أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء؟
السؤال أعلاه هو من أكبر الأسئلة في تاريخ الفلسفة،والعديد من الفلاسفة والعلماء والباحثين علّقوا على هذا السؤال وحاولوا الإجابة عليه (1). في الحقيقة، فيلسوف القرن العشرين مارتن هايدجر أطلق على هذا السؤال بـ "السؤال الأساسي في الميتافيزيقا". السؤال يبدو أثار شعورا بالرهبة والدهشة لدى العديد ممن طرحوا السؤال لأنه في النهاية، يبدو من المنطقي جدا ان لا يجب ان يكون هناك شيء ابدا، ولكن مع ذلك نرى بوضوح هناك شيء.
عندما نسأل سؤالا لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء، نحن نشير الى كلية الوجود وليس فقط الى شيء محدد مثل الكون او لماذا حدث الانفجار العظيم. الآن وقبل ان نحاول الإجابة على السؤال نحتاج لفحصه بشكل دقيق، خاصة الكيفية التي نسأل بها السؤال. فلاسفة مثل لودفيج فيتجنشتاين كتب عن الكيفية التي تكون بها اللغة مصدرا للكثير من الإلتباس الفلسفي. فلاسفة أمضوا عقودا وقرونا حائرين بالأسئلة الفلسفية التي احيانا تُصاغ بشكل غير منطقي عند البدء بها، وهكذا تصبح لايمكن الإجابة عليها في كل الأوقات.
طريقتان لطرح السؤال
عندما نبدأ بالتحقيق في السؤال، نجد ان هناك طريقتين لصياغته.
الصيغة (س) : لماذا يوجد أي شيء بدلا من لا شيء؟
الصيغة (ص): لماذا يوجد هناك أي شيء؟
ربما يبدو انهما بالأساس نفس السؤال لكن أحد السؤالين يفترض سلفا شيئا لا يجعل الآخر مختلفا. كلاهما يفترضان مسبقا ان شيئا ما موجود بالطبع، لكن السؤال (س) يفترض مسبقا بالإمكان ان يكون مفهوم "لا شيء أبدا" موجود ايضا. فمثلا، نحن يمكننا الاعتقاد بهذا المفهوم كـ
1- ربما لم يكن هناك أي شيء
2- من الممكن وجود حالة اللاشيء
3- بالإمكان وجود عالم لا يوجد فيه أي شيء
بكلمة اخرى، الجزء "بدلا من" في السؤال (س) يفترض سلفا ان عبارة "لاشيء موجود" هي حالة ضرورية بينما السؤال (ص) لا يفترض ذلك.
ما هو الاختلاف؟
لماذا يُعتبر هذا الاختلاف هاما؟ انه هام لأنه طالما نحن سلفا نفترض ان لاشيء هو حالة ضرورية، عندئذ لا توضيح يمكن طرحه بالنسبة للوجود المشروط (2). ذلك يعني ان الجواب على السؤال (س) هو محدود اما بسلسلة لا متناهية من الأسباب او بنوع من الوجود مثل الله، الذي هو غير مشروط ويوضح ذاته.
بنية السؤال (س) تستبعد الإجابات التي لا يستبعدها السؤال (ص). ومن جهة اخرى، السؤال (ص) هو أكثر حيادية ولا يفترض مسبقا وجود فقط ما هو مشروط. هنا، نحن لا نفترض مسبقا ان "لاشيء"هو حالة ضرورية وشيء مشروط او غير مشروط. لذلك، نحن بحاجة لنبذ السؤال "لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء" والذهاب قدما نحو ،لماذا أي شيء على الاطلاق موجود؟
قبل ان نبدأ بمعالجة السؤال لنتحدث عن الردود responses مقابل الاجابات answers على السؤال الاساسي.
