أقلام ثقافية
سوسن إبراهيم: لوحات الطين السومرية

عن رائحة التمر، وعن ألوان الطين، عن الأساطير التي ما زالت تتنفس في أزقة الأرض المالحة، في تلك الأراضي التي تحفظ الذاكرة.
الحكاية الشعبية كامرآة للذاكرة والروح في جنوب العراق تحت مجهر النقد الثقافي.....
تُعد الحكايات الشعبية في جنوب العراق جزءًا أساسيًا من التراث الأدبي والثقافي، فهي ليست مجرد قصص تُروى للأطفال أو للتسلية، بل انها مرآة للهوية الاجتماعية، والقيم المجتمعية، والأساطير المحلية، إذ تحمل هذه الحكايات عناصر متعددة من الواقع والمعيش اليومي، وتعبّر عن الصراعات، الانتصارات، والمواقف الإنسانية التي عاشها الناس عبر القرون .
ضمن هذا السياق، يكون الأدب الشعبي وسيلة لفهم التجربة الثقافية الجنوبية بطريقة حيّة وملموسة، إذ تضمر كل حكاية رموزًا وطبائع المجتمع الذي أنتجها.
تتسم الحكايات الجنوبية بأسلوبها السردي الشفهي، وتقوم على التكرار، الإيقاع، واللغة المبسطة، ما يجعلها سهلة الحفظ والنقل من جيل إلى جيل، ومع ذلك، فإن هذا الشكل الأدبي لا يقتصر على التسلية فحسب، بل يفتح المجال للتحليل النقدي من منظور ثقافي: كيف ينقل السارد القيم الأخلاقية، كيف يُوظف الأسطورة لتفسير الظواهر الطبيعية، وكيف يُظهر الصراع بين الخير والشر في إطار مجتمع محدد؟ هنا يظهر دور النقد الشعبي وغير الرسمي، حيث يقيّم المستمعون أو المشاركون في السرد جودة الحكاية، من حيث القدرة على إيصال العبر والمعاني، ومدى ارتباطها بالخبرة الحياتية الواقعية.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل تحمل الحكايات الشعبية في جنوب العراق أبعادًا رمزية وفلسفية، فالشخصيات، سواء كانت بشرية أم خارقة للطبيعة، تمثل طبائع إنسانية أو قوى طبيعية، وتقدم رؤية متكاملة عن كيفية تعامل الإنسان مع البيئة، المجتمع، والقيم الدينية، ورغم بساطة الحكايات، فإنها تحتوي على مستويات متعددة من المعنى، ما يجعلها صالحة للتحليل النقدي الأكاديمي والفلسفي، وكذلك للقراءة الإبداعية التي تتيح إعادة إنتاج النصوص بأساليب حديثة.
ومن خلال دراسة الحكايات الشعبية الجنوبية يمكننا أن نفهم دور المرأة والطفل في الثقافة المحلية، حيث تظهر بعض الشخصيات النسائية كـ"حارسات للحكمة"، بينما يظهَر الأطفال كـ"شهود على المعاني الأخلاقية"، وهذا يؤكد على تفاعل المجتمع مع أفراده عبر التقاليد الشفوية، وتوضح الحكايات آليات الاستمرارية الثقافية، إذ لا تختفي القصص بمجرد انقضاء الزمن، بل يتم تعديلها وتكييفها وفق المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما يجعلها نموذجًا حيًا للدينامية الثقافية في الجنوب العراقي.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الحكايات الشعبية في جنوب العراق تشكل نقطة التقاء بين الأدب النقدي الشعبي والأدب الأكاديمي، فهي تقدم مادة خصبة للباحثين والدارسين لفهم كيفية بناء المجتمع لذاته، وكيفية نقل القيم والمعارف عبر الأجيال، وتبعا لهذا المنطلق، يمكن اعتبار الحكايات الجنوبية ليس مجرد تراث ثقافي، بل أداة نقدية حية تساعد على دراسة العقل الجمعي، والخيال الثقافي، وأبعاد الفعل السردي في المجتمع.
***
د. سوسن إبراهيم الشمري