أقلام فكرية
فلسفة الزمن
لقد عبر الفلاسفة اليونانيين القدماء، مثل هيراقليطس ربط الزمن بالمكان، والتفسير على أنهما واحد يعرف الأخر، وهنا قد يحدث خلط بين الزمن والزمان، اذا فسر المكان الزمن وحدث العكس، واما ارسطو في كتابه الرابع – فيزياء ارسطو- قد واجد تعريفا للزمن على أنه عدد من التغيرات، والتي تستوجب الأخذ بالاعتبار حالة الزمن قبل وبعد تلك التغيرات، وبعد التطورات وطروحات المثالية عند كانت والوجودية وما تلاهما من تفكير فلسفي مؤطر بالعلم، وليس محض فلسفة، وقد قدم غاستون باشلار دراسة مهمة في تفسير وتحليل بنية الزمن فلسفيا ونفسيا، فصارت العلاقة بين الأنسان والزمن بوجهة نظر معاصرة، واصبح هنا ثمة علاقة في اطار التأثر والتأثير بشكل متبادل بين الإنسان و وحدة الزمن، ودخلت تلك الوحدة في الحاجة الإنسانية الملحة، وخصوصا في الالكترونيات،
حسب التقديرات العلمية الحديثة شكل عامل اختصار الزمن حالة مرعبة من جهة القلق الإنساني، حيث كانت قد ادت ادنى نسبة من اختصار الزمن في السلاح الذري الى ابادة مدينة واخرى من مدن اليابان، وفي ذات السياق اشار احد العلماء، بأن اختصار الزمن بنسبة تقارب عشرة بالمائة تكفي لإبادة ثلثي العالم، ومن تأتي الخشية الإنسانية الكبرى، والتي هي منحسرة في حدود الثقافة الاخلاقية، ومعطيات المنهج العلمي بذات مجال تلك الثقافة الاخلاقية، واذا كان العالم قد انحرف بالتدريج عن الحقيقة من خلال ما اتاحت له ما بعد الحداثة، ففقد الخصمان هيبتهما، واصبحت كل من الرأسمالية والشيوعية في وضع هش وخالي من الرصانة، وساعد ايضا في توسيع تلك الهشاشة التحولات التي مرت بها الكنيسة من تطورات ليبرالية داخل المضمون الاجتماعي، وكان ذلك من جهة، واما الجهة الاخرى فقد مثل التخلي عن القيم السمحاء للدين الاسلامي احد المخاوف الكبرى، وتحول ذلك الدين السمح الى غول سياسي يقصي من يقف بالجهة المقابلة، وصراحة وضع العالم في السنين التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، اصبحت الحياة بصورة اخرى معيبة جدا، وصراحة صار هناك نوع من الفراغ الهائل في المستوى الجوهري .
هناك دراسة مقارنة ما بين المكون الاجتماعي في كوريا الجنوبية والمكون الاجتماعي في ارمينيا، وكانت النتائج تشير الى فارق كبير لدخل الفرد في كوريا الجنوبية مقارنة بالرفد في ارمينيا، لكن نسب الانتحار في كوريا الجنوبية تفوق كثيرا نسب الانتحار بأرمينيا، وهذا المثال بدلالة مهمة، فنحن نشعر بأن مساحة الخواء الروحي تتعاظم، ويعني هذا بأن جوهرنا الإنساني قد مر بمرحلة الخطر الحقيقي، وفارق كبير ما بين زمن الخواء الجوهري وما بين زمن الاستعداد النفسي، وتلك القضية تشكل خطورة واهمية، فهي ( رؤية روحية تغير الواقع وتسمح بتفهمه بعد تجاوز مظاهره)1، وبصراحة نحن نضع جل اهتمامنا على الواقع العضوي وتعددات افاقه، فيما جوهرنا الإنساني مهمل الى حد ما، فيما من الضروري جدا وجود نوع من التوازن ما بين المظهر والجوهر، ونحن نثير احد الأسئلة بغاية معرفية، فقد اشار التاريخ الى وجود ناس في لندن يذهبون الى البحر وينتظرون المخلص الروحي، وطبعا هذا ليس على المستوى الديني، بل على المستوى الإنساني، وصراحة الدين لا يحتاج دعم منا بقدر ما يحتاج منا دعم انفسنا، وعلاج الخواء لابد من سبيل اليه .
