أقلام فكرية
مأزق يوثيفرو.. أفكار افلاطون حول الأخلاق الدينية
حوار يوثيفرو وهو أحد حوارات افلاطون، يحاول الإجابة على السؤال:
- هل ان ما هو خير محبوب من الله لأنه خير ام انه خير لأنه محبوب من الله؟
اذا كنا جميعا نؤمن بالله. من المحتمل اننا سنلجأ الى الله بحثا عن مرشد حول ما نعمل. السؤال هنا سيكون:
- هل ان ما يخبرنا به الله كشيء جيد هو جيد فقط لأن الله اخبرنا بذلك، ام ان الله يخبرنا ان نعمل ما هو جيد لسبب آخر؟ هذا المأزق سمي "مأزق يوثيفرو".
المقال هذا يسعى لتلخيص الحوار الذي يُشتق منه المأزق. انه يبدأ بالحديث عن مسرح الحوار، وعن السؤال الذي يطرحه سقراط. بعد ذلك نتابع حديث سقراط ويوثيفرو خطوة خطوة محللين ثقة يوثيفرو بانه يستطيع بصراحة توضيح ماهية التقوى من خلال إثارة المأزق من قبل سقراط.
مسرح حوار يوثيفرو لإفلاطون
مكان هذا الحوار الإفلاطوني هو اغورا (السوق) في مركز مدينة اثينا. هذا المكان هو مركز القضاة، وفيه تصدر اولى الأحكام في القضايا أمام المحاكم. سقراط حضر هنا للإجابة على تهمة المعصية بسبب إفساده شباب المدينة، بينما يوثيفرو حضر هنا لتوجيه الإتهام ضد والده في قتل أحد العبيد. قتل العبد هو جريمة شغلت في المجتمعات المالكة للعبيد موقع الغموض وتميل لإثارة أسئلة حول العلاقة بين الأخلاق ومفاهيمنا حول الفرد والملكية. أفعال يوثيفرو لا تقل غموضا لأن مقاضاة المرء لعائلته يحمل دلالات المعصية كالجريمة ذاتها. المشكلة مع القاتل من المنظور الديني لا يجب النظر اليها من خلال النموذج الابراهيمي في خرق القانون "أنت يجب ان لاتقتل"(احدى الوصايا العشر). بدلا من ذلك، القتل هو جريمة، لأنه فعل ديني يتم في سياق التضحية ويجب ان ينال التقديس sanctification، وبدون هذا التقديس الضروري سيُزعج الآلهة.
دفاع يوثيفرو
جواب يوثيفرو في عدم وضوح قضية مقاضاته هو الادّعاء بانه يعرف ما تريد الآلهة، وانه يتصرف بناءً على معرفته بحقيقة التقوى. وكما يعرف كل من اطّلع على سقراط وتصرفاته ان هكذا ادّعاء – ادّعاء بمعرفة ما يعنيه او يتضمنه مفهوم عام – هو يُحتمل ان يثير النقاش.
هذا يثبت ادّعاء سقراط بانه يرغب حقا بمعرفة الطبيعة الحقيقية للتقوى لكي يدافع عن نفسه، ولكن كما يتضح ان يوثيفرو - مثل العديد من ضحايا سقراط – لا يعرف حقا عن أي شيء يتحدث. يجب ادراك ان سؤال سقراط طُرح بطريقة ليفرض قيودا هيكلية معينة على أي جواب معقول. سقراط يبدو محدد جدا: يريد جواب على سؤاله الذي لا يصف فقط التقوى وانما يقترح معيارا للحكم على الأفعال قياسا للتعريف الذي نختار تبنّيه. عندما نستطلع الحوار بتفاصيل أكثر، من المهم تذكّر تلك القيود.
مدخل للحوار
يوثيفرو وسقراط يرحب احدهما بالآخر، بعبارات رقيقة. عندما سمع بالتهمة ضد سقراط، أظهر يوثيفرو له المواساة. في الحقيقة، هو يقترح ان سقراط وهو ذاته يواجهان نفس النوع من التهم. مشكلة سقراط برزت... لأنه حسب قول المدّعي تأتيه إشارات من الاله . هكذا كتب (ميلتس، وهو المتّهِم الرئيسي لسقراط) لائحة الإتهام ضده باعتباره يصنع ابتكارات في المسائل الدينية، وان ميلتس يأتي للمحكمة للافتراء على سقراط، مدركا ان مثل هذه الاشياء يسهل تحريفها على العامة. ونفس الشيء يصح في موقف يوثيفرو. "في أي وقت أتحدث عن المسائل الدينية في الجمعية وأتكهّن بالمستقبل، هم يسخرون مني كما لو كنت مخبولا، ومع ذلك انا لم افتر أي شيء لم يحدث".
جوهر الأمر، بالنسبة ليوثيفرو، هو انه لا هو ولا سقراط يمكن نقدهما لعدم التقوى لأنهما ببساطة غير ملتزمين. السؤال عن ماهية حقيقة التقوى لابد ان يبقى مفتوحا للنقاش.
اب يوثيفرو
يبدو ان سقراط لايشعر بالارتياح جيدا تجاه يوثيفرو، حيث انه يسخر منه لإدّعائه النبوة وليقينه المتعلق بمعنى التقوى. سنرى تفاصيل موقف يوثيفرو ضد أبيه:
"الضحية كان معتمدا عليّ، وعندما كنا نحرث الارض في ناكسوس هو كان خادما لنا. هو قتل احد عبيدنا في غضب مخمور، وهكذا ربط ابي يديه وقدميه ورماه في خندق، ثم أرسل رجلا هنا ليتحقق مع الكاهن حول ما يجب عمله. في ذلك الوقت هو لم يعط فكرة او عناية للرجل المقيد، كونه قاتل، وكان لا يهم لو مات، وهو ما حصل".
