أقلام فكرية
تساؤلات حول سلطة المعلومات وحرية التكنلوجيا؟
التكنلوجيا هي وسيلة لترسيخ هياكل السلطة التقليدية. في اكتوبر 2011 عرضت خدمة الاذاعة الخاصة SBS الجزء الاول من فيلم وثائقي من ثلاثة أجزاء لـ آدم كيرتس Adam Curtis، لقصيدة (الكل تحت رعاية مكائن الحب) (1). البرنامج أثار نقاشا ساخنا بعد اذاعته في المملكة المتحدة . في الفيلم هناك تألق غامر في الاسلوب، صور مبهرة، فكرة واحدة كبيرة تتحول بسلاسة الى فكرة اخرى، بينما السرد المنوّم لكيرتس يزيل أي مطبات معرفية. ولكن يبقى هناك شعور مزعج في انك ربما تعرضت للخداع، شعور في انك لو توقفت وفكرت في الموضوعات الكبرى،فانها سوف تنهار الى مجموعة من التناقضات او تتحلل الى تفاهة. انت تبدأ بالتساؤل في ما اذا كان كيرتس نوعا من مثقف ما بعد حداثي مشعوذ.
رسالة الفيلم هي اننا وصلنا للاعتقاد اننا نعيش في عالم خُلق بواسطة المكائن، وحيث الجميع مرتبطون وأحرار. ولكن في الحقيقة في عالم الماكنة هذا، نحن جميعا عناصر ضمن نظام. نحن حلمنا بان الانظمة يمكن ان تخلق الاستقرار لذاتها من خلال التغذية العكسية،وتخلق توازن مثالي في المجتمع الانساني وفي نظام الأسواق وفي النظم البيئية الطبيعية، شبكة بدون سياسة وبدون تراتبية السلطة القديمة. لكن كيرتس يقول لنا ان السلطة لم تنسحب من الميدان. وهي لن تفعل ذلك ابدا.
المعلومات ليست قوة
أحد الأهداف الرئيسية لكريتس هو طوباوية الانترنيت، الايمان، كما يقول، بان "التكنلوجيا يمكنها ان تحوّل كل شخص الى فرد بطل ، متحرر كليا في اتّباع افكاره الخاصة ". لكن هذا وهم يعمل على إخفاء حقيقة استمرارية السلطة في ظل الرأسمالية. المدونون، القراصنة، الهويات الزائفة في اون لاين جميعها تجسيدات لهذا النوع من اليوتوبيا. الكومبيوترات تمنح كل شخص شعورا بقوة التعبير عن الرؤية، الهجوم على بيانات البنك، إرسال ايميالات بذيئة، بينما السلطة الحقيقية تستمر تحكم العالم.
لايوجد هناك اختلاف كبير بالرؤية حول مراكز السلطة،او حول فهم ماهية السلطة. نحن أعتدنا الايمان بان سيطرة رأس المال كانت المصدر الرئيسي للسلطة، لكن الان قيل لنا ان المعلومات هي السلطة. سمعنا مرارا وتكرارا الناس يمتدحون الانترنيت باعتباره وفر المزيد من المعلومات، مجادلين ان الوصول لهذه المعلومات هو نوع من التمكين، بما يجعل مجتمعاتنا أكثر ديمقراطية؟ عندما نسمع مثل هذه الادّعاءات نتذكر مسلسلات الطفولة التي يتوصل بها البطل الى ان المعلومات الرديئة تطرد المعلومات الجيدة، بل ويقترح ايضا انه حتى المعلومات الجيدة يمكنها ان تطرد المعرفة. اليوم تبدو يوتوبيا الانترنيت، غير منحازة كليا، وتغمر الناس بافراط بمعلومات عبر إضفاء طابع اسطوري لا تمتلكه حقا. هذا هو سبب انحدار "ثورات الميديا الاجتماعية" من النشوة الى الفوضى. انها تقود بسهولة الى الاستبداد. اولئك الذين انساقوا نحو التضامن من خلال أجهزة الايفون ربما هم أقوياء بما يكفي للاطاحة بالمستبد، ولكن اذا لم تكن هناك خلفية سياسية غير التوق الى الحرية الغربية، واذا لم يكن هناك تنظيم راسخ ومتماسك يعبر عن ايديولوجية معينة، عندئذ سوف لن يوجد هناك تفضيل لنظام جديد.
شبح ويكيليكس
لم يُذكر ويكليكس في قصيدة الكل تحت رعاية مكائن الحب، لكنه ظل يتدخل بشكل ما. جوليانا اسانج اراد الاطاحة بالأقوياء لكنه بنى حملته على مثل هكذا تصور مشوه لمصدر السلطة . حتى الفيديو المقزز بعنوان "قتل جماعي"الذي قتل فيه الجيش الامريكي صحفي لرويتر،لم يغير الحرب ضد العراق. اذا وضع الاقوياء أسرارهم في قاعدة بيانات، فان القراصنة الاذكياء يمكنهم العثور عليها.
