أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: الغاية من الكون.. استمرار الجدل؟
العديد من الناس أخذوا فكرة غائية الكون من الدين. ما يحدث في هذا الكون، كما تذكر القصة، هو بالتأكيد تعبيرعن رغبة الله. ومع تطور العلم، جرى استبدال فكرة الكون المنظّم من الله بفكرة الكون المنظّم بقوانين الفيزياء اللاواعية. تلك القوانين، كونها غير واعية فهي فارغة من الهدف. قوتها التنظيمية هي ايضا ليست خارجية عن الظواهر المنسجمة معها. وكما عبّرت هيلين بيبي Helen Beebee استاذة الفلسفة في جامعة ليدز، ان القوانين الفيزيائية ليست "قبلية ولا هي تراقب المادة لتتأكد من عدم خروجها عن الخط" (فلسفة وبحث فينومينولوجي 61،2000). الأحداث هي ببساطة نماذج او عادات للعالم الطبيعي المنكشف،غير مسترشدة بغرض كوني.
غير انه بالنسبة لبعض المفكرين إنتعشت امكانية الغرض الكوني من جديد بواسطة العلم الذي بدا كأنه قتلها. هذا الانبعاث يتجذر في الإكتشاف بان قوانين الفيزياء يجب ان تكون مضبوطة بدقة لدرجة غير متخيلة لأنه يجب ان يكون هناك كون يمكنه ان يولّد ويديم الحياة (او حتى التعقيدية الكيميائية التي سبقت الحياة). مدى الدقة في ضبط الكون تتضح بكمية الطاقة المظلمة في الفضاء الفارغ – او ما يسمى الثابت الكوني او "طاقة الفراغ"- يجب ان تكون أكبر من صفر ولكن ليس أكثر من10-122 units . هذا يُعد ضروريا لضمان ان لا ينهار الكون على ذاته او يتحطم الى أشلاء قبل ان يتكتل على شكل كواكب قابلة للحياة. الفيزيائيون، ومنذ عقود وجدوا ان تغييرا بسيطا في القوانين الاساسية للطبيعة ستجعل امكانية وجود حياة مستحيلة. حجة الضبط الدقيق هذه fine-tunning ،ترى ان حدوث الحياة في الكون حساس جدا لقيم معينة للفيزياء الاساسية، بحيث ان إجراء تغيير بسيط في أي من هذه القيم سوف يحول دون وجود حياة. الفيزيائي لوك بارنس Luke Barnes وجد ان احتمال ضبط الكون للحياة هو واحد في 10135.
البعض يرى ان هذا يشير الى ان الاشياء في الكون ليست مسألة حظ. الأشياء يجب ان تكون قد تم التحكم فيها. فيليب جوف Philip Goff استاذ الفلسفة في جامعة دورهام البريطانية يجادل لأجل "غرض كوني، وهي الفكرة بان الكون موجّه نحو أهداف محددة، مثل ظهور الحياة " ووجود القيمة. جوف يرفض بقوة الإله المسيحي التقليدي بينما يدعم حجة الضبط الدقيق "fine-tunning argument" . يرى جوف انه من غير المحتمل لكون مثل كوننا، الذي يحتوي على الحياة والوعي والقيمة ان يأتي الى الوجود بدون ان نفترض ان هناك غرض معين كان قيد العمل. ويضيف ان لا شيء مؤكد، لكن ميزان الدليل يفضل الإيمان بغرض كوني.
يطور جوف هذا الاقتراح في كتابه (لماذا؟ غرض الكون،2023). طبقا لفكرة "فرضية اختيار القيمة"، هناك على الأقل بعض الأرقام الثابتة في الفيزياء" هي كما هي لأنها تسمح للكون ان يحتوي على أشياء ذات قيمة هامة"(ص20). تلك "الاشياء ذات القيمة الهامة" تتضمن الكائن البشري، وكل ما هو ضروري لتمكينه من البقاء والنمو.
بعض المفكرين المؤمنين، يرون ان هذا يجيزعودة الله بعد اكثر من قرن من النفي بعد انتشار الثورة العلمية وامتدادها الى الثقافة. ولكن ليس بالنسبة لجوف الذي يذكّرنا بمشكلة الشر. هو يرى ان ما يسميه "حدس الخطيئة الكونية" – فكرة انه من غير الاخلاقي للقادر الكلي خلق كون ككونا مليء بالمعاناة – يستبعد وجود إله، او إله يجمع بين القدرة والخير.
