أقلام فكرية
الأبوة الدينية.. الاسم والحقيقة
هل هي مصادفة ثقافية: أنْ يحمل المتطرفون ألقاباً أبويةً، بينما يحمل العلماءُ والمفكرون ألقاب البنوّة؟!
في جميع مراحل تكوين التنظيمات الدينية، كان معنى الأبوةِ حاضراً بشكل أو بآخر. والأبوة هنا ليست بالمضمون البيولوجي (أب، ابن، أحفاد، عائلة، عشيرة، قبيلة ...)، وإنما بمعناها الثقافي القائم على دلالتي (السلطة والاعتقاد) في رأسٍ واحد. وبالطبع، لا تأتي هذه المفردات مستقلةً كنوعٍ من التناسل الحسي الإجتماعي، لكنها تطرح دلالتها عبر الثقافة، حين تُعطيها هيمنةُ الاعتقاد وجوداً متحولاً أثناء التداول. وهو وجود ثقافي مُتحول من بيولوجيا المعاني إلى إشكالٍّ رمزيةٍ وشفافةٍ، لكنها مُؤثرة وأكثر قوةً في الوقت نفسه.
المفارقة الدالة
معاني الأبوة ومشتقاتها هي الألصق بالثقافة العربية الإسلامية إلى درجةٍ أعمق من سواها، فتلك الثقافة تنتج مفاهيم أبويةً وتشخصها واقعياً. على سبيل التوضيح، كان ثمة انتشارٌ واسع لألفاظ الأبوة بين أعضاء الجماعات المتطرفة، حتى أضحت ماركةً مسجلةً لشيوخهم وجهادييهم على السواء. إذْ بدا الارهابُ سِكيْناً أبويّاً بحدِّهِ الدموي تجاه المجتمع لا الأفراد فحسب، وهو استعمالٌ للأسماءِ التي تُطلق على أكثرهم بقطعية الدلالةِ والثبوتِ.
التساؤل المنطقي إذن: لماذا تُفرز الأسماءُ معانيها العنيفةَ حين تنقل فكر تلك الجماعات؟ وبأي منطقٍ تشير الكلماتُ إلى واقعِ الحال لديهم؟ التفسير المبدئي أنَّها أسماء قاتلةٌ بحسب الأدوار المنوطةِ بأصحابها، فلم تكن الأبوةُ سوى ذروةٍ انتحارية يمتطيها الشخصُ ليهبط على رقابِ خصومه. إنَّه يقف على تأويلاتٍ وأخيلةٍ ونماذج جهاديةٍ أساسها اقصائي، فيكون" أقنومُ الأبِ" مُعبراً (بخلفيته الأخلاقية والدينية والمعرفية والتاريخية) عن سلوكٍ متطرفٍ.
لكّمْ سمعنا وقرأنا - على سبيل المثال - ألقابَ الأبوة: أبو عبد الله (أسامة بن لادن)، أبو مصعب الزرقاوي، أبو بكر البغدادي، أبو دجانة الخرساني، أبو صالح المصري، أبو حمزة المهاجر، أبو يحيي الليبي، أبو قتادة الفلسطيني، أبو جندل الأزدي، أبو هاجر المهاجر، أبو مصعب السوري، أبو عمر المصري، أبو طلحة الألماني ... وغيرهم كثيرون، بينما المفارقة الدالة أنَّه كان لفلاسفة ومفكري وأدباء ومتصوفي العرب والمسلمين ألقاب الابن: ابن سينا، ابن الهيثم، ابن رشد، ابن باجة، ابن طفيل، ابن عطاء الله السكندري، ابن عربي، ابن سبعين، ابن طباطبا، ابن خلدون، ابن حوقل ... كانت البنوةُ علاقةً تاريخيةً ثرية كضربٍ من التفوقِ الفكري والروحي.
ماذا يوضح هذا الفارقُ الخاص بالتسمية؟ كيف نفهم هذا التحولَ الثقافي؟ من خلال الارهاب ينال كلُّ من يعتنق فكراً متطرفاً مرتبةَ الأبوة دون ترددٍ. وأخذت الأبواتُ تتوزع على الخريطة العربية الاسلامية كأنَّها ألفاظ حاملةٌ للإيمان بالفكر التكفيري. الأبوة القاتلةٌ ألقابٌ حركية تُعطِي حاملها تجاوزاً لحدود الدين وانتهاكاً لوجود الآخر، ذلك باعتقاده أنَّه لا يفعل إلاَّ الحقَّ ولا يُمارس دوراً إلاَّ ما أعطاه إياه الشرعُ الحنيفُ!!، وإذا اطلعنا على ألقابِ هؤلاء سندرك هذا التدثر بمضامين الكلمة، لكننا سندرك أيضاً أنها ليست مظلةً رحيمةً بحالٍ من الأحوالِ. هي أبوةٌ عنيفةٌ عنف المضمون، ومسمّمة قدر ما يتوغل السُمُ في جسم الفريسةِ. فالشخص كان يُعدُّ ويُدرّب على إفراغ الأبوة - نصاً وفعلاً- مع متفجرات يحملها لإيقاع الضحايا كما شاهدنا مراراً.
الأبوة والدين
عندما ترتبط النصُوص الدينية بصورة دلاليةٍ واحدة لا تتغير، وكذلك عندما تكون " للداعية " عباءة ثقافية وتاريخية متطرفة، فإنَّ المعتنقين للفكر ذاته هم تجسيدٌ لسياجٍ فكري أبوي مغلقٍ. وهؤلاء الخلف عن سلفٍ لا مناص لهم من جز رقابِ مخالفيهم في الرأي مهما اتسعت الأمورُ. باختصار كان " النص والداعية والعنف" يتماهى مثلّثهم في رأسٍ أبويٍّ غير قابل للانفلاق. هذا الرأس- فرداً أو جماعةً- مركّبٌ على جسدٍ تنظيمي يتولى رعايته شيوخ الجهاد ومدربوهم لأجل التضحية والقتل الفاجع باسم الله. إنَّه الانحراف التكويني للجماعة من دلالة الأب father إلى شكل بطريركي patriarchy بتوسط النص وتأويله المتطرف.
وتكوينُ الأبوة لا يعبرُ عن تسلسلٍ هرميٍّ، إنما ينقل جيناتَ النصوص المغلقة والقراءات العنيفة[1]. وفوق هذا وذاك، يعتبر الأبُ مصدراً لدماءٍ تُراق بمنطق الوكالة عن الله في أرضه. لقد يظن الأب الجهادي مسئوليته المباشرة عما يقع من أفعالٍ يراها منافيةً لجوهر النص المؤول من وجهة نظر جماعتهِ. ولذلك، فالأب نوع من الكسْر المضاعف في مفاصل التواصل الإنساني الحُر مع المجتمع وعناصره المتنوعة.
فتبعاً لبنيةِ الجماعات المتطرفةِ، تعتبر اللغة بمثابة لغة الأب / الداعية الوارث عن السماء. الأب الذي يعْلم كل شيء وأي شيء في مقام متعالٍ غير قابل للمنازعة. والنص كما يذهبون هو لسان الأبوة التي تعرف ولا نعرف نحن، وتدرك بينما نحن معشر العميان، أبوة تخبر الماضي والمستقبل ولا نملك إلاَّ زمنَ الخنوع لها. النص كان يلاصق اللام، فكان نصلاً لحد السيفِ في بعض عهود المسلمين، ثم جاء نصلاً لحد الرصاص بعد اختراع الأدوات الأخرى ولحد الموت بعد قيام أدوات التفجير بالمهام. كيف كانت المسافة صفراً بين" النص" و" النّصْل " في تاريخ الإسلام السياسي؟![2]
حقاً أصبح التداخلُ بين النصِ والنصْل عصيّاً على الفهم وممتنعاً على المساءلة. كيف نسائل ما ينتج فهمنا للحياة والعالم والزمن؟! لأنَّه تداخل يضعنا أمام الأمر الواقع بحكم استغلال الفرصة لإرهاب الآخرين وقتلهم. ومنْ بإمكانه إدراك الخيط الرفيع بينهما منذ رفع الخوارجُ المصاحف على أسنةِ الرماح؟! عندئذ غدا المصحفُ نصْلاً وله معالم السيف، حتى قيل أخيراً مع الدواعش: إنَّ نبي الإسلام بُعِث بالسيف رحمة للعالمين، وإنَّه لا شيء أحب إلى اللهِ من قطع رؤوس الكفار والمرتدين. كيف عُرِفنا الأمرُ المحبوبُ بخلاف المكروه إلى الله؟!
