أقلام فكرية
محمد يونس محمد: تحولات الفلسفة الالمانية
نبذة مختصرة
مثلت الفلسفة الالمانية الطليعة الاجدر في تصنيف الخطاب، ويحسب ذلك لكل من هيجل وماركس، فهما قطبا الصيرورة في تمثيل المعطيات الفكرية، واستحداث نمط جديد بخطاب يحمل روح المعاصرة، والتجاوز للقيم المؤثرة في الفلسفة القديمة، ونمط المثالية الحديثة التي قدمها واهتم بها كل من هيجل وكانت على وجه الخصوص، واما ماركس فقد اهتم بخلق فكر اقتصادي جديد، وكان مفهوم الديالكتيك هو جذر الفلسفة الماركسية، وصراحة لا يمكن تفسير التطورات التي مرت بها الفلسفة الالمانية بشكل ارسطي، فهناك مد افلاطوني مضطرب وعميق، ولكن لابد أن نقر بأن الافق النظري قد طغى على الفلسفة الالمانية، ولم تكن بذات القدر الذي تحولت فيه الفلسفة الانجليزية الى فلسفة عملية، ولم يكن هناك في الفلسفة الالمانية بعد محاكاة لنسيج المجتمع، فهي حتى المجتمع الالماني وضعته في بعد افقي تام، فيما هي في العلية وتوخت من العقل الاجتماعي الاهتمام بها، ولم يكن هناك غير افق القومية اهتم به العقل الاجتماعي، ولابد هنا أن نفصل لسانيا ما بين لغة خطاب الفلسفة الالمانية ولغة العقل الاجتماعي، وهذا ما يجعلنا نقر بأن ماركس العملي هو المحتوى الاساس للرأسمالية، وغايتها الاشهارية ايضا .
من اولويات الانصاف الاشارة الى كون الفلسفة الالمانية هي صيرورة الحداثة الفلسفية، ومنها انطلق العالم الفلسفي الحديث، ونحن اضافة لذلك الايمان نقر بوجه المقارنة والتصنيف، فنرى الفلسفة الفرنسية هي افق التجريد الذي تحولت به الفلسفة الفرنسية من خطاب معلوم الى خطاب مجهول، لكن الفلسفة الانجليزية اهتمت في ابتكار خطاب فلسفي معاصر بلامس المحتوى العلمي مباشرة، واشتمل ذلك حتى على الدرس المنهجي، وتلك اهم الميزات العضوية في تلك الفلسفة العملية، وهنا نخلص الى وجود مشتركات معيارية ما بين الفلسفة الالمانية والفلسفة الفرنسية، فيما تقف الفلسفة الانجليزية في الجهة المقابلة بتميز واقعي، وعلى مستوى التفصيل اللساني فنشكل الفلسفة الالمانية جذر لغوي لا يمكن نكرانه من العقل الراجح، وذلك الجذر ميز الخطاب الفلسفي الى حد اصبحت فيه الفلسفة الالمانية ذلك المثال الاعتباري الارجح، والركن الاساس الذي على العقل الانطلاق منه، وتلك الصفات ليست فقط ذلك التمييز المتفرد، ولكن علينا الاعتراف بأن الفلسفة الالمانية ليست ذلك السياق الفلسفي، الذي اعاد صياغة الخطاب الفلسفي القديم وجددها، بل هناك احتمالات عدة ومناطق خطاب في الفلسفة الالمانية، قد تجاوزت الاعراف الفلسفية المتعارفة، واتجهت الى الانفصال النوعي، او القيام بتجريد الخطاب الفلسفي .
