أقلام ثقافية

عبد السلام فاروق: هوليوود الشرق وذاكرة الأمة

أنوار مهرجان القاهرة السينمائي الدولي تعود، كالمواسم السابقة، تحمل ذاكرة الأضواء الأولى. منذ أن وطئت قدما الأخوين لوميير شاطئ الإسكندرية عام 1896، والمشروع السينمائي المصري ينسج غطاء رقيقا فوق وجه الوقت. لم يكن الفيلم مجرد صور تتحرك، بل كان نقشا جديدا على جدار الزمن، امتدادا لنقوش المعابد. كان سجلا لنبض الشارع، ووجه المرء العادي، وحكايته التي لا تموت.

في البداية، كان الأبيض والأسود. كان صوت يخرج من صمت الصور. "زينب" عام 1930، كانت كالنفس الأول. ثم جاء محمد كريم وكمال سليم، فأرسي قاعدة لغة سينمائية بسيطة كالطفولة، عميقة كالنهر. لغة تحكي صراع الإنسان المصري مع الواقع، مع الحب، مع الحلم.

ثم، في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، انفجر العصر الذهبي. تحول استوديو مصر إلى مصنع للنجوم، إلى ورشة كبرى للحلم. "دعاء الكروان"، "الناصر صلاح الدين"، "باب الحديد"، "الأرض". كانت أفلاما تنسج نبرة سينمائية عربية مستقلة، تجمع بين الرومانسية والواقعية والتحليل الاجتماعي. كانت سينما تبني وعيا، وتؤسس لذائقة.

توطدت العلاقة بين الفن والدولة. السينما صارت ذراعا من أذرع الوعي الوطني. من "رد قلبي" الذي وثق روح ثورة 1952، إلى "شيء من الخوف" الذي اقترب من نقد السلطة بحذر البصير. كانت السينما تصنع الذاكرة، وتعيد تشكيل الواقع.

في السبعينيات والثمانينيات، برز جيل جديد. جاء محمد خان بواقعيته الحسية، ليعيد قراءة الإنسان المصري في زمن المدن المتغيرة. وجاء داوود عبد السيد، لينسج عالما إنسانيا شفيفا، يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمدينة والقدر. وجاء وحيد حامد، ليفكك بشجاعة السردية الإخوانية المتطرفة. أما النجوم، فاتن حمامة، عمر الشريف، سعاد حسني، شادية، محمود مرسي، أحمد زكي، محمود عبد العزيز، عادل إمام... صارت وجوههم جزءا من ذاكرة الأمة، وروحها الثقافي. تجاوزوا الشاشة إلى المخيال الجمعي.

لم تكتف السينما المصرية بصنع الأفلام. صنعت بصمة. مدرسة سينمائية عربية شاملة، بلهجتها الخاصة في السرد والإخراج والتصوير والتمثيل. "العزيمة"، "المومياء"... لم تكن أعمالا خالدة فحسب، بل مرايا عميقة شرحت البنية الاجتماعية والسياسية، وكشفت ما تحت السطح.

كانت السينما، وما تزال، أحد أهم أدوات تشريح الوعي الجمعي في مصر. تفصح، توثق، تفتح أبواب الأسئلة. تقترب من الفقر، والطبقية، والبيروقراطية، والهوية، والمرأة، والمدينة، والدولة. تحدثت عن الظلم الاجتماعي في "الأرض"، وعن الاغتراب في "الكيت كات". كانت تخوض معركة الإدراك.

ومثلما واجهت قضايا المجتمع، واجهت الظاهرة الإرهابية بشجاعة. منذ التسعينيات، دخل الفن إلى الساحة ضد التطرف. "الإرهابي"، "الإرهاب والكباب"، "دم الغزال". أفلام قرأت العقل المتشدد، فكتكت العلاقة بين القهر والإرهاب، كشفت عن جذور الظاهرة في الفقر والحرمان.

لم تسلم السينما من أزمات إنتاجية قاسية. نقص التمويل، ارتفاع تكاليف المعدات، تقلص دور الاستوديوهات، هجرة الكفاءات، غياب نظام توزيع عادل. ومع ذلك ظلت صامدة، تصنع أفلامها بإصرار.

اليوم، وأمام تحديات العصر الرقمي ومنافسة المنصات، تحتاج الصناعة إلى خطة وطنية حديثة. صندوق مستدام للتمويل، تحديث الاستوديوهات، سياسة توزيع منصفة، دعم التحول الرقمي عبر منصات عرض محلية قوية.

