أقلام ثقافية

جورج منصور: في ذكرى رحيل مؤيد الراوي.. ذكريات متأخرة

يُعد مؤيد الراوي أحد أبرز الشعراء العراقيين في ستينيات القرن الماضي، وانتمى إلى ما عُرف بـ"جماعة كركوك". عمل في مجال الصحافة، واعتُبِر أحد رموز التجديد في الشعر العراقي الحديث. من بين مجموعاته الشعرية: "احتمالات الوضوح" و"الممالك"، وآخرها "سرد المفرد" التي صدرت قبل يومين فقط من رحيله عن دار "الجمل."

لم يكن بيت مؤيد الراوي يبتعد عن بيتنا في حي "عرفة" بكركوك سوى خطوات معدودة. كانت تلك الأزقة الحجرية والأرصفة المرتبة بإعتناء تختزن في مسامّها روائح الفحم والخبز والدهشة. وكان مؤيد، بشعره الكثيف القاتم السواد ونظارته الداكنة، يمرّ من أمام بيتنا بخطواتٍ متأنية، كأنه يمشي في حقل من الأفكار لا في شارع ضيّق من شوارع المدينة.

كنت صغيراً يومها، لكن صورته ما زالت معلّقة في الذاكرة كلوحةٍ عتيقةٍ في صدر غرفةٍ لا يزورها الضوء إلا نادراً. كان يدخل بيتنا أحياناً، فيتحدث مع أخي الكبير "ناصر" بلغة عربية فصيحة، ممزوجة بنبرةٍ بغدادية رخيمة، بينما كان يخاطب والدتي بالتركية أو بالتركمانية الدارجة، لغة الحياة اليومية في كركوك، وأحياناً بالآشورية. كان يجيد الانتقال بين اللغات كما ينتقل الشاعر بين الصور، بلا تكلّف ولا ارتباك.

وفي بعض الأحيان، كان يلتحق به "جان دمو"، ذلك الكائن المتمرّد الذي لا يعرف معنى للنظام. كان بيته ملاصقاً لبيتنا، لا يفصل بينهما سوى جدار من الطابوق الأحمر. أتذكّره وهو يطرق بابنا في أوقاتٍ غير متوقعة، وكان كثيراً ما يبصق على الأرض أو في الهواء، أينما كان وبلا تردد. وهذا ما كان يغيض والدتي فتثور لتوبخه. لكنه كان يبتسم ابتسامة جانبية غامضة، ويقول لي بصوته الخفيض:

"هلو جورج، خلصت السكائر… روح جيبلي علبة من الكانتين". والكانتين كان مجمعاً تجارياً نظيفاً، يتوفر فيه كل ما يحتاجه الناس.

كنت أركض بحماس لأشتري له السجائر، كأنني أشارك في طقسٍ سريّ من طقوس الشعراء الكبار الذين يسكنون بيننا ولا نعرف قدرهم بعد.

كنت أدرك، وأنا مازلت طفلاً، أن مؤيد الراوي ليس رجلًا عادياً. كان شاعراً وصحفياً وخطّاطاً ورسّاماً، كل هذه المواهب اجتمعت فيه. أذكر أنني زرت بيته ذات مرة برفقة شقيقه الأصغر "فؤاد". وما إن فتح باب غرفته حتى داهمني غبار الدخان، كان كثيفاً كالضباب، لدرجة أنني شعرت بالغثيان. وما إن خطوت إلى الداخل حتى أحاطت بي الألوان من كل صوب: لوحات تملأ الجدران، وخطوط عربية تمتدّ كأنهارٍ من حبر أسود.

وسط تلك الفوضى من الكتب واللوحات والرماد، كانت هناك لوحة "بورتريه" لفتاةٍ آشورية جميلة، تسكن قريباً منه. قيل لنا إنه كان يحبها بصمت، وأنه رسمها مراتٍ عديدة ليحفظ وجهها من شبح النسيان.

كان مؤيد يدخّن سيكارته بشراهةٍ تأملية، يشعلها كما يشعل قصيدة، ثم يدخنها حتى منتصفها فقط، وكأنه لا يريد أن يستهلك جمرها تماماً، ثم يطفئها ويلويها بين أصابعه ويرميها جانباً. كنت أراقب هذه الحركة فأشعر أنها ليست عابرة، بل جزء من طقس يومي لمصالحة نفسه مع عالمٍ لا يرحم.

مضت سنونٌ طوال لم أره فيها، حتى جاء اللقاء في برلين ليكسر تلك الحلقة. هناك، في بيته- مرسمه، وجدت عالمه ماثلًا أمامي: جدرانٌ تحمل لوحاتٍ تتنفس فناً، وألوانٌ تعانق بساطة الأثاث في أرجاء الغرفة. إلى جانبه، كانت تقف زوجته الصحفية فخرية صالح، شريكة دربه. لقد نال الزمن من جسده النحيل حتى أوشك على الانحناء، لكن نظراته كانت المعجزة؛ ظلت كنجمين متألقين، يشعان ذكاءً قديماً وحنيناً لا يعرف الزوال.

 تحدثنا مطولاً عن كركوك، عن الشعر، وعن الرحيل الذي لا ينتهي. بعد فترة قصيرة، تسلّل المرض إليه، وشلّ حركته شيئاً فشيئاً، ثم خمد صوته كما كانت تخمد سيجارته في آخر الليل.

في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي مرت عشر سنوات على رحيل مؤيد الراوي عن 76 عاماً في برلين.  لكن روحه ما تزال معلّقة في تلك الأزقة القديمة في كركوك، عالقة بين دخان سجائره وألوان لوحاته وصدى لغاته المتعددة.

  اتسمت لغته الشعرية بغموض ظاهر، غير أن بنائه اللغوي تميز بالشفافية والاعتماد على الرمزية من خلال استخدام المحسنات البديعية. وفي ديوانه "سرد المفرد" نقرأ:

الأشياءُ كثيرةٌ

تولدُ الأشياءُ

دوامةٌ يديرُها طبعُ إلهٍ

مَنْسوخةٌ تَمضغُ الأشياءَ

تَغزِلُ من الغيابِ شيَّاكَ

تَضيعُ فيها وتُسجَن

تحرسُها الكواسجُ

لا مقصَّ تُقطَعُ به الخُيوطُ

فتمضي بنا نحو القاعِ

تنحني الكتفُ وتصنعُ الألغازَ

ننشغلُ بها وتَطرُقُنا كَثْرَةُ الرموزِ

سلامٌ لروحك أيها الراوي، ولأيامٍ كنا نعبرها ببطءٍ، كأنها هي نفسها تخاف من أن تنتهي.

***

جورج منصور

في المثقف اليوم