أهداف روحانية شاملة
يستخدم جوف رؤاه في علم النفس الشامل panpsychist لدعم حجته في الدفاع عن غرض كوني. الكون،كما يقول، صُنع من جسيمات أساسية تتمتع كل واحدة منها بوعي بدائي وقوة بدائية بحيث تكون "متحررة من طبيعتها الخاصة كي تستجيب بعقلانية لتجربتها". دافع جوف عن الروحانية الشاملة في خطأ غاليلو: اسس لعلم جديد للوعي. حجته المركزية هي ان الشيء المادي الوحيد الذي نعرفه من الداخل (والذي نستطيع الوصول الى سماته الباطنية) هو دماغنا، وهذا الشيء هو بالطبع واعي. من هنا هو يعتقد من الجائز الاستدلال ان الوعي متجسد عالميا في المادة. الوعي بُني بشكل ما في طبيعة المادة منذ البدء وهو ما يُعرف بـ الـ panpsychism. هناك عدة صعوبات في هذه الحجة. من بينها صعوبة فهم التمدّد من أدمغتنا الى الكون بحجمه الأوسع. هناك ايضا ما يسمى مشكلة "تجميع الشيء" subject-summing problem: كيف ان بلايين من حالات الوعي الجسيمي من المفترض ان ترتبط بجسيمات أساسية تُضاف الى الوعي الكلي للاشياء مثل أنا وأنت؟
هذه القضايا الشائكة لم تمنع جوف من بناء روحانية شاملة واحتضان اطروحته المركزية في لماذا؟. هو يدّعي، انه مع الوعي يأتي الغرض. قوانين الطبيعة لها أهداف بُنيت فيها، وتلك الأهداف يمكن ان تكون عالمية بسبب ان الوعي هو ايضا عالمي: "مادة مضبوطة بدقة وعقلانية منسجمان مع بعضهما مثلما ينسجم المفتاح مع القفل". الفيزيائي الفائز بجائزة نوبل ستيفن وينبيرغ كان ادّعى "كلما فهمنا الكون أكثر، كلما بدا بلا معنى" هنا تنقلب الفكرة رأسا على عقب.
تطبيق فكرة الهدف على كلية الاشياء يتطلب الإختبار. من الواضح ان هناك مشكلة "تجميع الغرض" purpose-summing مشابهة لـ "مشكلة تجميع الشيء". المنطق الشائع للغرض من الكون هو الكائنات الواعية الفردية، التي حتى لو سمحنا بالروحية الشاملة، فهي لاتزال كيانات مبعثرة صغيرة جدا بدلا من ان تكون بدرجة كافية في كون معظمه فارغ، والذي في حالة الكائن البشري هو اوسع بـ 130000000000000000000 مرة. كذلك، العديد من خصائص الغرض كما تجسدت في المخلوقات البايولوجية (مثلنا)، هي غير منسجمة مع فكرة العالمية. تعبيرات الغرض في حياتي – وفي حياتك – هي محلية وقصيرة الأمد وعادة ما تكون متصارعة. انها تتصل بالحاجات الواقعية والمتخيلة للفرد الذي يقع في نقطة صغيرة من الواقع . من الصعب رؤية كيف لغرض كوني موحد ان يكون مشتتا ومتناثرا. وما هو اكثر، ان غرضنا الشخصي يأتي ويذهب: لا غرض شخصي يستمر من أول صوت الى آخر نفس عميق. هناك ايضا تصادمات سواء ضمن الاشياء الواعية المدركة لأفضلياتها الداخلية المتصارعة، وبين الاشياء الواعية التي تضعها محاولاتها للنجاح في تضاد مع بعضها البعض، مثل نجاحي هو فشلك وبالعكس. واذا كنا نفكر ببناء هدف شمولي من مجموع مختلف المعاني التي تشغل حياتنا في مختلف الأزمان، ذلك يجب ان يتم فقط عندما تكون تلك الحيوات تامة وبالتالي على وشك ان تتوقف – حينذاك تُضاف الى الكلية.
الفكرة المريحة بان حياتنا الفردية يمكن الحكم عليها كمساهمة بالصورة الأكبر لتقدم الانسان نحو عالم أفضل تبدو هشة جدا. بالنظر لأخطار تقلبات المناخ التي لا يمكن إبطالها، وتصاعد التهديدات بحرب نووية، فانه يبدو من الصعب ضمان تقدمنا اللامتناهي.