إنَّ كل نزعة نصية مطلقة textualism absolute نوعٌ من الأبُوة مقطوعة النسب بغيرها مقابل النسب مع الله. هي ظاهرة العلُّو بلا نسلٍ إلاَّ إليها رأساً في عملية استبدال لا تنتهي. أقصد أنَّها نواة حول أب مؤسَّس على اليقين الكامل بوجوده في ذاته ولغيره. فالأبُ يتوّحد مع نفسه معطياً إياها درجة الصفر في المرتبة والتسلسل. من هنا ذكرها القرآن كمقدمةٍ غامضة الملابسات لادعاء الأصل الموثوق به: " إنا وجدنا آباءنا على ملةٍ وإنّا على آثارهم لمهتدون " .. لماذا الآباء هكذا ذوو مكانة قصداً في تاريخ الاعتقاد؟ وهل ذلك استباق توثيقي لمعنى الارهاب مؤخراً باسم الدين؟
المثلث السابق (النص والداعية والعنف) يتأسس على الموقع من الله، ومن النصِ الأصلي (القرآن)، فيكتسبُ عناصره ذات المكانة الملتمسة من الموقع نفسه. ليغدو النصُ البديل (المؤول- أو التأويل ذاته) نصاً أصلياً. إنَّ نصوص ابن تيمية وابن القيم الجوزية وأضرابهما وصولاً إلى نصوص شيوخ الجهاد لا تقل قداسة عن القرآن!!.. هكذا يزعُم أتباع الجماعات الدينية هذا القول ضمنياً وصراحةً مهما كان إنكارهم لذلك. فلعبة اللغة التي يصوغها الأبُ خطاباً دينياً تُزحْزح مكانَ النص الأصل وتأخذ بنيته تدريجياً. طالما كان الخطابُ خارج التاريخ أو يعلوه رأساً، فلن تكون الرسالةُ إلاَّ ابتلاع النص الأصلي (القرآن) وانتهاك آلياته الإنسانية. إنَّ الأيديولوجيات الإرهابية تنسج معانيها على غرار الدين الصادق صدقاً ايمانياً لا معرفياً، على غرار أحد عناوين كتب ابن القيم" اعلام الموقعين عن رب العالمين"[3].
هناك حديثٌ يتداول عن رسولِ الإسلام يخاطب علياً بن أبي طالب: " يا على أنا وأنت أبوا هذه الأمة ". وليست المشكلة في الحديث وإشارته إلى الأبوة، ولكن كثيراً ما فهم الناس هذا الحديث خطأ. وإذا كان الحديث يدلل على شيء فإنما يدلل على الفراغ لا الامتلاء، على الغياب لا الحضور. يبدو أن نمطُ الأب إندرج – مع اختلاف العصور- في مساحة الفراغ التاريخي الذي تبحث الفرق والملل والنحل والجماعات عن ملئه بأية صورة من الصور. فراغٌ كان عند بعض الشيعةِ موالاةً عنيفة للإمام على، بينما حاولت السلفية الوقوف في مجري التاريخ لدي سلفٍ صالحٍ بدايةً ونهايةً. وظلت الأيديولوجيات الدينية تصع فقدان الأب نصب أعينها.
