أقلام فكرية
ضياء خضير: النشأة المستأنفة لعلم الكلام عند الدكتور عبد الجبار الرفاعي
تظل الدعوة إلى (علم كلام جديد) مركزَ عملية التنوير الديني التي يقودها الشيخ الدكتور عبد الجبار الرفاعي في العراق والعالم العربي الإسلامي منذ أكثر من ثلاثين عاما. وهو علم يتجاوز مصطلح (الكلام) المعروف الذي بدأ به المعتزلة في البصرة مطلعَ القرن الثاني الهجري بعد واقعة اعتزال واصل بن عطاء لأستاذه أبي الحسن البصري بسبب الخلاف الذي وقع بينهما حول تكفير الخوارج لمرتكب الكبائر، وقول الجماعة بأنه مؤمن غير كافر وإن كان فاسقا، ورأي واصل الذي خرج به على الفريقين في أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلتين، كما ورد ذلك في المشهور من الروايات الخاصة بسبب نشأة الاعتزال؛ علم يتجاوز كل ذلك، كما يتجاوز مجملَ مفردات المدونة الفقهية القديمة من أجل تأسيس رؤية عقلية وفقهية جديدة، مركبة، تستجيب لمتطلبات الحداثة العلمية، وتُشبع الظمأ الأنطولوجي المرافق للوضع الإنساني الفردي والجماعي العام. ويتأسس، في خلاصته، على "فهم الدين وتحديد وظيفته المحورية في الحياة، وإعادة بناء مناهج تفسير القرآن والنصوص الدينية، وبناء علوم الدين ومعارفه في ضوء الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع ومختلف المعارف الحديثة."(1)
والفرق بين هذا العلم الجديد وسميِّه القديم الذي صار يمثل، بعد الجهود الهائلة التي بذلها المؤسسون والتابعون الكثر للفرق نظرية المعرفة في الإسلام على مدى قرون عديدة، هو أن مفهوم العقل الذي قال به المعتزلة وخرجوا فيه، بكيفية ما، على مبدأ النقل في الموروث الديني السائد، يختلف عن مفهومه في علم الكلام الجديد. فهذا الكلام الذي يأخذ بمنجزات العلم الحديث ويلتزم بالبراهين العقلية ومعاييرها دون أن يفرّط بالجانب الميتافيزيقي الروحي الخاص بضرورة "الفهم الجديد للوحي"، يبدو أكثرَ انفتاحا وتجاوبا مع حاجات البشر الواقعية المتجددة، وكرامتهم الإنسانية بوصفهم خلفاء الله على هذه الأرض.
فعلم الكلام القديم الذي "ما ينفكّ عن إغراق عقل المسلم بجدالات ومحاججات ذهنية تجريدية لا تستند إلى بديهيات، بل تحيل غالبا إلى فرضيات ومسلمات غير مبرهنة"(2)، لا يُعنى بالقيم الروحية والأخلاقية والعاطفية الهادفة إلى تحقيق سعادة الإنسان وكرامته في هذه الدنيا قدْرَ عنايته بتطبيق شروط المنطق الأرسطي الصوري الذي علق لدى ظهوره مع ما رافقه مما ترجم بصورة صحيحة أو مشوهة، من إرث فلسفي يوناني في مرحلة تالية لمرحلة النشأة الأولى للاعتزال، بأذيال كلام أهل العدل والتوحيد، وصار قانونا، أو ما يشبه القانون الذي يتحدد بموجبه صحيح الكلام من باطله.
