنطق واستخدام الإشارة " وأخص الخواص بالإنسان تصور المعاني الكلية العقلية المجردة عن المادة كل التجريد، والتوصل الى معرفة المجهولات تصديقاً وتصوراً من المعلومات الحقيقية ". فهذه الأحوال أو الأفعال المتكررة هي مما يوجد للإنسان، وجلُّها يختص به الإنسان، وإن كان بعضها بدنياً ولكنه موجود للإنسان بسبب النفس التي هي للإنسان وليست لسائر الحيوان".. ألا يعني هذا ان للإنسان المدرك قوة يتميز بها عن الكائنات غير المدركة ؟ .
3- برهان الاستمرار:
يقارن ابن سينا بين النفس والجسد، ويلاحظ ان الجسد عرضة للتغير والتبدل والزيادة والنقصان و ومركب من أجزاء عرضة للعوامل نفسها، أما النفس فأنها ثابتة باقية على حالها : " تأمل أيها العاقل في إنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجوداً في جميع عمرك حتى انك تتذكر كثيراً مما جرى من أحوالك، فأنت اذن ثابت مستمر لاشك في ذلك، وبدنك وذاته ليس ثابتاً مستمراً، بل هو دائماً في التحلل والانتقاص، ولهذا يحتاج الانسان الى الغذاء بدل ما تحلل من بدنه، فتعلم نفسك ان في مدة عشرين سنة لم يبقَ شيء من أجزاء بدنك، وانت تعلم بقاء ذاتك في هذه المدة، بل جميع عمرك، فذاتك مغايرة لهذا البدن واجزائه الظاهرة والباطنة. فهذا برهان عظيم يفتح لنا باب الغيب، فانَّ جوهر النفس غائب عن الحس والاوهام" .
4 – وحدة النفس وبرهان "الأنا":
ان النفس محل المعقولات، " وهذا الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ولا هو قائم بجسم على انه قوة فيه او صورة له بوجه "، ويفرض ابن سينا صورة معقولة في نقطة من الجسم غير منقسمة ويبين ان ذلك مُحال. ثم يفرض هذه الصورة المعقولة في شيء منقسم، فاذا انقسم هذا الشيء انقسمت الصورة أيضاً الى جزئين متشابهين، أو غير متشابهين " فان كانا متشابهين، فكيف يجتمع منها ما ليس بهما، وان كانا غير متشابهين فكيف يمكن ان تكون للصورة المعقولة اجزاء غير متشابهة ؟ " فيجب ان يكون محل الصور المعقولة جوهراً ليس بجسم وغير قابل للقسمة، ولو كان غير ذلك للحق الصورة ما يلحق الجسم من الانقسام . ولهذه النفس وظائف مختلفة، لكنها تظل واحدة على الرغم من تعدد هذه الوظائف انه يجب لهذه القوى – الشهوانية والغضبية والمدركة – رباط يجمع بينها كلها، وتكون نسبته الى هذه القوى نسبة الحس المشترك الى الحواس، فأنا نعلم ان هذه القوى يشغل بعضها بعضاً ويستعمل بعضها بعضاً، وهذا الشيء لا يجوز ان يكون جسماً، ولا اعتراض على ان النفس غير جسم.
يقول ابن سينا في رسالته المسماة " رسالة في معرفة النفس الناطقة واحوالها" : ان الانسان يقول أدركتُ الشيء الفلاني ببصري واشتهيته أو غضبتُ منه، وكذا يقول، أخذتُ بيدي، ومشيتُ برجلي، وتكلمتُ بلساني، وسمعتُ بأذني، وتفكرتُ في كذا وتوهمته، وتخيلته. فنحن نعلم بالضرورة ان في الانسان شيئاً جامعاً يجمع هذه الادراكات، ويجمع هذه الأفعال، ونعلم أيضاً بالضرورة أنه ليس شيء من اجزاء هذا البدن مجمعاً لهذه الادراكات والافعال: فأنه لا يبصر بالأذن، ولا يسمع بالبصر، ولا يمشي باليد، ولا يأخذ بالرجل، ففيه شيء مجمع لجميع الادراكات والافاعيل. فأذن الانسان يشير الى نفسه بـ " أنا " مغاير لجملة أجزاء البدن، فهو شيء وراء البدن .
5 - برهان الانسان المعلق في الهواء "الانسان الطائر":
وهو من البراهين الطريفة التي قدمها ابن سينا لأثبات وجود النفس، وهو شديد الشبه ببرهان ديكارت الشهير الذي قدمه بعد ابن سينا بما يزيد عن ستة قرون، وعبَّر عنه بقوله " أنا افكر اذن أنا موجود ". يقول ابن سينا " ولو توهمتَ ان ذاتك قد خُلقت أول خلقها صحيحة العقل والهيئة، وفُرض انها على جملة من الوضع والهيئة لا تبصر اجزاءها ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواءٍ طلقٍ، وجدتها قد غفلت عن كل شيء إلا عن ثبوت إنَّيتَّها ". ويقول في كتاب "الشفاء " : يجب ان يتوهم الواحد منا - اي يتخيل - كأنه خُلق دفعةً، وخُلق كاملاً، ولكنه حُجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخُلق يهوي في هواءٍ أو خلاءٍ هوياً لا يصدمه ُفيه قوام الهواء صدماً ما يحوج الى ان يُحس، وفُرَّق بين اعضائه فلم تتلاق، ولم تتماس. ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته، ولا يشك في اثباته لذاته موجوداً، ولا يثبت مع ذلك طرفاً من أعضائه، ولا باطناً من أحشائه ولا قلباً، ولا دماغاً ولا شيئاً من الاشياء من خارج، بل كان يُثبت ذاته ولا يثبت لها طولاً ولا عرضاً ولا عمقاً، ولو انه أمكنه في تلك الحالة ان يتخيل يداً أو عضواً اَخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطاً في ذاته. وانتَ تعلم ان المثَبت غير الذي لم يُثَبت، والُمقَّر به غير الذي لم يُقَّر به. فاذن، للذات التي أُثبت وجودها خاصية على انها هو بعينه - اي الانسان بعينه - غير جسمه وأعضائه التي لم تثبَت. فأذن المثبِت له سبيل الى ان يثبته على وجود النفس شيئاً غير الجسم، بل غير جسم، ولأنه عارف به، مستشعر له .
