أقلام فكرية
مرادغريبي: الكرامة الإنسانية بوصفها وعي ثقافي
مفتتح: فكرة الكرامة بمنزلة الضرورة والحق الواجب في جميع المجتمعات على طول التاريخ الإنساني مع اختلاف وتنوع أنماطها ومظاهرها بين الحضارات، لكونها تتصل وتتفاعل مع الأبعاد كافة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية وغيرها. لكن هذه الفكرة تتصاعد وتتركز بقوة بل تفرض وجودها في المجتمعات كلها ذات التنوع والتعدد الديني أو العرقي أو المذهبي أو الإثني أو اللغوي.
كون فكرة الكرامة في جميع الأديان السماوية او الوضعية وفي المواثيق الدولية الحديثة والمعاصرة، هي مبدأ اساسي للحفاظ على الحريات ضمن التعددية الثقافية بل أكثر من ذلك صيانة كل القيم، أو كما يعبر المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي في مقدمة كتابه الدين والكرامة الإنسانية: " قيمة الكرامة قيمة أصيلةٌ، إنها أحد مقوّمات تحقق إنسانية الإنسان، حضورها يعني حضور إنسانية الإنسان، وغيابها يعني غيابَ إنسانية الإنسان. لا تعني الكرامة عدم الإهانة فقط، عدم الإهانة أحد الآثار المترتبة على حضور الكرامة، وثمرة من ثمرات تحققها في الحياة البشرية. لا قيمة سامية تعلو على قيمة الكرامة، هتك الكرامة والاحتقار يثيران الفزع في كيان أي إنسان مهما كان بليدًا وأبْلَها في نظر البعض، إلا إذا كان ذلك الإنسان مدجّنّاً على التنازل عن كرامته ليقبل الاستعباد طوعًا. نصاب الكرامة في القيم يتفوق على كل ما سواه، كل القيم تجد معناها في حمايتها للكرامة وصيانتها من كل ما ينتهكها، الكرامة لا غير هي ما يُرسخ الشعور بأهمية الحياة، وتجعلها تستحق أن تعاش، وهي شرط لتذوق معناها."[1]
فكرة الكرامة اساسية كونها قطب الرحى القيمية تجعل من المبادئ والقيم والأخلاق والحقوق والقوانين فعّالة وناجحة، وتفسح المجال أمام الحرية وثقافة التعارف من التحقق في الواقع، فعالية تقبل الآخر ضمن معادلة التجاذب لا التنافر والاختلاف لا الخلاف بتعبير" محمد عابد الجابري". لهذا ارتبطت فكرة الكرامة بإنسانية الإنسان باختلاف خصوصياته ملله ونحله ولغاته واديانه ومذاهبه وثقافاته.
ماهية الكرامة:
أولا: لغةً
يرى ابن فارسٍ َّ أن "الكاف والراء والميم" أصلٌ صحيحٌ له بابان:
أحدهما: شرفٌ في الشيءِ في نفسه، أو في خلق من الأخلاق. يقال: رجلٌ كريمٌ، وفرسٌ كريمٌ، ونباتٌ كريمٌ؛ وأكرَمَ الرجل إذا أتى بأولادٍ كراٍم...[2]
الكَرَمُ: ُّ ضد ُّ اللؤم... وأكرمه َّ وكرمه: َّ عظمه َّ ونزهه. والكريم: َّ الصفوح... وله َّ علي كرامةٌ، أي عزازٌةٌ... وكريمتُك: أنفُك، ُّ وكل جارحةٍ شريفة كالأذن واليد؛ والكريمتان: العينان.[3]
مصدر كرم، یقال: كرُمَ فلانٌ كرماً وكرامة: إذا أعطى بسھولة وجاد، فھو كریم، وكرمَ الرجلُ كرامَةً: عزَّ، وكرم الشيء: عز ونفس، وكرم السحاب: جاد بمطره، وكرم المطر: كثر ماؤه، وكرم فلانا أكرمه: فضله وشرفه، ورزق كریم: أي كثیر، و(كرَّمه): شرفه وأحسن معاملته. ویقال: كرَّم فلانا علي غیره: فضله في التكریم والتشریف فصار مكرمًا وھي مكرمَة، و(أكرمه): سلك منه مسلك الكرم والجود، فأحسن معاملته، وأنعم علیه بما یرضیه، وأكرمَ الرجلَ وكرَّمه: أَعظمه ونزَّهه، و(استكرم) الشيءَ: طلَبه كرِیماً