ستظل السينما المصرية، بما حملته من ذاكرة ورموز وأحلام، هوليوود الشرق. صانعة النجوم، صاحبة الإنتاج المتنوع. البلد الذي لا تنطفئ شاشات عرضه. كتابها ونجومها أصحاب خيال لا ينضب. وروح تعرف أن الفن قوة ناعمة قوية، تحرس العقل، وتفتح الطريق أمام المبدعين.

كأنها النيل، يجري بصمت، حاملا حكايات القرون.

بين ضفتي الزمان، تستمر الحكاية..

كأنما النيل نفسه يرويها.. هذه الحكاية التي لا تنتهي. فبين الأضواء والظلال، بين الصمت والضجيج، تستمر السينما المصرية في نسج خيوطها الذهبية. كل فيلم جديد هو حلقة في سلسلة ممتدة، كل مخرج هو حامل لشعلة أولئك الرواد.

نحن الآن على حافة الهاوية، أو على عتبة النهضة – لا نعرف بالضبط. المنصات العالمية تتدفق كالسيل، تقدم بدائل سريعة، تستهلك الوقت كالنار تأكل الهشيم. لكن السينما المصرية تقف كالطود الأشم، تعرف أن جذورها أعمق من أن تقتلعها عواصف العولمة.

إنها تشبه نخلة صامدة في وسط العاصفة، تميل لكنها لا تنكسر. المخرجون الجدد اليوم، من أمير رمسيس ومراد عبد الواحد إلى أحمد عبد الله ومريم أبو عوف، يحملون نفس الروح التي حملها كمال سليم ويوسف شاهين، لكن بلغة العصر. هم يستخدمون أدوات العصر الرقمي ليحكوا حكايات أبدية.

ما يميز السينما المصرية أنها لم تكن أبدا مجرد مرآة عاكسة، بل كانت حوارا مستمرا مع الذات الجمعية. كل فيلم هو سؤال وجودي: من نحن؟ إلى أين نسير؟ ماذا بقي منا وماذا تغير؟

في "حسن ومرقص وكوهين" كان السؤال عن الدين والتدين، في "شيء من الخوف" كان السؤال عن السلطة والحرية، في "الأرض" كان السؤال عن العدالة والكرامة. الأسئلة نفسها تتجدد بأجيالها، والإجابات تتعدد بتنوع الرؤى.

لعل أعظم ما قدمته السينما المصرية هو هذا النسيج الاجتماعي المتماسك الذي نسجته عبر العقود. كانت دائما فضاء للقاء بين الطبقات، بين المثقف والعامل، بين الحاكم والمحكوم. في دور السينما، تحت الظلام الجميل، تذوب الفوارق ويتحول الجمهور إلى كائن واحد، يضحك معا، يبكي معا، يغضب معا. هذا هو السر في بقائها رغم كل العواصف. إنها فن الشعب، يحمل همومه وأحلامه، يعبر عن آلامه وآماله.

اليوم، ونحن ندخل عصر الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، تبرز أسئلة مصيرية: كيف ستحافظ السينما المصرية على هويتها في هذا الفضاء الرقمي الواسع؟ كيف ستواصل دورها التنويري في زمن التدفق المعلوماتي؟

الإجابة تكمن في الجوهر لا في الشكل. فما دامت تحمل رسالة إنسانية، وما دامت تتحدث بلغة القلب، فلن تجد صعوبة في اختراق كل الحواجز. التقنيات تتغير، لكن الحكايات تبقى. الشاشات تتبدل، لكن المشاعر لا تتبدل.

نور لا ينطفئ

ستبقى السينما المصرية كالفانوس السحري، ينير دروب الأحلام، يضيء زوايا النفس، يكشف عن الحقائق. هي النور الذي لا ينطفئ، والكلمة التي لا تموت، والذاكرة التي لا تنسى.

في كل مرة تشتعل فيها أنوار مهرجان القاهرة، يذكرنا ذلك بأن الحكاية مستمرة، وأن الروح الإبداعية لم تنضب، وأن الأمل لا يزال ينبض في قلب الأمة. السينما المصرية ليست مجرد أفلام نعرضها، بل هي هوية نحملها، وتراث نحمله، ورسالة نؤديها للعالم. هي الوردة التي تتفتح في قلب الصحراء، تذكرنا بأن الجمال أقوى من كل شيء، وأن الفن أبقى من كل شيء.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم