أقلام ثقافية
حيدر مجيد اليعقوبي: إدراك ماهيّة الأشياء الحسيّة.. قراءة في شعر بشّار بن برد
 
			كأن إبريقنا والرَّاحُ في فمه
طيرٌ تناول ياقوتا بمنقار
كيف استطاع بشار بن برد أن يصف مثل هذا الوصف الدقيق، والبديع، وهو لم يرَ إبريقًا وراحًا وياقوتًا ومنقارًا قطّ في حياته إذ وُلد مكفوفًا؟.
للإجابة عن هذا السؤال لا بدّ أن نفرّق بين الذاكرة البصريّة والذاكرة المجرّدة، وأعني المجرّدة على إطلاقها الفلسفي، فالإنسان السليم (من جهة حوّاسه) يستطيع أن يصف ما يحتكّ به بحوّاسه عامّة، وببصره خاصّة، فهو ينتزع الماهيّات من الأعيان ثم يعيد تشكيلها بتصريفات ذهنيّة معتمدة على ذاكرته البصرية، أمّا المكفوف، فيشاكل بالأصل ويخالف بالفرع، فهو ينتزع الماهيّات المجرّدة لا على الأصلِ الأوّلِ، بل ينتزعُها بتجريدٍ محضٍ قائمٍ على المفاهيم العقليّة المجرّدة، ثُمّ يشكّل صورةً مجرّدةً مختلفةً تمامًا عن الصورة في ذهن المتلقّي البصير، فبشّار لم يكن منقطعًا عن المجتمع انقطاعًا تامًّا، ولو كان ذلك لعجز عن هذا الوصف، كما أنّه لو فقد حاسّة أخرى كالسّمعِ مثلًا، لعجز أيضا عن نقل هذا الوصف شعرًا بهذه الصورة الكاملة.
نتيجة هذا الاحتكاك، تكوّن عند بشّار خزين معرفي واسع، فهو يدرك بالإدراك المجرّد معنى الارتباط بالتحقّق، كما يدرك القيمة والأحجام بوصفها مفاهيم مجرّدة لا ترتبط بمصاديق عينيّة، وهنا تكمن عبقرية بشّار، وقوّة القياس العقليّ المجرّد لديه، ومرجع ذلك هو الحاجة التي تفاقمت عنده بغياب البصر، ولنجعل الصورة واضحة نفصّل الأمر في الخزين المعرفي على هذا النحو:
الخزين الأول: معرفي حسّي (السمع واللمس): فهو يعرف الألوان عامّة واللون الأحمر خاصّة، سماعًا كما يعرف الخمر والطائر، ويعرف طبيعة السائل من ملمسه، كما يدرك الأحجام والأشكال عبر اللمس أيضًا، ومن ذلك فم الإبريق ومنقار الطّائر وشكل الياقوت.
الخزين الثاني: انتزاعي عقليّ مجرّد: فهو يدرك القيمة والجمال والسقوط كمفاهيم مجرّدة.
القياس العقلي: بالخبرة الطويلة استطاع بشّار أن ينشئ جسرًا منطقيًّا ولغويًّا بين الأحمر والخمر، وبين الأحمر والياقوت، وبين القطرة والياقوتة بالشكل والحجم، وبين فم الإبريق ومنقار الطائر، كما أنّه استطاع أن يربط بين القطرة والياقوتة من جهة القيمة، فالقطرة الأخيرة ثمينة كما الياقوتة، وهو لا يدرك هذه القيمة بالملاحظة البصريّة يقينًا، ولكنَّه انتزعها من حديث الناس وتعظيمهم إياها.
التصور العقليّ المحض: النتيجة أنّ بشّار بن برد استطاع أن ينقل لنا صورة عقليّة مجرّدة، وهي مطابقة للواقع بدقّة.
في الحقيقة أنّ بشار بن برد لم يفهم أبدًا حقيقة اللون الأحمر ولا شكل القطرة، ولكنّه كان ينتزع المشهد عقليًّا هكذا: شيء ثمين سائل يُسمّونه الخمر، يطلقون عليه صفة اللون، واسم اللون: أحمر، وحقيقة هذا الشيء أنّه يُسكر من يتناوله، ويُوضع في شيء مجموعًا، وهذا الشيء يُسمّى إبريقًا، والطّائر كائن مثل الإنسان من حيث حيوانيّته، يطير، بمعنى أنّه يرتفع عن الأرض بوسيلة تُسمّى الأجنحة، وله منقار حادّ، ملمسه كملمس فم الإبريق، يتناول به الأشياء كما يتناول الإنسان الأشياء بأصابعه، والياقوتة شيء بيضاوي صغير يمكن تناوله باليد ولا يحتاج إلى مكان واسع ليستوعبه، وهذا هو الحجم الصغير، وهو ثمين وله أهميّة فالناس يبتاعونه بأشياء لا يفرّطون بها، كما يصفونها باللون الأحمر فهي تشبه الخمر، والقطرة هي آخر ما يبقى في الإبريق وسقطوها في الإناء أو في اليد يشعر بحجمها الصغير، ويكون المشهد مكتملا هكذا:
كائن له منقار يتناول في المنقار شيء اسمه ياقوتة حمراء يشبه بالقياس إبريقًا في فمه قطرة وهو آخر ما يسقط من السائل الملموس الذي يُسمّى خمرًا ولونه أحمر.
***
حيدر مجيد اليعقوبي
باحث ماجستير – جامعة الكوفة – كليّة الآداب