الأبوة - تكملةً لنموذج الحديث السابق- نوعٌ من التراتب الذي يعيد بناءَ التاريخ على هذا الأب الغائب، بل يعيد بناءَ الدين بحسب المآرب والمصالح. لم يكن أيُّ أبٍ في الجماعات المتطرفة إلاَّ عارفاً بالفراغ التاريخي هذا مؤولاً إيَّاه لصالح التطرف. وهو بذلك يعطِي لنفسه حقاً مزيفاً في أخذ مكانة الرسول، الأب النبوي...، إنَّه تكرار انحرافي لأصلٍ مقدسٍ يحتاجُ إلى فهمٍ جديدٍ يواكب العصر لا ليتحول إلى نصلٍ قاتلٍ.
أبوة الجماعة
تحتل الأبوةُ الدينية مكانةً خطيرةً في تاريخ الفكر الإسلامي، لم تكد تختفي حتى تظهر في شكل تنظيمات نتيجة الثقب الأسود (الفراغ الأبوي) في جسد المجتمع الإسلامي. يتجلى هذا الثقب مرةً بإسم الخلافة، وأخري بدعاوى تطبيق الشريعة، وغيرهما بأنظمة المراقبة الدينية والهوس بتتبع الآخرين. إنَّ الأبوة جزءٌ لا يتجزأ من حركةِ المجتمع الإسلامي و رمزيته، بفضل اعتماده على نموذجِ الأبوة النبوي والقبلي والعشائري والعائلي بعد ذلك. وكادت مراحلُ التاريخ الاجتماعي تبحث صراحةً عن أبوةٍ في شكلِ الحاكم والسلطان والأمراء والملوك والأنظمة والمؤسسات.
جاءت الأبوةُ الدينية المعاصرة مؤشراً عائلياً- لاهوتياً، إذ تستعمل أبناءها عبر انفجار قاتل لا نتائج وراءه إلاَّ الأشلاء المتناثرة. إنها مرحلة راهنة من نصية حرفية قديمةٍ ليست إلاَّ عدماً متواصلاً في تاريخ الإسلام السياسي، وهي نقش جسدي حتى الموت، كتابة الموت. ومن ثمَّ، كانت النزعة الأبوية تفسيراً متطرفاً للنص الديني وتكفيراً للآخرين. ونظراً لأنَّ الأبوةَ الإرهابية متعديةٌ عضوياً، فلن ترضى بديلاً عن سلطة القتل. ألم يذهب الجهاديون إلى تطبيق كلام الله بلا انفتاحٍ فكري ولا ابداع معرفي؟!
الأبُ هنا عبارة عن "نص بيولوجي وديني" يكتب دلالاتَه بالأنماط السائدة في الجماعة التي تتبناها. تبدو الجماعة المتطرفةُ مبرمجةً بهذا الاعتقاد، حتى إذا طُلبَ من أحدِ أفرادها تفجير نفسه يذهب فوراً كأبٍ يتصرف كيفما شاء. لكن لماذا يغيب وعيه؟ التغييب ليس لنقص الوعي، بل يزعم– كما يُروج بين أقرانه- أنَّه يتلقى الأمر من الله. فالأب يخلِّق جماعته، يخلق فضاءَ تأثيرها كحال علاقات القرابة. إنَّ مسيرته في ثقافتنا العربية الاسلامية لا تُقطع إلاَّ وتُعاد مجدداً نتيجة التألُّه الماثل خلف فكرة الجماعة المؤمنة. ويقف هذا الأبُ بادعاء الألوهية خفاءً في تفاصيل وصايته على الآخرين من جهةٍ، وفي ولاء الجماعة لصورتهِ من جهةٍ أخرى.