إن صورة ما سرد المعنى قد تكون صراحة ضيقة جدا في تفسير الزمن، وهنا نحصر مقصدنا في ما نسميه الفضاء الفيزا حسي، والذي نحتاج منا مراجعة لظروفنا وحياتنا واحوالنا، حتى نبلغ ادراك فكرة مهمة ازاء الزمن، حيث هناك وحدة زمن كامنة في تلك الصورة، وأخرى بانه عبر فعل الزمن، زمن العالم، وهو في السياق التقليدي يكون زمنا ثابتا بمراحل التتابع الحركي (زمن فيزيائي)، وهذا الزمن مرتبط بالثبوتيات، مثل المكان المحدد وطبيعة الحياة المعتادة، حيث لا يتغير إن قربناه إلى كيان معمارية الحدث داخليا أو خارجيا، ويبقى زمنه متمثلا بفيزيائيته، والبشرية أيضا في ارتباط حركتهم وأفعالهم وأمكنة وظائفهم أو ما يماثل ذلك، وهنا يكون العامل البشري وحدات فيزيائية تتحرك عبر فعل السرد المحدد وحدة الزمن، لكن ثمة زمن اخرى هو ذلك الكامن في الصورة وعلينا اكتشافه والتقرب من مقومات وابعاد ذلك الزمن، الذي هو كامن في تفسيرنا العضوي، لكن على العكس من ذلك، وكما الارض نبصرها ثابتة وهي تتحرك وتدور .
أن التنويعات الزمنية لم تدرس في المناهج الاخلاقية بشكل يثير الاهتمام والتوضيح المفيد بشكل عام، وبقيت تلك التنويعات محصورة في التفسيرات الفلسفية، والتي تحتمل القبول النسبي، او الرد النسبي من اطرافها، فروح التعارض الأفلاطوني موجودة بشكل واضح لدا الفلاسفة في جميع العصور، وقد تطورت مقولات فلسفية في اطر دراسة تلك التنويعات الفلسفية، فمن ارسطو والى اليوم نشهد تدفق مقولات فلسفية، وقلما شهدنا متن منهجي متكامل، قد درس عنصر الزمن دراسة علمية ومعرفية، والعالم في اختلاف الزمن بشكل موضوعة اخرى، وينحرف عن المسار العام للتفسير، ومشكلة العالم في ذلك الخواء الزمني التاريخي، والحياة تشاركه ايضا في الشكل المنطقي الخالص، والبعد الموضوعي الاعتباري، وبالأداء الذي يفيد اكثر من طبقة او مذهب خاص، وتتوسع تدريجيا لتبلغ ضفة العموم، ولابد للخواء الروحي من علاج، ولا نقول هو بذات الطعم الذي استساغه سقراط بإرادته، ونحن في افقنا البشري ننجح في تحقيق ما تنتخبه انفسنا، ونفشل تماما في معالجة الثغرة الكبيرة الواسعة، والتي تتفاقم اكثر فأكثر .
نحن لا نفكر بصدق بقاعدة الزمن، والفارق بيننا وبين مثال العالم الارجح في وحدة الزمن، فكيف يمكن أن نقف قبالة من يخترق الزمن، ونحن لا نمتلك ادنى قدرة لذلك، وكما أننا ابدا لا نستطيع ذلك، بل ليس هناك أي دافع غريزي لذلك، وهناك اهمال واقعي كبير لما نشعر به من خواء جوهري، ومن منا استطاع التخلي عن نفسه وغريزته لمعناه الحس انسانيا وجوهره النبيل، ، ومن اجل تفسير افق الزمن اوضح، نعود في افق التاريخ نحو حادثة، تعطينا تفسير مهم ازاء الزمن، ودلالة في حادث عاشه النبي محمد ذلك عندما ارادت زوجة النبي أن تمنطقه أي تشد له حزامه، فأتى الحزام بيدها فبهتت، فقال لها النبي الم تعلمي أني من نور، ونحن لا ننظر لتلك الحادثة من افق ديني عقائدي، بل نريد التلميح الى قضية الفارق الزمني، فمن منا يشد حزامه ولا يثبت الحزام في مكانه تماما، والزمن بوصفه احد امثلة التي خارج التسلسل في السيرورة، فهو يكتسب تلك الصفة ويمكن أن يكون فيها النبي من نور، ويتحرك بسرعة الضوء، ويمكن أن يتحرك مثلتا بشريا .