إلتباسات كونية
لو نظرنا وراء حياة الانسان الى الحياة بشكل عام، فان غرض الوعي يظهر بطريقة غريبة كأنه غائب عن الوصف الدقيق للتحول من كائن ذو خلية واحدة الى مختلف الحيوانات الثديية - الدارونية الجديدة.هدف الكائنات الفردية يتصادم مع تلك الكائنات الاخرى اما كمنافسة او مجرد العيش جنبا الى جنب، في سعيها لأغراض غير متصلة . من الصعب رؤية الفريسة والمفترس يشتركان بهدف مشترك. كذلك، التمييز بين الكائنات الحية وبيئاتها يحصر الغرض في الأولى وليس في الأخيرة وهو يتعارض مع فكرة التوزيع العادل للغرض في جميع الكون. في المسار من الذرات الى المعادن، ومن هذه الى اولى خيوط الحياة، نجد آلية العشوائية وآلية اللاوعي هما أكثر وضوحا من الغرض.
باختصار، الرؤية للكون الذي يعبّر عن هدفه في ظهور الحياة والكائنات الرشيدة تبدو ملتبسة.
المسألة هي: ان فكرة الغرض الكوني تزيل فكرة الغرض من الأماكن التي تكون فيها فكرة الغرض واضحة، او في الحقيقة من أي غرض. الأغراض كما تُفهم ترسخت في الحيوات او في جزء من الحيوات. انها توجد بشكل رئيسي بمقدار ما تنال القبول من جانب الاشياء الواعية او جماعات من هذه الاشياء، حتى عندما "تستقر في قعر"(حسب تعبير ماكس شيلر) المؤسسات الاجتماعية، او في المناظر الطبيعية الواسعة للفن التي يخلقها الانسان لمساعدته في حياته. الأغراض لها غايات مقصودة لكنها سيئة التعريف. لا شيء من هذا ينطوي عليه الغرض الكوني مالم يكن هذا الغرض متناسق في وعي إلهي وهو ما يرفضه جوف. هذا يعني ان "الغرض" لا يمكن تخصيصه ليشير الى كلية أشياء بدون خسارة المعنى.
حتى عندما يكون قبول فكرة كون مضبوط بدقة يحقق غرضا مقرر مسبقا في التحول من الجسيمات الأولية الى قرّاء هذا المقال، فان السؤال حول تنفيذ الغرض المذكور لايمكن تجنبه. جوف يبدو مطلعا على هذا وهو يعتنق العمومية، التي بموجبها يتجسد الغرض من خلال الوكالة " أصل الوكالة يتجسد في المستوى الأساسي للواقع". هذا، فقط يفاقم مشكلة توحيد الأغراض الفردية المتصارعة والمؤقتة والمحلية في نقطة شمولية للكون. وهناك، بالطبع، عدم معقولية نسبة ليس فقط وعي المكونات الاساسية للعالم المادي لذاتها وانما ما يحدث لها لكي تستطيع استخدام اتجاهها في السفر بهدفية. جوف لا يرى هذه مشكلة: هو ينظر حتى الى الجسيمات الاولية باعتبارها مملوئة "بالميول الواعية" طبقا لرائد الموجات ديفد بوهيم الذي اقترحها لفهم عدم تحديدية الكوانتم. وكما لو ان هذه ليست سخرية، يعتنق جوف "النفسية الكونية الغائية" مجادلا انه "اذا كان الكون في اول جزء من الثانية ضابطا لنفسه بدقة لكي يسمح لظهور الحياة بعد بلايين السنين في المستقبل، هذا يعني ان الكون يجب ان يكون واعيا بهذه الإمكانية، لكي يتصرف بطريقة تؤدي اليه".
يعتقد جوف ان الدليل على الغرض الكوني "يمكن ان يعطينا أملا بان المعنى الذي تمتلكه حياتنا ليس وهما". لسوء الحظ، أي فتات من الراحة يعرضها كون مضبوط بدقة لا تبدو مقنعة كليا. بالنهاية، الأكثرية العظمى مما يوجد من كون هو ليس فقط غير مسكون وانما غير صالح للسكن من حيث المبدأ، وبالتالي فارغ من الغرض كما يُفهم عادة. وما هو أكثر ادانة لكون جوف المتفائل، ان التقدم الحديث في الفيزياء(كما عُرض في ورقة هامة لفريد آدم، "درجة الضبط في كوننا وغيره"،تقارير فيزياء،2019) ، أشارت الى ان "الكون وبشكل مدهش مرن في خصائصه الأساسية وانه "ليس المكان الأمثل تماما لظهور الحياة". لذا ربما لم يضعنا الكون في ذهنه ابداً، ونحن لسنا مساهمين بدون قصد في تحقيق غرضه. وحتى لو كنا، سيكون من الصعب ان يكون مصدرا للراحة لو لم نعرف ذلك الغرض.
***
حاتم حميد محسن
..................................
المصادر
1- هل الكون له هدف؟ Philosophy Now, June/July2024
2- لماذا؟ الغرض من الكون،فيليب جوف، صحيفة الغارديان البريطانية 28 ديسمبر 2023.