أقلام فكرية
عدنان عويّد: المنطق الشكليّ أو الصوريّ والمنطق العقلانيّ أو الواقعي
يبدو لا يوجد اتفاق عند المهتمين بالشأن الفلسفيّ على النطاق الدقيق لتحديد مفهوم المنطق، لكنه في سياقه العام، يقوم على تناول أو استخدام الحجج والوسائل المعرفيّة المتاحة، للكشف من خلالها عن حقائق الظواهر موضوع البحث، وهي وسائل وحجج منها ما هو مبنيّ على البرهان والاستدلال والاستنتاج والتجربة وقوانين المعرفة الحقيقية الأكثر شيوعًا. ومنها ما هو مبنيّ على الحدس والتأمل والخيال والعاطفة والذاتيّة وغير ذلك. (1)
ويمكن القول أيضاً: إن المنطق من الناحية العلميّة، هو علم دراسة مناهج الفكر، وطرق الاستدلال والاستنباط للوصول إلى معرفة الظواهر قيد البحث. ويشار إلى أهميّته، لأنّه يساعد الناس على التمييز بين الأفكار المنطقيّة، القويّة منها والضعيفة، حتى يتمّ الوصول إلى المعرفة المنطقيّة أو العقلانيّة.
هذا وتقوم المعرفة المنطقيّة على اتجاهين رئيسيين هما:
أولاً: المنطق الشكليّ أو الصوريّ: وهو الصيغة التي تبرز سماتها وخصائصها في التالي:
1- هو منطق مجرد يتجاهل حركة الظواهر وتطورها. أي أن الظواهر مواضيع البحث تعتبر ثابتة ومطلقة في وجودها عند الحوامل الاجتماعيّة الحاملة لهذا المنطق، فهذه الحوامل تعتمد على الحدس والملاحظة الحسيّة الشكليّة للظواهر والخيال والتأمل، كما تعتمد على الاستنتاجات المنطقيّة المجردة القائمة على الحركة الذاتيّة للتفكير،
2- هو منطق يضع حدوداً صارمة بين الظواهر. أي هو يعتمد على تفكيك الظواهر، ولا يؤمن بوحدتها وتنوعها في الطبيعة والمجتمع، وبوجود علاقة جدليّة بينها، وبالتالي لا يضع بالاعتبار التحولات أو التبدلات التي تصيب الظواهر بسبب حركتها وتطورها. وهو بذلك يكون أقرب إلى المنهج التفكيكي للظواهر وتفريدها.
3- هو لا يأخذ بالحسبان الفوارق والأضداد التي تشكل لب الظواهر الطبيعيّة. أي هو ينظر إلى طبيعة الظواهر نظرة سكونيّة في جوهرها وآليّة عملها، ولا يعترف بجوهر التناقضات القائمة في بنيتها الداخليّة ودورها في حركة الظواهر وتبدلها عبر الزمان والمكان. أو بتعبير آخر هو لا يؤمن بوحدة وصراع الأضداد داخل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة.
4- هو يعزل الصورة عن المضمون. أي هو لا يقر بتلك العلاقة الجدليّة بين شكل الظاهرة ومضمونها، بل يفصل بينهما، وغالبا ما يشتغل على شكلانيّة الظواهر ليقرر معرفتها النهائيّة. أي هو يأخذ بالدراسات المورفولوجيّة (الظاهراتيّة)، (2) كوسيلة للمعرفة ويتناسى الجوهر، كونه يعتمد على التجربة، والتجربة ليست من وسائل بحثة.
5- هو يركز كثيرا على المستقبل الذي يلعبه العقل. والعقل عنده هو العقل المجرد الميتافيزيقي أو اللاهوتيّ. أي العقل المسبق المعرفة، والمنفصل عن الواقع، أو بتعبير آخر، العقل الذي يتبنى أفكاراً وتعاليم مثاليّة تعتمد على الفرضيات والتصورات والتخيلات التي يتعذر البرهان عليها، والتي تُخضع جوهر الأشياء بشكل مسبق لمنطق الفكر الذاتي البحت، لا لقوانينها الطبيعيّة الخاصة.
ثانياً: المنطق الواقعيّ، أو العقلانيّ الجدليّ: وهو المنطق الذي تبرز سماته وخصائصه في التالي:
1- هو منطق حي. أي منطق واقعيّ عيانيّ تكشف حقائقه التجربة والممارسة أولا، لتصل أخيراً إلى الاقرار النظريّ بما تم الوصول إليه عبر هذه التجربة والممارسة ثانياً.