وكما يستنتج يوثيفرو مبتهجا، كل أقاربه يقولون ان "من المعصية لولد ان يقاضي ابيه على جريمة. لكن افكارهم عن الموقف الديني من التقوى والمعصية هو خاطئ، يا سقراط".
سقراط حالا يطلب معرفة ما اذا كانت لدى يوثيفرو مثل هذه المعرفة الدقيقة بطبيعة المعصية عندما يتصرف بمثل هذه الطريقة المعينة والمثيرة للجدل، ويوثيفرو يؤكد بثقة موقفه ذلك. من المعقول الافتراض اننا نرى يوثيفرو كأحمق ومفرط في الثقة، حتى في هذه المرحلة من الحوار.
تعريف يوثيفرو للتقوى
بالرغم من ثقته المفرطة، يبدأ يوثيفرو بتعريف هو بالتأكيد لا يكفي كجواب لسؤال سقراط:
"انا أقول ان التقوى هي ان تعمل ما أعمله انا الآن، ان تقاضي الظالم كأن يكون قاتلا او سارق معبد او أي شيء آخر، سواء كان الظالم ابوك او امك او أي شخص آخر، وان لا تقاضيه هو المعصية".
كلاهما لايكفي لأنه ليس تعريفا للتقوى وانما مثال للفعل التقي، ولأنه ينقل الغموض حول مصطلح "معصية" الى مفاهيم اخرى ("الظالم" خصيصا) والذي هو الآن يجب ان يُعرّف بدوره. سقراط يلح على يوثيفرو ليكون اكثر وضوحا، وان يعطيه شيء ما، "لكي افكر به ، استعمله كنموذج، بحيث يشير الى ان ما تفعله او يفعله الاخرون هو من ذلك النوع من التقوى". يوثيفرو يجيب لهذا ببساطة ، "ما هو عزيز للالهة هو التقوى، وما هو غير عزيز هو معصية". سقراط يشعر بالابتهاج، ويقول ان يوثيفرو أجاب حقا بالضبط على ما أراد.
مازق يوثيفرو
غير ان سقراط حالا بدأ يشعر بالخذلان. يوثيفرو لا يستطيع توضيح كيف عرف ما تعتبره الآلهة عدلاً، وينتهي بالادّعاء ان ما تحبه الآلهة او تكرهه ببساطة هو واضح. لكن بالطبع ممكن، في ثقافة تعدد الآلهة، ان تلاحظ (كما يفعل سقراط) ان ما هو واضح لشخص ما هو مثير للخلاف لشخص آخر، لذا فان ما هو ورع لإله معين يمكن ان يكون معصية لإله آخر.
سقراط ينتقل من النقد الأول ليعرض نقدا آخر، هذا الأخير يُعرف بـ "مأزق يوثيفرو"، وهو يشغل الحوار بشكل كامل. المأزق ببساطة هو : "هل التقوى أحبها الله لأنها تقوى ام انها تقوى لأنها محبوبة من الله؟". هذا المأزق استُعمل لإستخلاص الضعف في تعريف يوثيفرو للتقوى التي تحبها الآلهة.
اذا كانت التقوى كذلك، ولا يوجد معيار آخر لها، عندئذ ستبدو التقوى مفهوما فارغا يفتقر للصفات التي تمتلك قوة تتعدى صفة كونها محبوبة من الآلهة. بالتأكيد الآلهة تحب ما هو تقي لسبب ما، نحن نستطيع تحديده.
أهمية مازق يوثيفرو
ما وراء الحوار ذاته، يبدو ان مأزق يوثيفرو يعرض خوفا عميقا حول طبيعة التقوى والأخلاق الدينية بعمومية أكبر. اذا اعتبرنا أنفسنا نؤمن ببعض الالهة، نحن في نفس الوقت نبدو نرغب بان الله يصدر احكاما حول الخيرية، لكي نلجأ لموافقة الله لتبرير أفعالنا. لكن، اذا كانت تلك الموافقة مبررة فقط لأنها تأتي من الله، ولا وجود لسبب آخر، سيبدو ان مفهومنا للأخلاق يرتكز خصيصا على اللجوء للسلطة الدينية.
قد يبدو هذا لبعض المؤمنين جيدا، ولكن للأكثرية لايكفي. أحد الخيارات هو محاولة إعادة توصيف "السلطة"، وإضافة خصائص معينة تجعلها أكثر تبريرا. فمثلا، نحن ربما نرغب الادّعاء ان السلطة الالهية تستحق الخضوع لها بالنظر الى حكمة الاله الفائقة اللامحدودة. مع ذلك، وعلى الرغم من اننا نخفف من المعاناة، لكننا نصنف اسس الاخلاق على انها لغز الهي.
يبقى الامر متروكاً للمؤمن ليقرر ان كانت هذه نتيجة ضرورية للعقيدة الدينية، او ان هناك طريقة لتعريف الأخلاق الدينية بعبارات أقل فوقية. يوثيفرو من جانبه، يغادر المشهد ساخطا، مستجيبا لطلب سقراط المتكرر للإجابة على مأزقه عبر الادّعاء انه ينبغي له الانصراف لعمل في مكان آخر.
***
حاتم حميد محسن