عوضاً عن هذه البراهين فأن لابن سينا براهين اخرى في اثبات ان النفس جوهر روحاني، قائم بنفسه، غير محتاج في قوامه الى مادة، وهو موجود فعلاً مستقل عن البدن، ومن ذلك :
* ان ادراكنا للمعقولات - الصور المجردة - التي لا تُدرك بالحواس أصلاً " اسماء المعاني مثل الشرف، الخير، جمع الاعداد وتفريقها، الخ" يدل على اننا ادركناها بشيء من جنسها وليس بحواسنا- لأن حواسنا لا تدرك الا المحسوسات المادية والماثلة أمامنا- فيجب ان يكون قد ادركناها بأنفسنا، ولذلك كانت أنفسنا روحانية مثل تلك المعقولات التي ادركناها.
* ان الحواس تدرك اشياء قليلة - معدودات محدودة وموجودة في نطاق معين - بينما نحن ندرك بالنفس معقولات لا حصَر لها ولا حدود لها : اننا نبصر جبلاً صغيراً أو جزءاً من جبل، أو عدداً معيناً من النجوم، ولكننا ندرك بالنفس مدى البحر، وعِظَم الجبل، وعدد النجوم الذي لا يُحصى .
* ان الحواس لا تُدرك إلا صور الموجودات الحاضرة، بينما النفس تحفظ صور الاشياء بعد ان تغيب الاشياء عن حواسنا، فمحل هذه الصور المعقولة اذن، بعد غيابها عن الحواس، ليس في عضو معين .
* ان حواسنا الخمس تضعف عادةً اذا ضَعُفَت أعضاؤها بالهرم أو المرض - فالسمع يخف اذا تعرضت الاذن لعاهة، والبصر يكل عادةً بالتعب، أو المرض، أو مع تقدم السن - أما الادراك بالنفس الناطقة - أي بالعقل - فلا يضعف ضرورةً مع المرض أو الهرم، بل ربما زاد قوة.
لقد جمع ابن سينا في نظرية النفس اَراء الفلاسفة الى اصول الدين، فأقتبس من أرسطو حدوث النفس، ومن أفلاطون خلودها، وضم الى ذلك شيئاً من تصوف الشرق ومذاهب الهنود، وان النفس عنده هي مبدأ الافعال والحركات، وان هذه الافعال، اما ان تكون نباتية، واما ان تكون حيوانية، واما ان تكون انسانية، لذلك انقسمت النفس الى ثلاث نفوس هي: النباتية والحيوانية والانسانية. فالنباتية هي كما أول لجسم طبيعي اَلي من جهة ما يتولد ويربو ويتغذى، فالقوة النباتية اذن ثلاث: المولدة والمنمية والغاذية. وهي موجودة في النبات والحيوان والانسان. أما النفس الحيوانية فهي كمال أول لجسم طبيعي اَلي من جهة ما يدرك الجزئيات، ويتحرك بالإرادة، وهي موجودة في الحيوان والانسان، أما النفس الانسانية فهي النفس الناطقة وهي تنقسم الى قوتين : القوة العاملة، والقوة العالمة، وكل قوة من هاتين القوتين تسمى عقلاً، فالعاملة هي العقل العملي، والعالمة هي العقل النظري .
وقف ابن سينا من قضية النفس وخلودها، مواقف قد تبدو متناقضة مثلما بدا ذلك واضحاً في القصيدة العينية، تناقض ما بين فلسفته الأرسطية لكونه من أكبر الفلاسفة المَّشائين المسلمين، وهي فلسفة طبيعية مادية، وما بين فلسفة أفلاطون المثالية التي أُغرم بها هؤلاء الفلاسفة حتى اطلقوا على أفلاطون اسم الإلهي لانهم وجدوا أن فلسفته أقرب الى روح دينهم من فلسفة أرسطو، وهكذا نجد ان ابن سينا قد أخذ من أرسطو ما يعينه في تقسيم قوى النفس المادية. لكنه مال لأفلاطون في قضية خلودها وعدم فنائها بفناء الجسد، وذلك ضمن السياق العام لفلاسفة الاسلام في التوفيق والتوائم ما بين الفلسفة والدين الاسلامي .
***
د. طه جزاع – كاتب أكاديمي
..........................
* المقال منشور في مجلة مراصد البغدادية أيضا