أقلام ثقافية

نورالدين حنيف: رأسٌ معلّقة.. حكيٌ يشبه الرواية

(لا يعنيني أن أكتب لك خبرا أيها القارئُ المحترم، أخبرك فيه أن فلانا كفر بالمدينة فعلّقت المدينةُ رأسه على بوابتها الرئيسية. ويعنيني أن أدلف بك في متاهات الحكي حتى يدور رأسك ألف مرة قبل أن يعلقوه على بوّابة المعنى... نون حاء)

كَانْ يَا مَا كَان، فِي زَمَنِ الهيولى: خُرَافَةٌ تشبه رجلا، والرّجُل بِدونِ أَصَابِع. وفِي مَشِيئَةِ الْكِتَابَةِ انْحَنَى قَلَمُهُ، التقطَ هَبّةَ رِيحٍ صَرْصَر، ثمّ قرر أن يكون...

نَبَتَتْ فِي رَاحَتَيْهِ أَشْجار. الواحدةُ منها أَكْبَرُ مِنْ قَامَتِهِ الصّغِيرَة. وَلَمّا رَامَ صَهْوَةَ الرّيح، كَبُرَتْ حُرُوفُ جَسَدِهِ، فَكانَ الّذِي كَان.

كانَ أن تحركَتْ في المدى، أغْنِيّاتٌ تَلِيقُ بِالرمل. مدّ الرجلُ يداً إلى بعضِ الموسيقى معجونَةً في قبضة الرّيح. وأقسمتِ الريحُ أن تُلقيَ بكبرياءِ الريشِ بينَ الأقْنِعة والْأَغاني. فما وجد الرجل طرباً، ووجد الْينابيع، ترْسمُ لِلْخُيولِ أَنفاسَها الْمُقَطّعة في ارْتِعاشِ الْماءِ. خانَ الرمل حوافرَ الريحِ، فانسدلَ من قلبِها حَنينٌ.

نحتَ الحنينُ عيونَ الرجلِ في عَيْنِ النّشيد، ورمى بالمديحِ في قلبِ الأغنية، تُرَصّع صُدورَ الْهَواءِ بِنَياشينِ الكلماتِ حينَ الكلماتُ تخرجُ بيضاءَ مثل كفِّ نبيّ...

أَخْرَج الرجلُ يده. وَجَدها بيْضاءَ أيضاً. لَم تَغْمِسَ أصابعها في انْحِناءِ الْأَقْنِعَة. كانتْ مجرّد أغنيات، لكنّ الماءَ سالَ منها خَطْواً يَنْهَمِرُ، يتدلّى شبقاً عارِفاً بشوارعِ الجسد، يمدّ إلى الرغبة جناحاً وإلى الموت أجنحة. يَعْرِفُ الْورْدَةَ منْ صُراخِها وَاخْتِلاجَ الْغُصْنِ منْ تَفاصِيلِ الشّهْقَة.

نزل الْماءُ ثانِيّةً يُرَوّضُ أعْراسَ الْأكْمامِ مثلَ خَوْفٍ وَسِيم. يَشْرَبُ الْجَسَدَ فِي بَهْوِ الْاِشْتِهاء تحت ظلّ شجرةٍ مفردة يحيطُ بها العراءُ مُدثّراً باخْتِلاسِ النظر إلى زوايا عشقٍ لا يكترثُ للتراب ولا للعجاج تنفخهُ ريحٌ غيورة.

و قبل الأمس، خرجَ الرجل من المدينةِ نَدِيماً فَاتِناً. كانَ يحملُ رأسهُ قبلَ أن تحمله بوابةُ المدينة... لم تضْرِمِ الْمُدامُ وَلَعاً في نسغِهِ المترنّح. بل رنّحَتْهُ فكرةٌ. طرّزَ بها عُقْمَ الأرواحِ العاقرةِ في بني جلدتِه. واشتبك في صدرهِ نداءان: واحِدٌ لثوبهِ الأبيض النقيّ، لم يتدثّر بغيره لفاقةٍ زاهدة، وثانٍ لقلبِهِ الذي باعهُ للندامى يتلونَ كتاباً كفرَ به سلطانُ المدينة. ولمّا كانَ الّذي كان،  غمسَ حبرهُ في قضبان الزنزانة، ثمّ فرّ عبْرَ قلبِ مُرِيدٍ من حاشيةِ المالكين لقرار العتمات. كان يمارس توريةً أملاها الرجل ذاتَ مجلسٍ داخل فتوى تقوم على سيمياء المقاصد قبل وسمِ الأحكام.

و لأول مرة سيسمي الحكيُ هذا الرجلَ وهو طليقٌ مثل جوادٍ أدركَ بعبقرية حاسّة شمّه عطر الرمل.

أبوريحانة لا يأبهُ لرائحة الانطفاء، ولا لدَم الْعُذُوبَة، ينزّ من خَنَاجِرِ الصّهِيلِ، وصَهواتِ رَدِيمِ الْعويل.

بالأمسِ البريقِ القريبِ  لمعَ جَسَدهُ عندما دفنَ شبقهُ فِي أرْمِدَةِ الْمَشْهَد. وهاهو اليوم يمتلك جسداً يشبه طائراً يشبه غيمة. في خوافيه يرقد يقين الماء. وفي قوادمِهِ تنامُ تفّاحة...

يركب أبوريحانة فرسا نزحتْ من دم غزالة، تحب الموسيقى وتركضُ مثل قصيدة. أهداها إياهُ شيخٌ علم أن سيرته انقطعت عن فعل الكتابة. قال له في فراش احتضاره:

انظر يا بنيّ إلى تلك الشجرة حيث مربط الفرس. قال: نظرت. قال: فما أنت واجد؟ قال: شجرتيْن.

الله... الله... الله... لا أجدر بالفرس أحد غيرك. هي لك يا ولدي... ثم ودّع.

ساق أبوريحانة الفرس خلفه بغير رسن. كانت تتبعه مثل ظله. لا تحيد عن خطوط طوله وعرضه كأنها مصنوعةٌ منه.

و ذاتَ مجلس سأله صاحبه الثريّ إن كانت الفرس التي في ملكه للبيع.  أحسّ أبوريحانة بالقصيدة تخرج من جنبيه كأنها السفود الحامي من قلب الصوف. لم يحدث أن التقاه بعدها أو صادفه. الفرسُ كَائِنٌ طَرِيٌّ يَسْتَلْقِي عَلى جَسَدِ تُفّاحَة. الفرس جَنّةٌ لِفَراشاتٍ لا تَتَدَثّرُ بِالْمَعاطِف... اِنْتَهى .

رحل أبوريحانة فِي قلب الفرس. ثم عاد وفي حوزته علم من الكتاب. تعلّم كثيرا. تعلّم أن الأنثى قَارُورَة. تعلّم أيضاً أن يستقبلَ القضمَ قبل أن يشْرَبَ مِنْ عَيْنِ النّار.

قال الراوي: لم هذا التغميضُ والله فسح باللغة عوالم الناس والأشياء؟ سمع أبوريحانة هذا الحكي فرامَ إلى شجرة والتحف الظلَّ ثم تغطّي ببعضه. نامَ قبل أن تأكل الرواية بقية الثمر في جرابه. وقبل أن تشرب بقية عطشه المسكوبِ في شرايينه. ثم فرّ في نومته إلى جوف الفرس.

 سمع المستمعون في مجلس الرواية أن أبا ريحانة همسَ قبل أن ينام قائلا: لا تَنْشُروا خَبَرَ مَوْتِي.

***

نورالدين حنيف أبوشامة

في المثقف اليوم