هكذا يقوم الشيخ عبد الجبار الرفاعي بما يشبه (نشأة مستأنفة) وعملية تجديد تاريخية مؤسِّسة لعلم الكلام الإسلامي الجديد، قائمة على استشراف وقراءة كلية شاملة للموروث الديني القديم والحديث، لا يكتفي فيها بتجاوز المفاهيم العقائدية التي عالجها واصل بن عطاء والنظام والجاحظ والجبائي وغيرهم من كبار المتكلمين القدماء على صعيد مقالاتهم ومقالات معارضيهم التي يجمعها مصطلح "الحكمة النظرية"، بل هو يجري حوارا مع محاولات المصلحين الدينيين المحدثين الكبار في الشرق والغرب مثل محمد عبده وأمين الخولي وطه عبد الرحمن، وَعَبَد الله درّاز، وفهمي جدعان، ومحمد حسين الطباطبائي، ومحمد باقر الصدر، وشبلي النعماني، وعبد الكريم سروش، ومحمد إقبال، وأبي علي المودودي، ووحيد الدين خان، وولي الله الدهلوي وغيرهم ، من أجل بيان ما فيها من جوانب جِدّة أو ميل وشطط يلحقها بسبب اعتمادها في الجوهر على الأصول السلفية المؤسسة لعلم الكلام القديم، ومناهجه نفسها. وهو علم "لا ينشد الكشف عن القيم الكونية الخالدة في الأديان، ولا يبحث عن جوهرها الروحي والأخلاقي المشترك، لأن المتكلم لن يتمكن من التخلص من التعصّب لمعتقداته عند دراسة الأديان الأخرى، ومحاولة فهم معتقداتها ومقولاتها." (3)
الدكتور الرفاعي يحقق في مجمل مدونته الكلامية وفقا لذلك عملية فصل ووصل مزدوجة مع الحوزة الدينية النجفية التي تخرّج فيها، وتعلم على بعض علمائها، ومع جمهرة المباحث الكلامية والمفاهيم الفقهية والفلسفية السائدة بشأن الدين في العالم الإسلامي الراهن؛ قطيعة لا تصل إلى حدّ (الاعتزال) والخروج على الجوهري من الأسس الروحية والعملية المشتركة التي يقوم عليها الإيمان بقدسية النص القرآني والوحي الإلهي، ولكنها تضع كلّ ذلك في مستوى آخر يسمح بدمج عناصر مادية وميتافيزيقية ضمن هذه الرؤية الكلامية الموحدة، والعمل على انتظامها في رباط جديد يمكن معه "تديين الدنيوي"، مثلما يسمح بدنيوية الدين، وإخضاعه لشروط الواقع الإنساني القائم، بكل تطوراته واختلاف أحواله.
وعلى الرغم من صعوبة المهمة، وبعد الشقة الظاهر بين أطرافها المادية والميتافيزيقية المتباينة في عالمنا المعاصر، فإنها تبدو سهلة يسيرة لدى من يطلع على ما تنطوي عليه كتبُ الشيخ الرفاعي من شمول وعمق، وما تحويه المباحث النوعية التي دأبت مجلتُه (قضايا إسلامية معاصرة) على معالجتها ونشرها بين الناس بجهد وإصرار فردي خارق منذ أكثر من ربع قرن، وأيضا على مَن يتعرف على شخص الدكتور الرفاعي نفسه ويرى، ولو على بعد، إلى مدى إصراره ومتابعته، ومقدار ما ينعكس على صورته الشخصية من مظاهر إيمان وحب، وامتزاج للنظر العقلي والميتافيزيقي بالسلوك العملي، وما يملأ داخله المضيء من قناعات، لا سبيل إلى الشكّ فيها والخلاص من جاذبيتها الآسرة.
والصدى المتردد في عقول قراء ورجال دين ومفكرين وفلاسفة من شرق العالم الإسلامي وغربه، تفاعلوا مع أفكار الرفاعي ونظريته في علم الكلام الجديد، وعبّروا عن رؤيتهم لها هو الدليل والبرهان على ما تحرزه هذه الأفكار والمواقف الفكرية المركبة من نجاح وفاعلية لا عهد لنا بها من حيث عمق التأثير والتداول الذي تحققه في بابها. (4)
ولعلها المرة الأولى التي نرى فيها منذ قرون فكرا ومفكّرا عراقيا من هذا النوع، يتجاوز بمصنفاته الدينية الحدودَ المحلية والمذهبية الضيقة ليشكل في تجربته الفكرية والروحية الفريدة ما يشبه الظاهرة التي يجري تلقيها ومتابعتها والتفاعل معها على أكثر من مستوى وصعيد. وهي، بهذا، لا تذكرنا فقط بتجربة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، لدى محاولته (إحياء علوم الدين) بعد شعوره بتهافت الفلاسفة، واتجاهه إلى التأمل العرفاني (المنقذ من الضلال) بعد تركه التدريس في المدرسة النظامية ببغداد، التي اضطرّه ما بدا له من حياته فيها من أحوال انغمس فيها بالعلائق، وأحدقت به من الجوانب، ولاحظ أعماله التي كان مقبلا فيها على علوم غير مهمة ولا نافعة، كان باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت؛(5) أقول إن تجربة الشيخ الرفاعي لا تذكرنا فقط بجوانب من تجارب مفصلية قديمة في تاريخ الفكر الإسلامي مثل هذه، بل أيضًا بتجارب ومواقف في أديان أخرى يرد منها على الذاكرة في الطرف الآخر الغربي رجل دين مسيحي بروتستانتي مثل الراهب الألماني مارتن لوثر الذي أطلق مشروع الإصلاح الديني في عصره (القرن السادس عشر الميلادي) وتحدى به السلطة البابوية والتراتبية الكنسية في أن تكون لها الكلمة الفصل في أمر المكان الذي سوف يوجد فيه الناس عند حياتهم الأخرى بالجنة أو النار، وفقا لصكوك الغفران الممنوحة لهم آنئذٍ من قبل بعض رجال الدين المتنفذين في الكنيسة. ونحن نعرف الآن كيف ألهب هذا الرجل بتعاليمه وحججه التي علّقها على باب الكنيسة في فيتنبورغ الواقعة شرق ألمانيا أوربا المسيحيةَ كلَّها حين تبينتْ معه أن (اللطف الإلهي) ممنوح لجميع المؤمنين المخلصين لرسالة السيد المسيح وكتابه المقدس، ولا يقتصر على جماعة دون أخرى. وقد آمن لوثر أن الوحي الرباني إنما الشأن فيه أن يؤدي إلى قناعة الإنسان الشخصية، والتي تفيض في حال اكتمالها وتمامها على ما حولها لتغمر الآخرين عن طريق (الدعوة)، مثلما تفيض مياه الأنهار العذبة على الأراضي العطشى.