إنَّ أيّ أب تنظيمي هو لوحةٍ مشفرةٍ من الوصايا الموسوية (كألواح موسى) التي أخذت أنماطاً ولهجات فكرية عدةً. وإذا كان الأبُ يبيح لنفسه انتزاع الحياة من الآخرين، فلن يكون إنساناً عادياً. إنَّه بعض إله الجماعة باعتباره ينتزع حقاً وجودياً لله (حق التصرف في حياة مخلوقاته). على أنَّ الشرع الإسلامي نقيض ذلك كله، فقد أوكل هذه المهمة في القصاص للمجتمع، للقانون وليس للأفراد (ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب). لقد تكلم القرآن بإرجاع القصاصِ إلى ما يرتئيه المجتمع مشروطاً بالحياةِ لجميع الناس. معنى هذا أنه قد يتم إلغاء القصاصُ أو إهماله في حالةٍ لو أدى إلى انتهاك تلك القيمة. لأنَّ الحياةَ ليست جزئيةً إنما تعدُّ هدفاً كلياً خلال هذه اللحظة أو تلك. وما يأخذه شخصٌ منها يخصُ جميع الناس قاطبةً وما يضيفه إليها إنما يُضيفه إلى جميع هؤلاء دون استثناءٍ.
بينما الأب المتطرف يأخذ بالسبب الجزئي في انتزاع حياة الآخرين، ليتصور أنَّه المهيمن على حياة الجماعة والقادر على انزال العقاب بهم. تقول البصمة اللغوية كما يذهب الراغب الأصفهاني "يُسمى كل من كان سبباً في ايجاد شيء أو صلاحه أو ظهوره أباً، ولذلك يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أب المؤمنين ...."[4]. فحوى هذا أنَّ الإرهابي يهيمن على الآخرين بمبرر سببي من غير فهم منفتحٍ لقضايا الحياه ككل ولمغزى الدين فيها. هذا المبرر تمتدُّ داخله نواة بيولوجية عضوية، فكما أنَّ الابن مولود بالتناسل، فكذلك الأب مرفوع بذات الوضع، غير أنَّ التحول يتم بخطوة تنظيمية ارهابية فيغدو السبب المقتنع به هؤلاء في صلاح الناسِ هو السبب البيولوجي والروحي ذاته للإضرار بهم!!
وبما أنَّ نبي الإسلام ليس والداً بيولوجيا للمؤمنين بالمعنى الحرفي، فإنَّه يأخذ تلك المكانة روحياً ودينياً. أمَّا ضمن حدود الإرهاب، فيكون الشخص المتطرف قد جمع بين مكانة الأب التناسلي والأب الروحي على قاعدة الأب - الإله. لأنَّه حريص على التنظيم العضوي للجماعة والتنظيم الإيديولوجي لها. وهذا يفسر القتل العشوائي لمخالفيه في الآراء والاعتقاد، ويوضح معاداته لمؤسسات الدولة الحديثة لمجرد أنَّها دولة. فالدولة لا تعترف بروابط الأبوة، وليست منضوية تحت الأب المؤمن ولا الأب الحاكم، لكنها في كل توثيق قانوني وإجراء تنظيمي تنفي أيَّة تقنيات أبوية من هذه الأصناف[5].
ولذلك لا تلتئم الدولة كفكرة حداثية وتشريعية مع الجماعات المتطرفةِ، وستظل الدولة بمثابة المضاد الحيوي التكويني لأفكار الجماعات الدينية. وليست الأنظمة التي صعدت فيها الجماعات الإسلامية إلى سدة الحكم إلاَّ دليلاً على هذا التصور. بسبب أنَّ نمط التفكير الأبوي يتعارض مع التفكير المُؤسسي ابتداءً.
الأصل والأبناء
لن تكون أيةُ جماعة دينية سوى جماعةٍ بمنوال التفكُّك لا الجمع، فكل عنصر فيها قابل لحمل تأسيسها وانهيارها بالتوازي. أي أنَّها تخضع لمفاهيم الخلخلة بسهولةٍ لأن كل فرد فيها يشعر أنه الأولى بمكانة الأب ويحمل وصاياه على كتفيه. وذلك يلقي الضوء على انشاق قيادات الجماعات التكفيرية بعد الخلافات التي قد تنشب بينهم. فمع كل انشقاق تخرج جماعةٌ أخرى بمفهوم مختلف للتكفير وآليات للخطاب وتأويل للنص الديني. ثم سرعان ما يُعاد هيكلتها بأبويةٍ مماثلةٍ للأبوات السالفة، مع هذا تزعم الاتصال بالمصادر النقيةِ لفهم الدين وامتلاك حقيقته النهائية.