لقد اشتملت الفلسفة الالمانية على منعرج لساني، فلم تكون هناك وحدة خطاب الا في الافق القومي، واما على مستوى الفكر فهناك تعدد لرؤى فلسفية، حتى اذا كانت الفكرة ذاتها، والمسار من هيجل الى هيدغر، فليس في سبيل واحد، ولا يمكن ابدا درج خطاب معين من تلك الفلسفة بخطاب اخر من ذات الفلسفة، واللغة المشتركة هي عامل توصيل وليست عامل تأصيل للمشتركات في الخطاب، فالعقل هنا اشبه بمحطات فلسفية كل منها بعلامة تختلف عن العلامات الاخرى، واهم ما يلاحظ في خطاب الفلسفة الالمانية تلك اللسانيات المتعددة الخانات، حيث لا يمكن ابدا على المستوى اللساني أن نشرك خطاب هيجل ونيتشه في خانة واحدة، ولا يشترك جنس لغة الخطاب عند ليبنتز وشوبنهاور، وكذلك لا يمكن جمع كانت وفويرباخ، وكذلك هناك بون واسع بين خطاب ماكس شتيرنر المختلف عن خطاب هيدغر، وفقه اللغة لا يقر ايضا بمشتركات عبر المقارنة بين لغة خطاب فلسفي واخرى، وذلك التحديد اللساني يلزمنا بالتفريق الذي تتبناه الفلسفة الموضوعية، ولا يلزمنا باعتماد التاريخ كوحدة مشتركات، هي تجمع لتلك الخطابات وتوحدها، فذلك في جنس التاريخ وليس في جنس اللغة التي تختلف لسانيا من خطاب الى اخر .
تعتبر الفلسفة الالمانية فلسفة عميقة ومعقدة ايضا، فمن جانب استيعاب التلقي، لقد اعاد صديق لكانت كتابه، وعلل عدم فهمه للكتاب هو السبب في اعادته لكانت. ومن جهة السعة والعمق والتعدد، ايضا هناك تعقيد يتفاوت عند الكشف لها، ومرت الفلسفة الالمانية بتحولات عديدة، فالمنطق الجوهري للعرفان تجسد في الخطابات ذات الحس الايديولوجي للدين، وفي القرن الثامن عشر اعيد صياغة ذلك الحس، بل اتسعت افاق الخطاب وتنوعت مضامينه، حتى بلغت في اكثر مستوياتها اتساعا حالة قصوى من الاحتجاج غير المكشوف بشكل عام، والذي يمكن تصنيف لسانيا بالتحول من جنس لغة فلسفة الى جنس لغة فلسفة اخرى، ومن اكثر العقول توضحت سمات التطرف لديه كاستدلال لساني كان نيتشه، وشكل الخطاب امتيازا رمزيا، وانسحب ذلك على العنونة بوصفها عتبة استدراج للتلقي، فمرة يبدي لك افق العنونة نيتشه كمصلح اخلاقي، وفي صفة اخرى يتخلى عن ذلك، وهناك اقنعة متعددة ابداها الخطاب المتغير من افق رمزي الى اخر، وعلى المستوى اللساني وضحت ثنايا الخطاب تحولات متواصلة في جنس اللغة، فمن لغة رمزية الى اخرى، ومن مضمون الى اخر، وما تخلى نيتشه ابدا عن تلك الاقنعة التي نقر لم يكن مختفيا خلفها، بل هي اكتسبت قيمته الفكرية .
شكلت قيم الخطاب في الفلسفة الالمانية مفترقات عدة، فكل جنس خطاب لا يتمحور تماما في بنية ذلك الخطاب، فالتعدد في السمات الاسلوبية اتاح للتيارات الفكرية عدم التسلسل في افق الزمن، وقد انعدم التحديد الالزامي في خطاب الفلسفة الالمانية بالشكل الذي من الممكن أن يتيح لكل خطاب اتخاذ المسار الملائم للوعي والفكر، وقد اتسمت بذلك التعدد الاحادي القومية التنويعات الفكرية، بعدم التفريط في جنس اللغة الفلسفي، فبالرغم من كون اللغة هي ذات اللغة في مستوى الفلسفة وفي مستوى النسيج الاجتماعي، لكن هناك ميزات متعددة لتلك اللغة في الخطاب الفلسفي. وايضا شكل تحرك الحداثة ذا السرع الزمنية الفائقة من جعل الوعي الفلسفي لا يتجاوز افق المستقبل، وكانت الفلسفة الالمانية المتباينة المستوى الرمزي، والمختلفة التعبير بشكل واضح، فيمكن درج فلاسفة اللاهوت في جانب، وفي جانب فلاسفة المعرفة والعلم في جانب اخر، وفي جانب اخر ندرج تلك الفلسفة الحرة، والتي اتصف بها بشكل واضح نيتشه على وجه الخصوص، وكذلك امتلك جدارة نوعية ماكس شتيرنر في كتابه المتفرد والاوحد في طرحه، بالرغم من سطوة خطاب هيجل بشكل واضح، وكذلك شكلت المثالية الليبرالية عند كانت قيمة فكرية الى الحد، الذي اعطى لكانت مكانة مرموقة تاريخيا .