ولقد فاضت كلمات الشيخ الرفاعي، هي الأخرى، على ما حوله ومّن حوله حين رأوا مقدار ما فيها من تسامح وإنسانية ورحمة وروح محبة وصدق، ضدا على ما نشهده في خطابات دينية آخرى شائعة من قسوة ونقمة وروح طائفية، ومن أبعاد تختلط فيها الخرافة والخزعبلات التي يتحول معها الدين من انتماء للفضيلة العملية والسمو الأخلاقي والروحي، إلى مباءة الأرض القاحلة المعبدة بالزركشات الحكائية المختلقة، والأكاذيب اللفظية المخدرة والبعيدة عن المشاعر الدينية السليمة، ومن الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، بكل ما ينطوي عليه معناها ومقتضاها الإنساني والأخلاقي.
النص القرآني المقدس وشروحه
هناك، كما يؤكد الرفاعي، خلطٌ لدى أمثال هؤلاء بين النص القرآني المقدس، وبين الشروح والتفسيرات التي تكونت حوله عبر مراحل تاريخية طويلة وفي سياقات اجتماعية مختلفة. وهو يقول إننا "لا نعثر في المباحث القديمة لعلم الكلام لدى المعتزلة والشيعة على ما يعالج ماهية القيم الأخلاقية، أو ما يتحدث عن تحققها ووظائفها، أو ما يشرح مصادر الإلزام في الفعل والترك الأخلاقيين، وطبيعة العلاقة بين الوحي والأخلاق، كذلك لا نعثر في علم الكلام على مباحث تدرس الفضيلة والسعادة وكيفياتها، ومنابع إلهامها في حياة الإنسان"(6). وهو، فضلا عن ذلك، يعرف كيف أن غياب العقلانية يؤدي إلى "تقديس غير المقدّس"، والاستحواذ بذلك على مشاعر الناس، واستعباد عقولهم.
و"افتقاد الكلام للمضمون الأخلاقي" سبب رئيس من أسباب تهافت علم الكلام القديم وتآكل ما يسميه سعيد الغانمي معماره الفكري، وكراهة الجمهور له ولأصحابه الذين كانوا يتكلمون على صعيد اللغة وصياغة العبارة بما يشبه كلام النحويين الذين كانوا "يتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا"(7) على حد تعبير أحد الأعراب، الذي أخذه العجب وهو يستمع إلى بعض النحويين وهم يتحدثون في مجلس الأخفش عن بعض المسائل النحوية، التي داخلتها، هي الأخرى، آفةُ المنطق الأرسطي الصوري فأفسدت جانبا منها، كما أفسدت جانبا من لغة علم الكلام نفسه ومجمل المدونة الفقهية التي جعلت من قياس الغائب على الشاهد مبدأ عاما تحكّم فيها وعبث ببعض أحكامها بصورته الآلية البعيدة عن روح الواقع الاجتماعي القائم، على الرغم أن "آيات القرآن لم ترد بأسلوب رياضي أو منطقي أو فلسفي، ولم يتحدث القرآن وكأنه كتاب في العلم أوالفلسفة أو الرياضيات"، كما يقول الدكتور الرفاعي. (8)
مع العلم أن هذا المضمون الأخلاقي الذي يؤكد عليه الشيخ عبد الجبار في كل مباحثه وكتبه لا يكفي وحده دون وجود سند أو غطاء روحي مستمد من جوهر الدين ومبادئه الحنيفة الملزمة على صعيد أفعال الإنسان ونواياه، وإلا تحوّل هذا المضمون إلى فلسفة أخلاقية عامة تشبه فلسفة سارتر الوجودية في أبعادها الإنسانية التي تعرف السبيل إلى التفرقة بين الحسن والقبيح في أفعال الإنسان، ولكن الأساسي فيها هو بيان الكيفية التي تعرف فيها الذات محدوديتها، مع ما لها من حرية شكلية لا حدود لها في الاختيار، في عالم تتقدم فيه العقلانية والفكر العلمي والعلوم الطبيعية والمعرفة الموضوعية على حرية الاختيار هذه وتضيّق عليها وعلى صاحبها الخناق.