يشكل تفسير فلسفة الزمن للدين من الجانب الفكري ذلك الامر المعقد بنسب معينة، لكن الجهة المقابلة هناك الشواهد العصيبة على العقل والتاريخ، لكن هي حقائق معنوية جديرة، فقد ورد في النص القرآني كيفية حالة الاسراء التي مر بها النبي، فكانت رحلة عبر اختصار الزمن والتاريخ والمعنى، وهكذا خطاب يحتاج الى عقل جدير ليفسره، فالنص ازاح الواقع العلمي، ودخل في ما وراء الواقع والعقل، لكن ذلك السفر عبر اختصار الزمن يمتلك اوقع من جهة وهي ذات النبي، فيما يمتلك معنى فوقيا احتوى ذلك الواقع الذي تمثلت فيه ذات النبي، ويمكن تفسير وحدة الزمن بأنها مرت فيما لا يمكن تفسيره الا من داخل متن النص، فالمكان ليس بمكان والزمان لا هو بزمان، واذا كانت سدرة المنتهى هي الدليل على المكان، فالمكان لا يوجد في الخاطر البشري، والتأسيس له لابد أن يكون معادلا له، ونحن هنا لسنا ضد تحجيم النص دينيا، وايضا لسنا مع ذلك الرفض الايديولوجي، وعلى العقل استيعاب الفكرة معرفيا وامتلاك الجدارة لأجلها ايضا .
من الطبيعي ثمة فلسفة للزمن اقتربت منها الخرافة والاسطورة، وقد ابتعد عنها كثير الواقع العضوي، بل حتى تنكر لها المنهج العلمي بنسب واضحة، لكن التاريخ لا يمكن أن ينكر او يلغي مروره بالكثير من الحوادث التي تمثل احد وجوه الخرافة او الاسطورة القديمة، ونجن نفرق بين الاسطورة القديمة والاسطورة الحديثة وهذا امر لا بد منه، فالعقل لا يتبع الظواهر دون تحديد وتعيين لها، نحن قد فصلنا ما بين اسطورة تنتمي الى عالم الخرافة، واسطورة تنتمي الى عالم الحقيقة، وصراحة مسألة التحديد ترتبط بالعقل اكثر مما هي ترتبط بالواقع، ولا نقف عند الحقيقة الشكلية فقط، فتلك الحقيقة تمثل نفسها ولا تمثل الحقيقة الكلية، ولابد بأن نفهم موقع العقل الجدير هو في جوهره، لذلك نجد ( بأنه يبحث في داخل نفسه، داخل افكاره، وخارج العالم )2، ولابد من فهم ذلك الترجيح وادراك اهميته في المنهج العلمي، ولابد من اعتراف العلم بمهمة العقل حتى لو كانت شاقة، فلولا العقل لما وجد العلم، ولولا الفلسفة ما ادرك العلم قيمة الزمن .
نحن لا نتفكر مليا بصيغ الزمن، ولا نعلم اذا قدر لنا اختصار الزمن نكون قد دخلنا في فضاء اللاممكن، فزوجة النبي التي اتى الحزام بيدها بقت في دهشة واستغراب، وذلك كون عقلها في حدود الممكن، والنبي الذي في السفر عبر الزمن في عالم الاسراء عبر حواجز الممكن، بل حتى غير الممكن ايضا اصبح منطقة سابقة، والعالم السفلي انتهى وجوده بالنسبة للنبي حين تجلى له العالم العلوي، ومر بسدرة المنتهى، أي ينتهي عندها العالم الفيزيائي، ولن يمتلك احد ولو جزء من تلك الطاقة التي توفرت للنبي عبر ارادة الخالق، وفكرة تقابل الممكن واللاممكن في الفلسفة مقبولة، ونعتقد اخر ما طرحه هيدغر من امكان وجود للاممكن في خانة الامكان، فما من عقل بشري لا يستمد ابدا من وراء العقل، وعدم الاستعانة بما وراء العقل يدل على وجود عقل كامل، وهذا يتنافى مع الحقيقة المرتبطة بتلك الفكرة، فالمعتقد الايديولوجي يعارض ما يتنافى معه، وهذا اخلا في المبدأ، ونحن نحتاج علمانية ليبرالية وليست ستالينية، وايضا نحتاج اسلام ليبرالي، ونقف ضد الاسلام المسلح، ونحن نتحدث على مستوى النظرية والموضوع، ولا نتحدث على مستوى الايديولوجيا، والعقل الحر يحاور جميع الجبهات، وعليها القبول بالحوار .