ثمة علاقة ما بين الفلسفة والنظرية صارت تتبلور تدريجيا وتأخذ المدار الانسب لها، فلقد اندفع القرن الثامن عشر على مستوى الحداثة بسرعة زمنية غير معتادة، وتغيرت الكثير من ايقاعات الخطاب الفلسفي، لكن بقت بعيدة في التحديد اللساني عن افق النظرية، والتي يمكن وصفها كفلسفة ادبية، وبرز خلاف واضح ما بين الفلسفة والنظرية، ولم يختف هذا الخلاف، فقد (ظهور غدد متنام من المناهج النظرية التي هي محل نزاع كبير، وقد تضمنت هذه المناهج على وجه التحديد استنطاقا للأفكار المتعارف عليها حول المعنى والحقيقة)1، وهناك مغالطة في اعتبار افق النظرية هو افق منهجي ويدخل في مدار العلم، وقد ساهمت الحداثة بشكل فاعل في تلك السرعة الزمنية بهذا الجانب، فأطرت النظرية وبالمقابل جعلت الفلسفة الجديدة ليست ذلك المنهج المتعارف في الاجناس الادبية، بل كمعطى علمي رصين، وقد نجخ ذلك التجنيس بنسب معينة، لكن نحن حسب التفصيل اللساني نضع كل في خانة من – الفلسفة – النظرية – العلم – والتفسير الذي تقره الفلسفة الموضوعية، بأن تضع المسألة على عاتق الجنس، فجنس اللغة هو المعيار المعتمد وفقه تحديد لغة عن لغة اخرى .
شكلت التحولات الفلسفية السعي الواضح الى تحديث الخطاب، وقد شهدت الفلسفة الالمانية منذ هيجل الى المغايرة المباشرة، فقد شهدت الفلسفة التغير الواضح في المفاهيم، فشكل عصر الانوار بث المعنى المثالي في الدين، وقد تغيرت افكار اللاهوت بعد التأثر بالقيم الجديدة للدين، ولكن تلك القيم بما كان من نشاط زمني للحداثة اصبحت تلك المبادئ الجوهرية، والتي لم تتغلغل في كيان المجتمع الالماني بالقدر الواسع، ومن جهتها الكنيسة سعت الى التكفير عن الذنب التاريخي المشين عبر تلك التحولات الحادة الإيقاع، فتحولت الكنيسة الى دار دين مثالية، ومن ثم الدخول في ليبرالية التوافق الرائعة، ولكن لسوء الحظ فقد استبدل الدين السياسي دور الكنيسة وحل محل ذلك التاريخ البشع، ونشير الى أن الكنيسة التي فرضت على قيصر المانيا المشي حافيا على الصقيع والتوجه الى الفاتيكان، قلب تلك الصيغة الدين السياسي، فزاد من تمجيد وهيبة الملوك والحكام، والى الحد الذي اصبح فيه الحكام والملوك الهة ارضية، وهذا الفارق الهائل جاء في ظروف ما بعد الحداثة، والتي كانت فيها نعمة الميتافيزيقا هبة لمن تمكن من قلب المعايير، واذا كانت بشاعة وقسوة الكنيسة محددة، فالقسوة والعنف في الاسلام السياسي تجاوز التحديد الى الظن والاشتباه، وهذا لا يتعارض مع الفلسفة بالقدر الذي يتعارض فيه مع القيم والمبادئ وحتى الاعراف .
***
محمد يونس محمد
...........................
1- الفلسفة الالمانية مقدمة قصيرة جدا، أندرو بووي، ترجمة محمد عبد الرحمن سلامة، مؤسسة هنداوي، ص 9