أو وجده كذلك. و(تكرَّمَ) عن الشيء و(تكارم): تَنزَّه، و(تكَرَّمَ) فلان عما یَشِینه: إذا تَنزَّه وأكرَمَ نفسه عن الشائنات. (والكرامةُ) اسم یوضع للإكرام كما وضعت الطَّاعةُ موضع الإطاعة، والغارةُ موضع الإغارة. و(المكرَّمُ): الرجل الكرِیم على كل أحد، ویقال: كرُم الشيءُ الكریمُ كرماً وكرمَ فلان علینا كرامةً، و(التَّكرُّمُ): تكلف الكرَم، والمكرمُ: الرجلُ الكریم على كلِّ أحد. والكرَمُ: أرضٌ مُثارة مُنقّاة من الحجارةِ، والعرب تقول: للبقعَة الطَّیّبة التُّربةِ العذاةِ المنبتِ: ھذه بقعةٌ مكرمةٌ، ویقولون للرَّجل الكرِیم: مكرمانٌ إذا وصف بالسخاءِ وسعةِ الصدرِ، وكرّم السحاب تكریماً: جاد بمطره، وأرض مكرمةٌ للنبات: إذا جاد نباتھا، و(كرمت الأرضُ): زكا نباتھا، واستكرم المناكح إذا نكح العقائل. و(كرائم الأمْوال): أي نَفائسھا التي تتعَّلق بھا نفسُ مالكھا ویختصُّھا لھا حیث ھي جامعةٌ للكمال الممكِن في حَقِّها، وواحدتھا: كریمة. و(التَّكرمة): الموضع الخاصُّ لجلوس الرجل من فراش أو سریر ممَّا یعدّ لإكرامه وھي تَفعلة من الكرامة، ویقال: كرم علینا فلان كرامةً وله علینا كرامةٌ، ویقال: أكرمَه الله وكرَّمَه. ويقال: نعم وكرامةً، أي: وأكرمك إكراماً وأفعل ذلك، یقال: (كرَمُ) الفرس أن یرقَّ جلده ویلِین شعره وتطِیب رائحته، وقد كرمَ الرجل وغیره –بالضم- كرماً وكرامة فھو كَرِیم، وكرِیمةٌ،وكرمةٌ،ومكرَم، ومكرمة، وكرامٌ،وكرَّام،ٌ وكرَّامةٌ، وجمع الكریم: كرماء وكرام، وجمع الكرَّام: كرَّامون. و(الكریم): من صفات ﷲ وأسمائه، وھو الكثیر الخیر، الجَوادُ المعطِي الذي لا یَنْفدُ عطاؤه، وھو الكریم المطلق، و(الكریم): الجامع لأَنواع الخیر والشرف والفضائل. و(الكریم): اسم جامع لكل ما یحمد، و(الكریم): الذي كَرَّم نفسه عن التَّدَنُّس بشيءٍ من مخالفة ربه، (والكریم) صفة لكل ما یرضي ویحمد في بابه ومنه: وجه كریم، وكتاب كریم، (الكریمة) مؤنث الكریم، والرجل الحسیب ویقال: (إذا أتاكم كریمة قوم فأكرموه)، وكریمة الرجل: ابنته والجمع: كرائم[4]
وبالتالي الكرامة في اللغة مصدر الفعل الثلاثي الصحیح: (كرم) وھو یدور في كافة صوره حول المعاني الشریفة من الزیادة، والفضل، والكثرة، والسھولة واللین، والعزة، والشرف، والحفاوة،
وقد ذكر ابن قتیبة أن جمیع ألفاظ الكرامة ومشتقاتھا في القرآن الكریم ترجع إلى معنى واحد وھو الشرف[5]، وقال الراغب: " وكلّ شيء شرف في بابه فإنه یوصف بالكرم، قال تعالى:)فَأَنْبتْنا فیھا منْ كلِّ زوجٍ كریم ([لقمان/ ١٠]،) وزُروعٍ ومَقامٍ كریمٍ ([الدخان/ ٢٦]،)إ ِنَّه لَقُرآنٌ كرِیمٌ([الواقعة/ ٧٧]،)وقلْ لھما قَولًا كرِیماً) [الإسراء/ ٢٣]، والإكْرامُ والتَّكرِیمُ: أن یوصل إلى الإنسان إكرام، أي: نفع لا یلحقه فیه غضاضة، أو أن یجعل ما یوصل إلیه شیئا كرِیماً،أي: شریفا،
قال تعالى:) ھلْ أتاكَ حدِیثُ ضَیفِ إِبراھِیمَ المكرمِینَ ([الذاریات/ ٢٤]. وقال: (بلْ عبادٌ مكرمُونَ ([الأنبیاء/ ٢٦] أي: جعلھم كراما، قال:)كراماً كاتِبینَ([الانفطار/ ١١]، وقال: (بِأَیْدِي سَفرَةٍ كرامٍ بررةٍ) [عبس/ ١٥ -١٦]، وقال:)وجعلَنِي مِنَ المكرمِینَ ([یس/ ٢٧]، وقوله تبارك وتعالى:) ذُو الجلالِ والْإكرامِ ([الرحمن/ ٢٧][6].
