أقلام فكرية
سامي عبد العال: انماط المثقفين (3)
ربما يسلكُ المثقفُ نمطاً معيناً من الأدوار الثقافية، ليس رغبةً منه بصورةٍ واضحةٍ في ذلك وإنْ بدت الاختياراتُ والأهدافُ كامنةً تحت السطحِ، لكن منطقَ الممارسات الثقافية يفرضُ وجود التصنيف في نهاية المطاف. إنَّ اختيارات المثقفين (المواقف والأفكار) هي الخطوط التي تصلهم بفضاء الحياة، وكيفية التصرف واضعةً أياهم على محك التحليل. حيث ينكشف دور المثقف في طرح القضايا والمشاركة في إبرازها والدفاع عنها من عدمه. وتظهر كذلك نواياه التي يحاول إخفائها من وقت لآخر (زاعماً عكس ممارسته): أنَّه ما كان ليرَ غير ما يفيد الحقائق وحياة الناس!!
في هذا الإطار، يواصل بعض المثقفين المعاصرين تجاهل الجوانب الإنسانية والهروب من الواقع، ذلك نتيجة الإلتصاق بوظائف هامشيةٍ أخرى. لقد سقط هؤلاء المثقفون في اختبار الإنسانية الأول، اختبار أنْ يكونوا أحراراً مدافعين عن المبادئ لا المصالح، عن القيم والأسس لا القشور والمظاهر. وليس يوجد منْ بإمكانه الظفر بالحياة الحرة وسط هذا التراجع المُرعب.
كثيرةٌ هي العوامل وراء الحالة السابقة، ولكن أبرزها تلك التحولات التي أصابت الثقافة الراهنة في مقتل. مثل: أولا: انتشار الوسائط التواصلية التي تسمح بظهور غير الجديرين باسم المثقف. ثانياً: استعادة المركزيات لواقع يدافع عن منافعها وتحصيناتها. ثالثاً: غياب النقد وأدوات المقاومة الثقافية الناجعة تجاه نزعات الاستحواذ والهيمنة. رابعاً: تضخم أسواق الاقتصاد الثقافي حتى ابتلعت كل شيء. خامساً: تسليع الثقافات والتراثات بإعتبارها بضائع ترفيهيةً لا وزن لها. سادساً: عولمة التفاهات وتكريس نمط الاستهلاك السائد، وقد طالت الجوانب الرمزية والميتافيزيقية. سابعاً: شيُوع مظاهر التسلُّط والتقليد في دورات لا تنتهي من المعاودةِ والتكرارِ.
ضمن هذا المناخ، سأواصل عرض باقي انماط المثقفين:
المثقف الرعوي
تأتي تسمية المثقف الرعوي اعتماداً على توظيف الثقافة لأغراض مادية رعوية وأنظمة سياسية رعوية بالمثل. وهو مثقف يقدم مادةً ثقافيةً قابلة للبيع والشراء تحت غطاء التداول والرواج. فهو يستهدف منذ اللحظة الأولى وضعَ قدراته قيد الاستعمال. وربما يكون لديه ما يقدمة بشكل (معرفي أو فكري أو بحثي)، لكنه شخص لايتمتع بالأصالة التي تؤهله لأنْ يكون مستقلاً. هناك عيب تأسيسي في هذا النمط ألَا وهو (غياب الرؤية الابداعية)، إنه مثقف حالة لا مثقف أصالة، مثقف تآمري لا صاحب فكر حقيقي، مثقف بروباجندا لا مثقف مشكلات فعلية، مثقف برتوكولات لا مثقف نقد وتطور، مثقف صفقات لا مثقف قضايا وأزمات. بل بالعكس، ربما سيزيد الأزمات تضخيماً، لأنَّه جزء منها، ولن يكون أبداً جزءاً من الحل، نظراً لانعدام نضج ذهنيته.
ورغم تواجد هذا النمط المتكرر، إلا أنه ظهر بقوةٍ في بيئاتنا العربية (قبيل سنوات الربيع العربي وما بعده)، إذ استطاعت أنظمة الحكم الثرية أنْ تستقطب – كما سأوضح - بقايا المثقفين المتحولين بين أيديولوجيات مختلفة إلى بلاطها الرعوي. وأن تستعملهم لأغراض جماهيرية رعوية، لترويض الجماهير واستقطاب المؤيدين إلى جانبها. ويشكل المثقف الأداة الديماجوجية الشعبوية للسيطرة على الناس وإدخالهم الحظائر السياسية من أوسع الأبواب.