ذكر الجرجاني في كتابه التعريفات " الأب، حيوان يتولد من نطفته شخصٌ آخر من نوعه"[6]. وهذا كان هو مصدر هشاشة الجماعات الدينية، فإذا كانت تنبني على أبٍ بخلفية التوالد، فلن يكون إلا تلك الإمكانية (الهشاشة). فلم يكن هناك شيءٌ متوقعٌ قدر ما ينفرط عقدها، لأنَّ أي تصور أومفهوم يحمل في ثناياه بذورَ الأب، سواء أكان قائداً للتنظيم أم مجاهداً أم داعيةً أم أباً زعيماً أو انتحارياً. جميعهم نقطة ضعف من حيث كونهم نقطةَ قوة. فلا شيء أخطر على الأبوة الدينية من ذاتها. وستتحقق قابلية الانهيار من خلال التصلُّب والاستحواذ والعنف. أين قوة تنظيم القاعدة بعد اختفاء أسامه بن لادن؟ فعلى الرغم من أنَّه نموذج للأبوة كما كان يعتبره أتباع القاعدة، بيد أنَّه لم يدرك في حياته أنَّ ضعفَ تكوين القاعدة في هذا الإطار تحديداً.
أولاً: تشكلت الأبوة الدينية ميتافيزيقياً بناء على الاستخلاف (إني جاعل في الأرض خليفة). وبالتالي يمكن لأي فردٍ القول بكونه خليفةً بالقدرِ ذاته من المعنى. لقد وصل الأمرُ إلى أنْ عُدَّ الاستخلاف حِكْراً على تلك الجماعة أو غيرها، وأصبح مبرراً لأبوتها إزاء أبناء لا حصر لهم.
ثانياً: تم طرح نمط الأب- ضمنياً- دون أبناء، رغم أنّه يوجد لكل أبٍ أبناء وإلاَّ لما سُمِّي بالأب. تحديداً قُيّضَ غيابُ الأبناء باعتبار الأفراد الآخرين أبناءً له بواسطة التنظيم. وهذا جانب الوعظ والوصاية حين يواجِه آباء الجماعات الدينية أقرانهم ومخالفيهم معاً. يُعزَز ذلك الصاق صفات الشهادة والجهاد والعلم بهم.
ثالثاً: الأبوة نمطٌ أخلاقي تربوي على أساس سيكولوجي[7]، وفي نطاق الدين بمثابة العمل بنموذج لاهوتي سابق التكوين يستثمر هذا النمط كما أشرت. صوت أبوة الارهابي ذو أزيز عقابي في المقام الأول، سواء أكان مرتبطاً بخطابٍ صارمٍ التوجه أم مرتهناً بشخصيه ذات سمات جسديةٍ وشكليةٍ.
استناداً إلى هذه النقاط تعدُّ الأبوة كما يمارسها المتطرفون نزعةً مسيحية مقلوبةً. إنَّها عكس عنيف لمعالم الآب وآلياته العقيدية في الديانة المسيحيةِ. فإذا كان آباء الجماعات الإسلامية يعادون المسيحيين ويتبنون تفجيرهم وذبحهم، فهم يمارسون (أبوة اسلامية) تزعم لنفسها منزلةَ الأب معتبرين الله حالَّاً فيها. وهم بهذا (أي آباء الجماعات الإسلامية) يزورُون الإسلام الذي قال بوضوح (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد).
أمَّا في المسيحيةِ، فالأبوة واضحةٌ بموجب الاعتقاد بصلب الابن (المسيح). فارتضى بعض المسيحيين الآب الإله في مقابل التعويض ببنوةٍ كان هذا مصيرُها المحتوم. فالابن المصلوب كلمة لآبٍ وَضَعَه لخلاص رعاياه الأرضيين. وثلاثية" الآب والابن والروح القدس" هي ثلاثية الحقيقة التي هي مصدر العلاقة كما يؤمن أتباع المسيحية. فالأبوة –على ألوهيتها- وقفت عارفةً بصلب الابن، لأنَّ ذلك لهدف أسمَّى. ولئن كانت الأبوة لا تعلم، فهذا قدح في قداستها الإلهية.