وفي اللغات اللاتينية برزت عبارة: "الكرامة الإنسانية" نحو العام 1155م، ونجد َّ أن مقابل لفظة: "الكرامة" لوحدها هو اللفظة اللاتينية "Dignitas" التي لها معنيان أساسيان، نجدهما في القانون جميعاً:
مسؤولية تبوئ صاحبها مكانةً بارزًةً؛ و/أو: الاحترام والتقدير الذي يستحقهما شخص أو شيءٌ ما.[7].
ثانيا: اصطلاحاً
لم يعن اصحاب الفنون والعلوم مثلما عني به اصحاب الفلسفات وعلوم الاجتماع، بوضع حد أو ماهية لمصطلح الكرامة ولذا نجد تعريف الكرامة الانسانية عندهم هو: " مبدأ اخلاقي يقرر ان الانسان ينبغي ان يعامل على انه غاية في ذاته لا وسيلة وكرامته من حيث هو انسان فوق كل اعتبار.[8]
ويرى البعض أن فكرة الكرامة الإنسانية تتضمن مفهوما معقدا للفرد. فأنها تشمل الاعتراف بهوية شخصية متميزة تعكس الاستقلالية الفردية والمسؤولية. كذلك انها تشمل اعترافا بان الفرد بذاته جزء من مجموعة كبيرة وانه يجب ان ينظر في معنى الكرامة المتأصلة في الشخص.[9]
وهنالك من يرى أن مفهوم الكرامة الإنسانية عادة ما يرتبط بفكرة أن لكل إنسان قيمة جوهرية بحكم كونه إنسانا وأن هذه القيمة تحوله الاحترام من جميع البشر الآخرين[10]. وهنالك من يفترض أن كرامة الإنسان هي قيمة متأصلة يملكها جميع البشر. على هذا النحو يعتقد أنها قيمة ترمي إلى اشتراط احترام البشر الآخرين.[11]
وهنالك ثلاثة مفاهيم مختلفة للكرامة:
كرامة الفرد المرتبطة بالحكم الذاتي والحرية السلبية
والكرامة الايجابية للمحافظة على نوع معين من الحياة
وكرامة الاعتراف بالفوارق الفردية والجماعية.
ان كل اشكال هذه الكرامة تعبر عن قيم مختلفة حول الفرد وعلاقته بالمجتمع، القيم التي لها نتائج مهمة عند استخدام الكرامة كمبرر للسياسة الاجتماعية والحقوق الدستورية[12]. وهذه المفاهيم هي:
١- بمعناها الأكثر شمولية ومنفتحة تركز الكرامة على قيمة متأصلة لكل فرد وهذه الكرامة موجودة فقط بإنسانية الشخص ولا تعتمد على الذكاء أو الأخلاق أو المركز الاجتماعي.
٢- يمكن للكرامة أن تعبر وأن تكون بمثابة أساس لتطبيق القيم الموضوعية المختلفة. هذه الكرامة تجسد وجهة نظر معينة لما يشكل الحياة الجيدة للإنسان ما يجعل حياة الإنسان تزدهر للفرد وكذلك المجتمع.
٣- غالباً ما تربط المحاكم الدستورية الكرامة بالاعتراف والاحترام، هذه الكرامة متجذرة في مفهوم الذات الذي يشكله المجتمع الأوسع - هوية الشخص وقيمته تعتمد على علاقته بالمجتمع- ويرى البعض أن الكرامة على نوعين:
النوع الأول: الكرامة المتأصلة: وهي التي تنبع من انسانية الشخص لمجرد كونه انسانا فهي لا تحوله مركزا او مكانة اجتماعية، ولكنها تقتصر على مجرد تعريف الشخص باعتباره متمتعا بالكرامة الانسانية وهي متساوية لجميع البشر.
النوع الثاني: الكرامة الموروثة: وهي التي تركز على قدرات وامكانيات الانسان، أي التمتع بخصائص وسمات إنسانية متميزة مثل العقلانية والفردية والاستقلال والاحترام الذاتي.[13]
الا ان القانون، وعلى وجه التحديد القانون العام يفتقر إلى تعريف مبدئي للكرامة الإنسانية. هنالك من يرى ان كرامة الإنسان تشير إلى القيمة المتأصلة التي يمتلكها بنفس القدر جميع البشر، والتي تتطلب الاحترام من الآخرين[14]. ويرى البعض أن مفهوم كرامة الإنسان كما هو مستخدم في القانون الدولي لحقوق الإنسان والدساتير المحلية يتضمن عناصر وصفية ومعيارية، أي إنه بيان وصفي (على سبيل المثال أن كل إنسان لديه كرامة إنسانية متأصلة بحكم إنسانيته، بغض النظر عن الخصائص الخارجية التي تستلزم نتيجة طبيعية. (على سبيل المثال أيضا، أن كل إنسان بسبب كرامته الإنسانية المتأصلة، يجب أن يمنح حقوق الإنسان على أساس المساواة في المعاملة والاحترام).[15]
في جميع الدساتير التي أقرت به، على ما يبدو، فإن مبدأ كرامة الإنسان له معنى واسع للغاية وشكل أقوى من أن يحقق موقفا منهجيا في الجدال القانوني[16]. شأن الكرامة، نتيجة للمستوى العالي من التعميم الذي يلجأ اليه لصياغة هذا المفهوم، وخلف الاتفاق بشأن المفاهيم المجردة لقدسية الكرامة وقيمة الشخص الانساني، يظهر عدم توافق بخصوص مجال ومعنى الكرامة، واسسها الفلسفية، وقدرتها على ان تكون مرشدا لتفسير حقوق الانسان[17]. مما يؤثر سلباً في قيمته. وعلى الرغم من ذلك، فإن القول بأن مفهوم الكرامة البشرية ما هو إلا صيغة فارغة بالإمكان ملتها بصورة كيفية، فيه الكثير من المبالغة. ولقد تشكلت قناعات في المجتمعات الحديثة، تم تكريسها في تشريعاتها الوطنية، مفادها أنه هناك ممارسات، مثل التعذيب والمعاملة المهينة والرق، تخالف بشكل مباشر الكرامة البشرية وذلك لأن مفهوم الكرامة يعني، وفقا ً لفلسفة ايمانويل كانت Kant Emmanuel، أنه يجب معاملة أي شخص على أنه غاية بذاته وليس وسيلة، من ثم فإن الشخص يملك قيمة غير مشروطة، ومن هنا جاء التمييز بين مفهوم الشخص وبين مفهوم الشيء. ويعرف هذا الفيلسوف الكرامة بأنها القيمة التي تورث الشخص الإنساني الحق في التمتع بمعاملة تجعل منه غاية بذاته، لا مجرد وسيلة لغيره[18].