المثقفون سالفو الذكر يدورون مع رأسمالية الأنظمة الحاكمة دوران العلة مع معلولها، وهي رأسمالية رعاعية ورعوية جنباً إلى جنب. رعاعية من زاوية تذليل طاقات البشر لخدمتها والسماح لدورتها التداولية بالدهس فوق عقول وأجساد الجماهير. وقد أخضعتهم الرأسمالية لنمط استهلالكها الإنساني وتضييع فرص النمو والتطور، ويدخل المثقف من هذا الجانب باعتباره إحدى عملات الأنظمة في أسواق السياسة والثقافة.
أما الرأسمالية الرعوية، لكون الأنظمة الحاكمة تستثمر في أنشطة تافهة، وتقوم على اقتصاديات رعوية بدائية تعوق نمو المجتمعات، وكذلك لكونها أنظمة ترعى أتباعها كقطعان سائمة على فتات الحكام ورغباتهم التي تظهر من حين لآخر، سواء بالنسبة لشعوبهم في الدولة الواحدة أم تجاه دول وشعوبٍ أخرى. كما ظهر ذلك من دخول أنظمة دول عربية في صراعات مع أنظمة أخرى أبان الربيع العربي، حيث وقف المثقفون مدافعين عن تلك الأنظمة الخادمين في بلاطها. وتجد المثقفين متوزعين على خريطة الأحداث في دول المشرق والمغرب العربي، كلٌّ منهم يقف بين مجموعة من الباحثين وأصحاب الأقلام الذين يشنون هجوماً بحثياً وثقافياً تجاه الأنظمة العدائية لدولهم.
ظهر أحدهم المتحول أيديولوجيا في أحدى مراكز البحوث، وكأنه مُشرّع لحياة الشعوب العربية، وليس باحثاً أو كاتباً فحسب، وأخذ المبادرة بشن(الهجوم البحثي) على بعض دول الربيع العربي متهماً إياها بمعاداة نظامه الحاكم الذي يعمل لديه. وطوال الوقت، تُوجه إليه الأوامر من أجهزتها السياسية لدراسة حالة دولة عربية معينةٍ أو أخرى تقف بالمرصاد لدولته، فإذا بالمثقف الرعوي يعقد مؤتمراً أو ندوةً أو يدعو إلى تأليف كتاب جماعي ضارباً في عمق تلك الحالة ويكيل الاتهامات لها طوال الوقت!!
إنَّ هذا المثقف الرعوي يمثل رأس حربة مسمومة في الصراع بين أنظمة الدول العربية، ويعد شخصاً خادماً للرأسمالية الرعوية التي تحمله إلى أي مكان يريد وإلى أي باحثين يبتغي تجنيدهم لخدمة نظام دولته الحاضنة. علما بأن هذا المثقف كان في مرحلة سابقة يزعم كونه صاحب مواقف قومية شريفه ويرفع شعارات العروبة مدافعاً عن قضايا الأمة كل الأمة ضد التواجد الغربي والصهيوني وضد التدخلات الأجنبية العسكرية في المنطقة العربية.
المثقف المتحول
في مجتمعاتنا العربية المختلفة، ظهرت شخصيات ثقافية مُتحولة من اتجاه إلى اتجاه آخر. هم يخلعون أفكارهم وأحياناً أدمغتهم كما يخلعون نعالهم خارج البيت. فهناك مثقفون متحولون من الماركسية إلى النزعة القومية، ومن الماركسية إلى النزعة الاسلاموية، ومن العلمانية ذات المرجعيات الغربية إلى المتمسحين بمرجعيات إسلامية كأنها ظهرت لأول مرة، ومن مصاحبين لرجال السياسة والإعلام وكتاب في صحف رسمية إلى مشتغلين في مراكز بحوث وكاتبي تقارير خاصة، بل متحولون من التأييد لأنظمة معينة إلى أنظمة حاكمة أخرى يعتاشون على هباتها ورعايتها.
وهؤلاء يمثلون فريقين يشتركان في بعض السمات:
الفريق الأول: هم من كانوا يعتنقون أفكاراً وتوجهات كالماركسية على سبيل المثال، ثمَّ فجأة يعلنون أنهم اعتنقوا- كلية- توجهات أخرى باختلاف مشاربهم، أو العكس بطبيعة الحال. وعادة ما يحدثون قطيعة في أفكارهم بين مرحلتين. وهو التحول الذي ينتقل بأصحابه من النقيض إلى النقيض. وهؤلاء يشبهون المراهقين حين يمارسون انتقالاً من فكرة إلى فكرة، ومن سلوك إلى سلوك باعتبار هذه المرحلة مرحلة التقلبات وعدم النضج. وكم رأينا أحدهم كان ملحداً أو علمانياً أو شيوعياً، ثم فجأة يعلن (توبته الثقافية)، وقد انضم إلى قوافل التنظيمات الإسلامية أو أصبح قومجياً منافحاً عن نظامه الحاكم، وكأنَّ القومية أو الاسلاموية قد استحالت إلى دين جديدٍ.