2- يعلمنا هذا المنطق أن الكل الكونيّ هو ما هيّة واحدة. أي أن الطبيعة والمجتمع كلاهما يشكلاًن وحدة لا يمكن الفصل بينهما، في الوقت الذي يعتبر فيه أن مكونات الطبيعة تشكل وحدة قائمة بذاتها، وكذلك المجتمع. وأن هناك علاقة جدليّة تربط هذه المكونات كلها مع بعضها، بحيث أن كل جزء منها يؤثر بالآخر ويتأثر به.
3- هو يمثل علما مطلقاً من التطور. أي أن الحركة والتطور وبالتالي التبدل هي قيم مطلقة في الظواهر. ففي الحركة تتجدد الظواهر في الشكل والمضمون دائماً، وما السكون إلا طريقا لموت الظاهرة.
4- هو لا يكتفي بعكس التطور والتغير اللذين يجريان في العالم، بل ويتوجب عليه تفسير التناقض القائم على أساس هذا العالم. إي أن المنطق الجدليّ أو الواقعي لا يكتفي بكشف سمات وخصائص الظواهر والتأكيد على حرتها وتبدلها وتطورها فحسب، بل هو يعمل على كشف جوهر الظواهر موضوع البحث أو المعرفة، وذلك من خلال البحث عن التناقضات الداخليّة في جوهر الظواهر. أي الوحدة والصراع داخل الظواهر ذاتها التي تؤدي إلى الحركة والتطور والتبدل في هذه الظواهر. وهو هنا يرفض التعليل اللاهوتيّ والميتافيزيقيّ في التعامل مع الظواهر. أي هو يعتبر التناقض مشروعاً واقعيّاً لأنه موجود في الأشياء ذاتها.
6- إن علم المنطق العقلانيّ الجدليّ، يهتم بالعالم الواقعيّ الذي يرتبط ارتباطاً بنا وبأفكارنا. وفلسفة العمل في هذا المنطق هي المدعوة لا لإشباع حب الاستطلاع الإنسانيّ فحسب، بل وإلى إعادة تنظيم الحياة تنظيماً عقلانيّاً أيضاً، إن تطور الفلسفة سيودي بالضرورة إلى تحويل الفكر إلى عمل.
7- إن المنطق العقلانيّ الجدليّ ينظر إلى الظواهر نظرة ماديّة مرتبطة بالواقع، ويمكن البرهان على وجودها ومعرفتها من خلال التجربة، ومعرفة القوانين الخاصة بها، وأن ليس هناك شيء غير ماديّ في العالم، والفكر ذاته مادة عندما يشخص واقعيّاًّ. والطبيعة عمليّة ماديّة واحدة من حيث المضمون، ومتنوعة من حيث الشكل، تتم وفقاً لقوانينها الداخليّة الخاصة، وأن الطبيعة والمجتمع في حالة حركة تطور وتبدل وتحول إلى اشكال أخرى دائمة.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريّة
...........................
الهومش:
1- الويكيبيديا: المنطق (من اليونانية القديمة: λογική، بالحروف اللاتينية: logikḗ) هو الدراسة المنهجية لشكل الاستدلال الصحيح، وقوانين المعرفة الحقيقية الأكثر شيوعًا، الاستنتاج الصحيح هو الذي يُوجِد علاقات محددة للدعم المنطقي بين افتراضات الاستدلال ونتائجه.
2- راجع موقع المعرفة:الظاهريّة (أو الظواهريّة أو الظاهراتيّة) Phenomenalism في الفلسفة هي المذهب القائل بالوجود الحقيقي للظواهر وإنكار الجوهر المادي. ويزعم أصحاب هذا المذهب أن الإدراك لا يكون إلا بظاهر الأشياء، أي بما تبدو عليه، بمعنى أنه إدراك بما ينطبع من الظواهر على الحس، وما يتخلف عن هذا الانطباع من صور، وما يترتب عليها من أفكار، وعلى ذلك يكون الحديث عن الشيء، حديثاً في الواقع عن انطباعات عنه، وليس عن الشيء نفسه، وكأن وجود الأشياء هو وجودها في الوعي، وليس وجودها في الواقع، والتفكير بها أو الحديث عنها هو إيجاد لها.
مثال: نحن نعرق الثلج بلونه وبرودته وملمسه ودرجة صلابته فقط، وليس بآلية تشكله وعلاقاته مع محيطه وغير ذلك.