فلسفة الكرامة الإنسانية:
فكرة الكرامة المراد ھنا في ھذه المقالة مقاربتها فيما تعنيه أن يستشعر الفرد قیمته الإنسانية في جميع أبعاد كينونته ويتخلص من الوسواس القهري الغالب على رؤيته للحياة وتصوره للخلاص بعقلية الماضي، وأن یحترم ذاته والآخر، وأن يتعامل بطریقة أخلاقیة، وأن تحفظ كرامته فلا ینال منھا حيا ومیتا بأي شكل من أشكال الإھانة أو الامتھان، فالكرامة قیمة علیا جامعة، خص اﷲ بھا الإنسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]
الكرامة الإنسانية هي مفهوم ايتيقي يأخذ العديد من الأشكال الفلسفية في مضامينه لكونه لا يأخذ طابع واحد، يعني لا يمكننا أن نحصر هذا المفهوم في تعريف واحد لما له من خصوصية وولوجه داخل العديد من المحاور الفلسفية وخاصة اننا تحاول أن نقارب هذا المفهوم في ظل واقعنا المتلاعب به عبر صراع الايديولوجيات وصدام المعتقدات ومأزق الهويات المسدودة والمتراجعة دوما نحو التراث، حتى أصبحت كل احاديثنا عن الكرامة الانسانية هي ضمن قالب المدونة الفقهية المنتقاة بعناية من أجل التغطية على اسلام الوحي والمعرفة العلمية والانجازات الحضارية، هنا تكمن ازمة الكرامة الانسانية في مجتمعاتنا، والسؤال المنهجي الذي يتأسس على خلفية هذه الأزمة أن المشكلة ليست في المفهوم كإيتيقا, وإنما في طريقة تعاملنا مع قيمة إنسانية أصيلة ثقافيا ومعرفيا واجتماعيا ودينيا، هذا المنظور المعرفي لايمكننا تطويره في صياغة وعي بالكرامة الانسانية ما دمنا نلفق منهجيات العلوم الاجتماعية والإنسانية بدل الاستفادة منها ودراستها بجد ونزاهة وتفكير اسنراتيجي, حتى ننال قسطا من خبرات هذه العلوم وتطبيقاتها, واستثمار مكتسباتها المعرفية, والتوسل بطرائقها التحليلية والتوصيفية والنقدية في تجاوز اشكالياتنا ومشكلاتنا النهضوية العميقة التي تشل رأسمالنا الإنساني وتبقي حياتنا افرادا ومجتمعات غارقة في حدود الماضي وتزوير الذاكرة وتمجيد ذهنيات التلفيق المريرة التي سجنت العقل في سجالات الوهم وأمجاد الآباء وخطاب جاهليات الفلسفة والعلوم الغربية. بحيث يمكن الجزم أن عدم الاستفادة من هذه المنهجيات تجعل أية محاولة في النظر والتعامل مع فكرة الكرامة الإنسانية منقوصة ومحدودة الجدوى والفاعلية بل أمر من ذلك ستكون وهما جديدا وتأويلا تعسفيا مستمر لنص ديني لا يمكننا فهمه خارج مجال تغطية المدونة الفقهية التاريخية هذا من جهة.
من جهة اخرى إن التفكير في الكرامة الانسانية اليوم ضمن خطابات اغلبها مثقلة بالتراث الديني البعيد زمنا وثقافة عن واقعنا، هذا لن يكون له اي مفعول انجازي مادام المخزون المعياري الموضوعي لتصور الكرامة في واقع الفرد والمجتمع معطل، من الصعب رفع التحدي النقدي لوعي الكرامة في مجالنا العربي والاسلامي، اي ترسيم حدود الديني والدنيوي في خرائط العقل لدينا وبروز عصر مابعد التراث الكلامي والفقهي..
والمجال الحقيقي لفكرة الكرامة الإنسانية، إنما يتصل بالهوية، سواء كانت هوية النمط الواحد على أنواعه الديني أو المذهبي أو العرقي أو اللغوي أو الإثني، أم هوية النمط الجزئي أو الكلي.
وعلى هذا الأساس فإن الكرامة الإنسانية هي حالة من الوعي الثقافي السليم لماهية الهويات وعقلنتها وتهذيبها، كرامة ترتبط بهذا الوعي ولا تغادره، كما أنها لاتحصل بشكل عشوائي، وإنما هي بحاجة إلى معرفة وحركة وإيمان، تبدأ من حالة الاستفاقة التي نعني بها حالة التفكير النقدي، التي تخلق مستويات من الوعي الثقافي ترسم خطوط الفصل بين الديني والدنيوي وكذلك تحرير الخطاب والرؤية من رواسب تراث المدونات الفقهية، ثم يأتي ترسيخ ثقافة الكرامة الانسانية عبر السبل كافة، وفي مقدمتها برامج التعليم بمراحله كافة.
مستويات الوعي التي تتصل بفكرة الكرامة الانسانية، لها علاقة بأمرين هما: العقلانية والمعنوية، حركية العقل واحترام الدين كحاجة إنسانية وجودية، وشرط العقلانية تجنب التحيز،، وشرط احترام الدين تجنب التقليد الأبوي. وما يؤكد صلة فكرة الكرامة الانسانية بحالة الوعي الثقافي، أن الالتفات لهذه الفكرة في العديد من المجتمعات حصل في توقيت مصيري وحضور عقلاني وتحرر معنوي حالت دون الانهيار الشامل.