والحقيقة أنّه لم تخلو جماعة دينية من أحد ممثلي النمط المتحول، معتبراً أن حياته قبل الجماعة نوعاً من الانحراف والضلال. ولذلك يحاول فيما بعد أن ينتج شيئاً مقروءاً عن سلبيات ما كان يعتنق، وأنَّ تحولات جوهرية قد أخذته إلى حياته الجديدة التي هي الباقية ولها كل الإخلاص والولاء. والأمر نفسه مع بعض المثقفين في المجال السياسي، حيث يغادرون انتماءاتهم وأحزابهم ويرحلون إلى انتماءات وأحزاب أخرى يرونها أكثر نجاعةً، وقد يظلون في هذه الحركات البهلوانية دون توقف ... أو يتوقفون حيث تتوقف السلطة وترسخ أقدامها، لأنَّهم يعلمون أنَّ المنافع توجد حين توجد أصابعُ السلطة التي تحركهم عادة.
الفريق الثاني: وهم مثقفون يتبنون قناعات فكريةً وثقافية ما في بداية حياتهم، وينحازون إلى توجهاتٍ بعينها، ثم سرعان ما ينخفض مؤشر التوجهات مع التقدم في العمر، ويعدلون من رؤيتهم قليلاً أو كثيراً. وقد يختارون الكتابة في موضوعات مناقضة إلى حد ما لموضوعات الكتابات الأولى. وهؤلاء يختلفون فكرياً ولكنهم يبقون كما هم عملياً، مثل زكي نجيب محمود الذي كتب في بداياته الفلسفية: " نحو فلسفة علمية " و" خرافة الميتافيزيقا " و" شروق من الغرب"، ثم كتب مؤخراً: " قيم من التراث " و" عربي بين ثقافتين ". وكذلك عبد الرحمن بدوي الذي بدأ وجودياً ذا طابع إلحادي متمرد على التقاليد والموروثات في كتابه " الزمان الوجودي" و " الحور والنور" و " من تاريخ الالحاد في الإسلام" و" شخصيات قلقة في الإسلام"، وانتهى ذا طابع ديني محافظ " دفاع عن النبي محمد ضد المنتقصين من قدره" و" دفاع عن القرآن ضد منتقديه". وهذا الفريق الثاني يعيدُ النظر في المقدمات التي انطلق منها، وقد يكتشف موضوعات كانت جديرةً بالبحث والدراسة، أو يسلط رؤيته صوب قضايا عامةٍ واسعةٍ الانتشار في بيئته الثقافية.
أمَّا الفريق الأول، فهم أصحاب التحول الحاد في مسارهم الفكري، ويكشفون عن مواقف تمثل ردود أفعال لا أفعال، فالآراء والأفكار الأولى كانت أصداءً لحياة القهر والتسلط التي هي كل ما يملكون. ففي البيئات الأقل انفتاحاً وحريةً، يلوذُ بعض المثقفين بأفكار وتوجهات، كأنَّها حقائق من باب التمرد والاختلاف عن الثقافة الشائعة. وقد يأخذهم العناد مأخذاً بعيداً في التصلُّب للآراء من غير نقدٍ. وبعد ذلك يحدث الإنقلاب من النقيض إلى النقيض مهما تعددت الأسباب أو تباينت المبررات، نظراً لإنعدام الأصالة في مرحلتي البداية والنهاية.
الحقيقة أنّ نمط المثقف المتحول بفريقيه يكشف أصالة المثقفين من عدمها، لأنهم أصحاب دور حقيقي، ولهم من الإبداع- أو هكذا يفترض- ما يجعل اسهامهم ذا تأثير في المجتمعات. أما التحول فعلاقة قائمة على خلل الرؤى المواقف. وقد يكون التحول مقبولاً في حالة وجود أخطاء في المعرفة أو في التطور اللازم لمواكبة العلوم وجديد التفكير والبحث.
المثقف الكوني
نمط نادر الوجود دون توافر إبداع حقيقي تكون وجهته الإنسانية جمعاء. وهو المبدع على الأصالة ويشق طريقه رأساً إلى الاهتمام بقضايا الإنسان والحقيقة، ويفعل غير عابئ بما يترتب على أفعاله واسهامه الثقافي من نتائج. والثقافة تبدو من تلك الزاوية هي فنون الإلتقاء المتنوع والأصيل مع الآخر بإطلاق.
1- لا يأخذ المثقف بثنائيات الفكر أو الحقائق أو الميتافيزيقا، لكونه صاحب رؤية نافذة، رغم اختلاف الأزمنة والمجتمعات.
2- يمارس دوره كأنَّه يتكلم لكل البشرية من غير أن يُعنى بالقضايا التي تميز وتفرق.
3- يضع الحقائق نصب عينيه لا يحيد عنها، مهما تكن قوةُ الممارسات المضادة لما يعمل.
