أقلام ثقافية
حميد علي القحطاني: الصوت كلحن للوجود
منذ أول نبضة للوعي، كان الصوت الخطوة الأولى للخروج من صمت الذات والنبضة التي تهدهد الروح والمحيط معًا. منه انفجر الغناء ومنه ارتفع ترتيل النصوص المقدّسة، كنبضين ينبعان من ينبوع واحد، أحدهما يلامس الأرض يتمايل على صدى الدنيا والآخر يحلّق في ضوء السماء إلى اتساع الكون الخفي حيث تتلاقى الروح والوجود في لحظة صمت تسبق الكلام. النغم كان أسبق من الحرف يجمع الخائفين كما تجمع الغيوم قطراتها ويلفّ الجماعة بدفء خفي ككف تربّت على كتف الليل تهدئه قبل أن يرحل.
وكذلك صوت الأم كان المعزوفة الاولى وربابة الحياة وهي تردد بنغمة كونية حين تهدئ طفلها: نم.. نم يا ولدي.. فالصباح رباح. هناك يولد أول اتصال بين القلب والروح ودرس مبكر بأن للصوت قدرة على الطمأنينة والشفاء وأن كل صوت يحمل العالم بداخله، كحفيف الأشجار، وهمس المطر، وخفق النجوم في الظلام.
وحين تعجز الكلمات عن حمل ما يتدفق في صدر الانسان ينفتح الغناء والشعر على نافذة أثير متجدد يحرّر الصدى المحبوس ويشعر الإنسان بأنه حاضر كنجمة تخترق العتمة. وعندما تتآلف النفس مع نغم القلب يخفت ضجيج الفكر ويعود الداخل إلى انسجام رقيق كتموج الماء حول قطرة تهوي.. كنداء يشبه المطر.. المطر.. كحزن يبحث عن مأواه في الأغنية فيستكين ويستعيد الوجدان توازنه.
أما الترتيل، فيتمايل على المقام ذاته لكنه يرتقي بالنية والمعنى والمقام. الكلمات فيه جسور نحو الطمأنينة والمكان يتحول إلى حضرة والروح تتلقى الصوت كما تتلقى الأرض أول مطر بعد طول يباب. هناك يمتزج السكون بخشوع دافئ ويشعر الإنسان بأنه أقرب إلى نور لا يُرى وأن الصوت يُحسّ في العظم والدمع والتنهد، في حضرة عميقة تتجاوز الجسد وتمس الجوهر.
هكذا يظل الصوت مرآة تجمع التراب بالروح، والغناء حين يُرتَّل بخشوع داخلي يصبح جسراً خفيًا بين النفس والسماء صدى للروح في عُمق الكون. كالمطر الذي يسقي الأرض كما تسقي الأم قلب طفلها وكالحزن الذي يجد مأواه في أغنية فتتحول الدموع إلى أمل. وهكذا يُذَكَّر الإنسان بأنه حي ممتد في العالم وما يتجاوزه.. في مدى أرحب وأعمق وأكثر إنصاتا لسرّ الوجود.
***
حميد علي القحطاني