بالنسبة لآدم كيرتس ليست الكومبيوترات قاطرة للتحرر وانما هي عامل للقمع. هو يذكّرنا لماذا انهارت مجتمعات الهيبي بسرعة كبيرة. الاسطورة الرومانسية لـ اللامركزية والانظمة الرخوة المفتقرة للتنظيم التي يمكن ان تحررنا ونعبّر بها عن ذواتنا الحقيقية اصطدمت بالعالم الواقعي للسياسات الشخصية وحب الذات. القصيدة كانت مبكرة لما يمكن مقارنتها به.
غير ان هناك شيء شاذ في عالمي كيرتس واسانج. ربما الاسلوب اللامع الذي يتجاهل صلابة الواقع، كما في محاكاة الواقع التي تتم بالماكنة. انطلاقا من الاحساس بان الحقيقة لايمكن الوثوق بها، فان الاثنين يشتركان بنوع من جنون العظمة الما بعد حداثي. هما كانا نوع من الفرد الذي عليه الاختيار بين عمل خاطئ او المؤامرة، سوف دائما يختار المؤامرة. الفرق هو ان كيرتس يفهم كيف تعمل السلطة، لذا كانت مؤامراته اكثر صدقية.
تكنو رأس المال
في حركة غير متوقعة، القصيدة تربط الايديولوجية الفردية السامة لآين راند بالثقافة المضادة للستينات،وتقوم بهذا في مستوى أعلى من ظاهرة البوهيميين البرجوازيين في التسعينات. كيرتس يتعقب مسار الحياة والافكار الجديدة التي وصلت وادي السليكون وحيث ولادة الشركات التي تحكم العالم الان. هؤلاء هم الناس الذين يدعمون حاليا ذلك النوع الغريب من الرأسمالية الافتراضية التي بها تقوّي المكائن كل شخص على حساب الدولة. كانت الفردية الامريكية التي وُلدت من جديد بدون بدلة وربطة تجسدت بأفضل شكل من جانب ستيف جوبس. الرجل الذي صنع البلايين من المستهلكين المهوسين بالمنتج الرافضين ان يضعوا ثروتهم في أي هدف جيد. ثقافة وادي السليكون تعرّي الرأسمالية في أفضل اختياراتها.
احدى موضوعات القصيدة هي ان الرأسمالية وصلت الى نقطة حيث الكومبيوترات تقوم بعمل السوق. معظم قرارات المتاجرة في اسواق الاسهم تتم بواسطة مكائن مبرجمة سلفا، مثلما الكومبيوترات تسيطر على مواد خام المصنّعين، وعمليات الانتاج عند الطلب،وانظمة طلبات التجزئة واستراتيجيات استثمار البنوك.
نتذكر نقاشا حادا في الخمسينات حول ما اذا كانت الدولة الاشتراكية مثل الاتحاد السوفيتي يستطيع استعمال الكومبيوترات لمحاكاة مهام التخصيص الكبيرة جدا للسوق الرأسمالي بينما لايزال يتابع الاهداف الاشتراكية. المكائن ستقوم بملايين الحسابات المطلوبة لمقابلة العرض والطلب عبر الاف الاسواق المترابطة داخليا بالطريقة التي تقوم بها آلية الاسعار في ظل الراسمالية.
هناك منْ يرون شيئا شريرا في هذا الانهيار التنظيمي السيبراني لعام 2008،عندما انقلبت التغذية العكسية من كونها عامل استقرار الى كونها مزعزعة للاستقرار. النظام سار متخبطا منذ ذلك الحين.
انت لا تحتاج لقراءة كتاب رأس المال لكارل ماركس لتعرف ان الانهيار كان حتميا. الرأسمالية بطبيعتها غير مستقرة. ثورة الليبرالية الجديدة، بعد شيطنتها للدولة بدأت بنقل السلطة من الحكومة الى السوق، الذي قيل انه محايدا وفعالا. بينما كل من كان أقل ذكاءً عرف ان السوق عبّر ورسّخ لامساواة عميقة في السلطة، لذا فان تحول السلطة اللليبرالية الجديدة كان من الحكومة الى الأغنياء. والاغنياء هم دائما يسعون لاستغلال السوق للحصول على المزايا. لكن كيرتس وفي حالة من عدم الوضوح يتخذ قفزات غير معقولة لكي يصل الى جدال معقول – ذلك ان فكرة المكائن تحكم بتعاطف عالما منظما فيه الافراد متحررون اصبحت دخانا يخفي الحقيقة الثابتة. السلطة تبقى بأيدي الأقوياء.