4- يشعر الناسُ كل الناس بكونهم معنيين بما ينتج من ثقافة، لأن من طبيعة عمله أن يتجاوز المحلي والقومي والعرقي إلى مخاطبة الإنسان كونياً.
5- يحمل فكره وتحمل أفعاله الثقافية جانب الهدم والبناء، الهدم لأفكار وتصورات سابقة وبناء أفكار جديدة، مثل كل مبدع حين يعمل في الوقت نفسه على الجانبين معاً.
6- تنطوى أعمال هذا المثقف على العناية بالمستقبل المشترك لحياتنا الكونية، فليس هناك مثقف لا يهمه المستقبل إلاَّ ويسقط في نزعة مؤدلجة أو دجما فكرية.
7- لا يخضع لسلطة ولا يروم التوافق مع أيديولوجيا أو اتجاهات تجزيئية، لأن المثقف الكوني بطبيعة فكره الفلسفي لا يهادن أية سلطة.
8- ليس المثقف ابن بيئته المحلية، لكنه يولد من الدور الذي يؤدية لكافة شعوب الأرض، إنه مصدر إلهام ومنارة عامة تضيء دروب العتمة، سيجد لديه الناس مفتاحاً رمزياً لحل مشكلاتهم وفهم الحياة.
9- يتميز عمله بالمعايير الكونية للحياة بشكل(أفقي ورأسي) في وقت واحدٍ، أي ليس مستغرقاً في صراعات نوعية، لكنه يشتغل على القيم الكبرى الجامعة، أنْ يعني ما يعنيه ناظراً إلى الآخرين دوماً.
وقطعاً تعدُّ بيئاتنا العربية عقيمةً لإنجاب مثل هذا المثقف الكوني، نظراً لانشغال المثقفين بالصراعات المحلية وعدم قدرتهم على النظر خارج الصناديق المغلقة لكل سلطة يدينون لها بالولاء. كما أنَّ هذه(الخامة الكونية) غير متوافرة من جانب الأعمال الفكرية التي يشتغل عليها، فالمثقف لا يري إلا بجلده اليومي و لا يشعر إلاَّ بقرون استشعاره الخاصة التي انكفأت على النسبي المستهلِك لكل قدراته قبل أنْ تنضج.
ربما الأسباب كثيرة وراء هذا الجدب الثقافي عن ولادة المثقف الكوني لدينا، لكنها بمثابة (النقيض الموضوعي) لكل معالمه الكونية المذكوره، فثقافتنا لا تترك الحياة حرةً طليقةً، فهي تسعى للإنغلاق الدائم، بينما كانت فترات الانفتاح نادرةً، ولا تحدث سوى تحت وقع أحداث كبرى. كما حدث مع فترات الاحتلال الغربي لبعض بلداننا العربية، ونتيجة الاحتكاك غير المتكافئ مع مجتمعات أوروبا والغرب الأمريكي. وقد يكون الانفتاح نتيجة التخلف الشديد في مظاهر الحياة مقارنة بالآخرين. ونحن نعلم أنَّ العبور المادي للتقنيات ووسائل الحضارة أسرع وأكثر نفاذاً من حركةِ الأفكار والثقافة.
وهذا بالطبع لم يحُل دون وجود مثقفين كونيين عاشوا تجربة كونية الحقائق الإنسانية سواء من الشعراء والأدباء والفنانين الكبار أم من المتصوفة ورجال الفكر والمعرفة. فأشعار المتنبي وأبي نواس تمس أوتار إنساننا الكوني قبل أن تنزل منازل الاستحان لدى عرب الجزيرة والرافدين، ونتاج أدب نجيب محفوظ ويوسف أدريس والطيب صالح وعبدالرحمن منيف يستطيع أن يجد فيه الإنسان الغربي بعضاً من همومه كما يجدها لدى جارثيا ماركيز وإرنست همنجواي وتشيكوف ودوستويفسكي وبودلير ورامبو وهولدرلين.
والمفارقة الحاصلة أنه رغم حضور الطابع الكوني للثقافات العالمية في تفاصيل الحياة اليومية، إلاَّ أن مثقفي العرب لم يكونوا على الصعيد نفسه، ثمة نكوص مباشر أو غير مباشر تجاه نزعات محافظة ارتدت بهم إلى ثقافة محدودة بأطر الزمان والمكان، ولم يتطلعوا إلى أبعد من ذلك. أنَّها ثقافة إنحطاط الإنسان الذي ينتعش ويعيش لدينا مثل الميكروبات. لدرجة أنَّ بعض المثقفين يفضلون لوناً ثقافياً كهذا على ألاّ يعيشوا عصرهم المنفتح. ويروا في المصالح الضيفة فردوساً موعوداً لن ينالونها بحالٍّ من الأحوال لو خطوا بالخارج بعيداً عنها.
***
د. سامي عبد العال