أمَّا والأبوة عارفة بذلك، فلقد تركت الابن معلقاً هكذا على صليبه مقابل غفران الخطايا. وتلك الفكرة لهاصدى بعيد: أنَّ كل أبوة لا تخلو من منطق تضحيةٍ بالأبناء، بالبنوة ولو عن طريق الخلاصِ. كانت الخطيئةُ هي المذبح الفعلي لجريان السرد التاريخي لهذه الحبكة اللاهوتية. وتلك فكرةٌ ليست الجماعات الاسلامية بعيدةً عنها، لكن في شكل مذابح ونصوص تكفيريةٍ مازالت تشتغل حتى اللحظة.
من تلك الزاوية، تعد الأبوة حيواناً ميتافيزيقياً ينتظر التهام غيره، ولا يكف عن ملاحقة الآخرين. وبالمثل عندما يتحول الشخص إلى أب، إنما تعطيه الجماعة الدينية عمراً زمنياً للتخلص منه. فكل أب مصيره إلى تدمير وجوده ووجود الآخرين. وهذه كانت علة أن ارهابيا يفجر نفسه بحزام ناسف وسط الناس الأبرياء.
ربما يسأل الأب في الجماعات الدينية: ما الخلاص من خطايا البشر؟ لا لكي يساعدهم على الخلاص، لكنه يجيب بحتمية الموت الذي يراه استشهاداً أو اغتيالاً أو تفجيراً أو سحقاً للرأس أو إغراقاً أو إحراقاً للضحايا مثلما كان يتفنن الدواعش. إنه حين يصدر صاحب الأبوة فتاوى اهدار الدم أو حين يدفع اعضاءَ التنظيم إلى ذلك إنما يترجم النص إلى حالةٍ مدمرةٍ. وليس ذلك انقطاعاً عن هذا المفهوم المقدّس للأبوة عندما تتجسد في أشخاص.
***
د. سامي عبد العال
.......................
[1]- لأنَّ مفهوم الأبوة يمثل استعارة توظف المشاعر وثقافة السلطة داخل نسيج مجازي أبويparental imagery في إطار الدين، وهذا مفهوم قديم قدم الديانات الوثنية والابراهيمية ولعب في تاريخها دوراً كبيراً.
Sarah J. Dille, Mixing Metaphors, God as Mother and Father in Deutero- Isaiah, T&T International A continuum imprint, London, New York, 2004. PP.2-5.
[2]- ليس النص هو النص المؤسس فقط، المتون، كالقرآن والسنة وكتب الأئمة والفقهاء الكبار، فحتى لو أطلق عليها هذا المعنى، فإنه ذو نطاق أوسع، لأنَّ كلَّ نص حدثٌ ثقافيٌّ واجتماعيٌّ. يشارك في انتاجه المؤوِلُ بمقدار ما لا يستطيع الافلات من اللغة التي يحيا داخلها.
[3]- فضلاً عما يدل علية العنوان من اتصال طبقة الفقهاء بالله وتوقيعهم عنه، يذكر ابن القيم أنهم "في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء".
ابن القيم الجوزية، اعلام الموقعين عن رب العالمين، الجزء الأول، دراسة وتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1986، ص8.
[4]- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وإعداد مركز الدراسات والبحوث بمكتبة نزار مصطفى الباز، بدون مكان ولا تاريخ للنشر، ص7.
[5]- Carol Gilligan, David A .J. Richards, The Deepening Darkness, Patriarchy, Resistance, Democracy future, Cambridge University Press, New York, 2009 وP. 225.
[6]- الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت، 1985، ص 5.
[7]-Ron Spielman, The Father in the Mind, Focus on Fathering, Edited by Robin Sullivan, Acer Press, Melbourne, 2003. PP 95- 100.