القصيدة تعمل على حقيقة كبيرة في كيفية عمل السلطة اليوم، وهي يتردد صداها لدى فكرة فوكو عن الحكوماتية. هذه تعلن ان العملية التي بها المجتمع الحديث يصبح قابلا للحكم من جانب الحكومات تخلق نوعا من المواطن يحدد مصالحه مع اولئك الذين في النظام. كيرتس يوسع هذه الفكرة،ليست الحكومات فقط تشبع رغبة المواطنين بهذه الطريقة، وانما النظام المدار بالمكائن وبـ "تفكير الماكنة" الذي يحل الان محل الايديولوجيات السياسية.
ميديا الماكنة
هناك عنصر اساسي لـ "الحكوماتية الليبرالية الجديدة"، به توصّل المقامرون الى حكم انفسهم من خلال مشاركتهم في السوق، وهو التأثير المخدر للميديا الحديثة. هناك مفارقة معينة في اسلوب القصيدة. كيرتس ذاته قال انه اراد دمج الجدية العالية مع الثقافة الشعبية، وازالة الاشياء الوسطى". الصعوبة هي انه عند جعل الافكار العليا مسلية جدا، فان الافراط الحسي يوقف الدماغ في مساره. انت عليك ان تتحدث عنه بعد ذلك مباشرة لتفهم ما شاهدت توا، وعند ذلك فقط تقرر كم ذلك منطقيا. ملاحظة متنافرة في قصة كيرتس الساحرة تكمن في تعامله مع الايكولوجي. هو يحكي قصة فوضوية فيها هندسة مفاهيم الشبكات، التغذيات العكسية والانظمة المعقدة حول الطبيعة كانت اقتُرحت وخُطط لها من جانب المفكرين المبكرين. الطبيعة جرى تصورها كنظام منظم ذاتيا رغم ان بيئيين اخرين اثبتوا خطأ ذلك،لكنه مع ذلك منحنا رؤى هامة حول التواصل مثل نظرية جايا والافكار الطوباوية المتعلقة بعالم الويب العالمي الواسع" www..
كل من يعرف القليل حول تطور علم البيئة والشمولية holism (2) سوف يتسائل كيف استطاع كيرتس ان يقرأ فيه مثل هذه القصة الشريرة. لو تذكّرنا بعض الاعمال الهامة للبيئية – الربيع الصامت، البلد الرملي، الايكولوجيا العميقة – لاشيء هناك من التصور التكنوقراطي لسيطرة المكائن والتناغم القوي. بالعكس تماما: انها تتحدث عن تعقيدية وراء التنظيم ونزاهة داخلية تراوغ الفهم العلمي. انها تحذر من خطر التدخلات الراديكالية ومحاولات السيطرة، المضاد لما نسبهُ كيرتس للتوازن البيئي. لكن كيرتس يكشف دون قصد حقيقة عميقة حول البيئة. عندما تطورت الى حقل علمي تُدرس في الجامعات، أبقى علم البيئة ما كان يُفترض ان يدمره وهو العلم الآلي. مفردة "النظم البيئية" تفشي ما يجب ان يبقى سريا، لأنها تقبض على الفكرة الاساسية في فرض انظمة تفكير على الطبيعة تبقى في الاساس نيوتنية. صحيح ان الانظمة تحكم العالم لكن تلك الانظمة ليست محايدة ومنظمة ذاتيا، انها انظمة للسيطرة. هذه هي الفكرة العميقة في القصيدة.
***
حاتم حميد محسن
.........................
الهوامش
(1) القصيدة بعنوان All watched over by machines of loving Grace لريتشارد براوتيغان، نُشرت اول مرة في عام 1967. تمثل وصفا حماسيا لطوباوية التكنلوجيا التي فيها تتولى المكائن تحسين وحماية حياة الناس. جرى تفسير القصيدة كيوتوبيا وكنقد ساخر لليوتوبيا التي تصفها. تتألف القصيدة من 99 كلمة في ثلاثة مقاطع وتصف الانسان والتكنلوجيا يعملان مع بعض لأجل الخير الأعظم. جاء في مقدمة القصيدة:
انا أحب التفكير في مرج سبريني
حيث تعيش الثدييات والكومبيوتر
مجتمعان في تناغم برامجي متبادل
أحب الماء الصافي
يلامس السماء الصافية ...
(2) نظرية الشمولية تفيد بان الأجزاء في ترابط صميمي مع الكل وانها لا يمكن ان توجد بشكل مستقل عنه، ولايمكن فهمها بدون الاشارة اليه. الكل يُعتبر أكبر من أجزائه. جرى تطبيق الشمولية على الحالات الذهنية وفي اللغة والبيئة.