تشكل فلسفة اختصار الزمن احد المعضلات التي تواجه العقل البشري، ولكن هي تعمل لصالح التفكير المباشر للبشرية، والوجود البشري لو تحكم بوحدة الزمن لحدث مشاكل كثيرة، ولدينا دليل تاريخي مؤلم في حقيقة تفسيره، فعندما طلبت امريكا من انشتاين معالجة اثر القنبلة النووية، ففكر بمحاولة اختصار الزمن، لكي يكون الاثر معكوسا، وفعلا تم ذلك بنسب ضئيلة جدا، ونعتقد اثر ضرب المدن
اليابانية لا زال الى اليوم، وكما هناك دلائل على استخدام اليورانيوم المخصب في اسلحة بشرية، وذلك من الممكن أن يخلق اثارا لعينة، ويزيد من حالات الاصابة، وهذا خارج اطار الزمن يحيلنا الى فكرة ترى بأن العالم دخل في صراع مع نفسه، بعدما وجد بأن التطور غير نافع الا في نفسه، وقد حاولت الرأسمالية أن تعيد نفسها، لكن قد اصبحت تلك العجوز التي لا تستطيع أن تعين نفسها، وظهور البديل المعارض، من خلال ما جرى من فرض سياسة دينية، هي تتنافى مع الدين نفسه، فالدين موضوع مسالم اصلا، ويشير الى التوجه للسلم اذا جنح له الخصم، ويعول على الحكمة، والخطاب العسكري في القرآن ليس عاما، بل يخص كفار مكة ومن حولها، وقد اشر القرآن الى ذلك، ومسألة مفهوم – الكافر- بدعة سياسية ولا تتصل بالدين ابدا، ونعود الى رغما عنا الى مشكلة الزمن، فالحدود الزانية التي قبل القرآن مواجهتها عسكريا هي في حدود ام القرى ومن حولها .
الدين والزمن علاقتهما كما علاقة الدين والزمان، فالدين موضوعات يدخل فيها التعدد الزمني موضوعة وفي افق الواقع، فالصلاة موضوع عقائدي، لكن هناك تفصيلات زمنية، وقد اشار برنارد شو الى ذلك قبل قرن، فموضوعة الصلاة فيها تفصيلات عدة وابعاد رياضية في الاداء تدل على وجود تعدد للوحدات الزمنية، مثلما يوجد لجلوس عائلة لمائدة الطعام وجود عدة وجدات زمنية، وكذلك كما يوجد للسفر في طائرة وجود عدة وحدات زمنية، فزمن جلوس المسافر منفصل عن زمن الطائرة وهي محلقة في الجو، ولا يمكن أن تتداخل وحدات الزمن تلك ابدا، وتداخلها يعني حدوث كارثة محتملة، ومن الطبيعي ثمة فارق ما بين زمن الكتروني وزمن بشري، وليس بالهين ذلك الفارق، وكشف الفارق ايضا ليس بالسهل، لكن لابد أن نشير الى التصنيفات الزمنية المختلفة، فوحدة الزمن البشري هي عضوية، فيما وحدة زمن الية الطائرة هي الكترونية، وطبيعي لوحدة زمن الطائرة وجود نظام ثابت يقارب الى حد ما ثبات وحدة الزمن البشري من جهة لافق العام، لكن كلاهما يمكن أن يدخل في تطورات زمنية، فمثلا يواجه الراكب فجأة انخفاض ضغطه الى اعلى المستويات، وهذا سيخرجه عن طبيعة زمنه العام، وكذلك الطائرة في لحظة النزول والتوقف، تخرج عن تلك الطبيعة الزمنية، والزمن الثابت من الممكن أن يختلف باختلاف شدة المؤثر .
***
محمد يونس محمد
....................
1- واقعية بلا ضفاف – روجيه غارودي – ت حليم طوسون – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر – ص 211
2- المرئي واللامرئي – موريس ميلو بونتي – ترجمة د سعاد محمد خضر – دار الشؤون الثقافية - 56