في الختام تعمدت الاطناب في التعريف اللغوي والماهية الاصطلاحية وكذلك تجنب تعريفات المدونات الفقهية والكلامية العتيقة، حتى نتفكر قليلا كم نحتاج من اشتغال فكري وسند فلسفي كي نقف على مأزق نزعات التزوير والتلفيق وتنكيص الهويات ونكتشف كم عطلنا عقولنا لقرون وفقدنا معنى اسلام الوحي في نفوسنا ؟؟ أليست الكرامة الإنسانية سوى عقل يقظ وقلب شغوف بالمحبة والحرية والسلام..؟!
***
أ. مرادغريبي – كاتب وباحث
....................
[1] الدين والكرامة الإنسانية، عبد الحبار الرفاعي، دار التنوير، ط١، ٢٠٢١م، ص ٦. قريبا تكون لنا قراءة مفصلة لمضامين هذا الكتاب الاستراتيجي في حقل الدراسات النقدية الخلاقة للوعي الديني السليم لدى المسلمبن.
[2] المقاييس في اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس،ت. شهاب الدّين أبو عمرو، (بيروت، دار الفكر)، ص 923.
[3] ت. خليل مأمون شيحا؛ ط2، (بيروت: دار المعرفة، 2007م)، ص 1127.
[4] ینظر: لسان العرب، ١٢/٥١٠، مادة (كرم)، دار صادر - بیروت، الطبعة الثالثة ١٤١٤ ھـ، المصباح المنیر في غریب الشرح الكبیر، الفیومي، ٢/٥٣٢ مادة (كرم)، الناشر: المكتبة العلمیة – بیروت. المعجم الوسیط ٢/ ٧٨٥ مادة (كرم)، مجمع اللغة العربیة بالقاھرة، إعداد: إبراھیم مصطفى وأحمد الزیات وحامد عبد القادر ومحمد النجار، الناشر: دار الدعوة، د. ت.
5 تأویل مشكل القرآن، أبو محمد عبد١١١لنضضلض مسلم بن قتیبة الدینوري (المتوفى: ٢٧٦ھـ)، ص ٢٦٩، المحقق: إبراھیم شمس الدین، الناشر: دار الكتب العلمیة، بیروت – لبنان
[6] المفردات في غریب القرآن، أبو القاسم الحسین بن محمد المعروف بالراغب الأصفھانى (المتوفى: ٥٠٢ھـ)، ص٧٠٧، المحقق: صفوان عدنان الداودي، الناشر: دار القلم، الدار الشامیة - دمشق بیروت – الطبعة الأولى - ١٤١٢ ھـ
[7] La Dignité Humaine: La réinsertion socio juridique des démunis, p.17
[8] Hamid Hanoun Khaled, Human Rights, Al-Sanhouri Library, Baghdad, 2013.
[9] Andrew M.Song, La dignité humaine: une valeur directrice fondamentale pour une approche des droits de l'homme en matière de pêche, (2015)16 Marin Policy 168.
[10] Ethel Ngozi Okeke,, Justice et Dignité Humaine en Afrique (IRCHS,2014).
[11] Kant sur la dignité humaine (1", De Gruyter. 2011) Oliver Sensen.
[12] Isaiah Berlin, Two Concepts of Liberty, dans Four Essays On Liberty (1969 Oxford, Angleterre: Oxford University Press)134.
[13] طه احمد سعيد الفقي، النظام القانوني للحق في الكرامة الانسانية، دار النهضة العربية، القاهرة،٢٠١٨،ص ٦٤
[14] Audrey R Chapman, Dignité humaine, bioéthique et droits de l'homme (2011) Vol.3.No 1.Formulaire de la loi d'Amsterdam3.
[15] Conor O'Mahony. Il n’existe pas de droit à la dignité (2012) Volume 10. Numéro 2 563
[16] Michael Welker, La dignité humaine et le concept de personne en droit», dans Michael Welker (éd.). La profondeur de la personne humaine: une approche multidisciplinaire (Ferdmans 2014) 274 à 274.
[17] وليد محمد الشناوي، مفهوم الكرامة الانسانية في القضاء الدستوري، دار الفكر والقانون المنصورة مصر، ٢٠١٤، ص ۲۸
[18] فواز صالح مبدأ احترام الكرامة الإنسانية في مجال الأخلاقيات الحيوية (دراسة قانونية مقارنة) بحث منشور في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد ٢٧، العدد الأول, ٢٠١١. ص ۲۹