وهو ما جعل وجودية سارتر تختلف بعضَ الاختلاف عن وجودية سلفه الدانماركي سورين كيركيغارد المتوفي في 1855، الذي يرى في الأخلاق مجالا وجوديا محدودا تم نسخُه عن أصول دينية سابقة، ولكنه ما زال يلعب دورا في الأعراف الاجتماعية السائدة. ومن أجل الوصول إلى موقف من الإيمان الديني الذي قد يستلزم "تعطيلا غائيا للأخلاق"، على الفرد أن يخلق له التزاما شخصيا تتطلبه جماليات السلوك الخاصة بالتواصل وإصدار الأحكام. (9)
والدكتور الرفاعي الذي لا يؤمن بمثل هذا "التعطيل الأخلاقي" لإيمانه بضرورة وجود الأخلاق الدائم في الضمير الإنساني الحيّ بضمانة الوازع الديني، لا يجد، كما قلنا، معالجة كافية ولا منطقية صحيحة عند المتكلمين المؤسسين الذي يتبنون القولَ بالحُسْن والقُبْح الذاتيين للأفعال، ولا عند خصومهم الأشاعرة الذين ينفون القولَ بالحسن والقبح الذاتيين، باعتبار أن الحَسَن هو ما حسّنه الأمرُ الإلهي، والقبحَ هو ما قبّحه النهيُ الإلهي. وهو ما يعني عند الدكتور الرفاعي ألا عدلَ ولا ظلمَ مستقلا عن الشرع، أي لا معنى لحكم العقل بقبح عقاب المطيع وثواب العاصي، ولا معنى للعدل الإلهي. (10)
وذلك يقودنا للحديث عن العلاقة الجوهرية القائمة بين الأخلاق والوحي في مشروع الرفاعي. فمن شأن وجود النواميس الكونية التي نتعرف من خلالها على العدل والأخلاق، وما يتصل بهما من تدخّل الوحي في تقرير حسن الحسن وقبح القبيح، أن يفرغ الأخلاق من مضمونها، كما يقول. مع ما نراه من عدم غياب الفعل أو السلوك الأخلاقي في المجتمعات البشرية مع أنها لم تعرف الأديان التوحيدية، وعرفت مع ذلك حضورا للأفعال والكلمات الأخلاقية، دون وجود الضابط الديني كحافز داخلي ذاتي قادر على تبيين الحدود القائمة بين القبيح والحسن.
وثمة كلام آخر حول هذا الموضوع قد لا تستوعبه هذه الصفحة.
***
الدكتور ضياء خضير
.....................
الهوامش:
1- الرفاعي، عبد الجبار، مقدمة في علم الكلام الجديد، دار الرافدين ببيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين ببغداد ط3، 2023 ، ص81
2- نفسه، ص 64
3- نفسه، 108
4- أنظر، بهذا الصدد الكتاب الذي أعده وقدم له أسامة غالي تحت عنوان (عبد الجبار الرفاعي – حياة في أفق المعنى) وشارك في الشهادات والمقالات والأبحاث التي كتبت فيه كتّابٌ وفلاسفة ورجال دين من العراق والسعودية ولبنان ومصر والمغرب وموريتانيا، وأخرجته دائرة الشؤون الثقافية ببغداد عام 2022.
5- الغزالي، حجة الإسلام أبو حامد، المنقذ من الضلال والموصل إلى العزة والجلال، تحقيق جميل صليبا والدكتور كامل عيّاد، ط5 ، 1956 ، توطئة الكتاب.
6- الرفاعي، المرجع السابق، ص 67
7- ورد ذلك في كتاب التوحيدي (الإمتاع والمؤانسة)، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات مكتبة الحياة، ص139
8- الرفاعي، المرجع السابق، ص130
9- كتب عبد الجبار الرفاعي عن الحب والإيمان عند هذا (الفيلسوف المؤمن) الخارج عن الأنساق الفلسفية بحثا عام 2016، متمثلًا فيه مرآة يرى فيها جانبا من صورته، حيث يمكن للقارئ البصير أن يرى "شيئًا من ملامحه في مدونة التصوف المعرفي".
10- الرفاعي، المرجع السابق، ص67