الردود مقابل الاجابات
الفلاسفة والعلماء والباحثون لديهم مختلف الردود على السؤال الأساسي وبعض الردود قد تتضمن أجوبة لحلّه. ومن جهة اخرى، قد يرد بعض الفلاسفة بان السؤال لايمكن الإجابة عليه او حتى لا معنى له. تقريبا جميع الردود التي نسمعها تقع ضمن هذين الصنفين.
اولا، السؤال يمكن ان يُجاب عليه او لا يمكن الإجابة عليه. اذا كان الرد هو "لايمكن الاجابة عليه" عندئذ فان الرد يقع في صنفين مختلفين، اما بلا معنى او ذات معنى.
الرد الذي بلا معنى يعني ان السؤال ذاته غير منطقي او زائف. انه ليس له معنى ونحن لا نستطيع الاجابة عليه. ومن جهة اخرى،السؤال قد يكون ذو معنى لكن لايزال لايمكن الاجابة عليه في هذا الوقت.
اذا كان هناك جواب سيكون من المحتمل جدا أحد الانواع التالية:
جبري necessitarian (فيه كل حدث هو ضرورة نتيجة لسلسلة من الأحداث)، او ديني، او مرتبط بضرورة غير منطقية nomological، او حقيقة عمياء brute-fact(3).
الأجوبة الجبرية تدّعي ان هناك توضيحات منطقية للسؤال. لماذا هناك أي شيء على الاطلاق؟ لأنه حقيقة ضرورية بان شيء ما يجب ان يوجد. الأجوبة الإيمانية تؤكد بان هناك إله او كائن ديني هو سبب بحد ذاته يوضح لماذا يوجد أي شيء.
الأجوبة المرتبطة بضرورة غير منطقية كتلك التي يؤمن بها جون ليسلي John Leslie ونيكولاي ريشرNicholas Rescher وآخرون، تدّعي بالاساس ان هناك عالما من المفاهيم المجردة والاحتمالات او "قوانين اولى" proto-laws كما يسميها ريشر، منفصلة عن عالم الاشياء الملموسة وهو مسؤول عن سبب وجود الشيء.
أجوبة الحقيقة العمياء، لا حاجة فيها لتوضيح سبب وجود الشيء. هناك حقيقة عمياء في مكان ما في الكون يجب ان نقبل بها في توضيح الوجود.
***
حاتم حميد محسن
.................
Think deeply-medium, Dec 28, 2020
الهوامش
(1) مقال بنفس العنوان أعلاه سبق وان نُشر في صحيفة المثقف بتاريخ 1 مايو 2021 ولكن بسياق ومقاربة مختلفين.
(2) هناك نوعان من الوجودات: واحدة توجد لكنها ربما تفشل في الوجود وهذه تسمى وجودات مشروطة contingent beings والاخرى لا يمكن ان تفشل في الوجود وتسمى وجودات ضرورية necessary beings.
(3) الحقيقة العمياء هي الحقيقة التي لا يمكن توضيحها كحقيقة أكثر عمقا وجوهرية. هناك طريقتان رئيسيتان لتوضيح شيئا ما وهما عن طريق معرفة "ما الذي سبّب حدوثه" او عن طريق وصفه على مستوى أكثر دقة. على سبيل المثال، لو عُرضت قطة على شاشة كومبيوتر، هذه يمكن توضيحها عبر الفولتية المعينة في عنصر معدني في الشاشة، والتي بدورها يمكن توضيحها على مستوى جسيمات معينة دون الذرة تتحرك باسلوب معين. لو يستمر المرء في توضيح العالم بهذه الطريقة ويصل الى نقطة لا يمكن فيها إعطاء توضيح أعمق، عندئذ يكون قد وجد بعض الحقائق غير القابلة للتفسير لا يستطيع فيها إعطاء تفسير انطولوجي. هناك يوجد شيء ما فقط. رفض الحقيقة العمياء يعني الاعتقاد بان كل شيء يمكن توضيحه. عبارة كل شيء يمكن توضيحه تسمى احيانا "مبدأ السبب الكافي".