أقلام ثقافية
عبد السلام فاروق: لماذا ينتظرون موتك ليعطوك حقك؟

زياد الرحباني وداعا
في عالمنا العربي.. يبدو أن المبدع لا يحصل على بطاقة العضوية في "نادي العظماء" إلا بعد أن يغادرنا إلى عالم آخر! حينها فقط.. تفتح له الأبواب المغلقة، وترفع له الأعلام المنكسة، وتكتب عنه المقالات التي كان يستحقها وهو حي يرزق!
زياد الرحباني.. الرجل الذي حمل بيروت في قلبه وحملق في عيني الزمن بجرأة المتمردين، لم يكن بحاجة إلى شهادات تكريم بعد رحيله. هو عرف قيمته، وعرفنها نحن أيضاً.. لكننا اخترنا الصمت حتى صار رحيله صرخة نستخدمها لنقول: "كان عظيماً!".. والسؤال: ألم يكن عظيماً قبل أن يرحل؟
غريب في وطنه!
زياد.. مثل نجيب محفوظ، مثل عبد الحليم، مثل فيروز نفسها.. عاش بيننا جسدا، لكنه ظل روحاً غريبة! نسمع صوته لكننا لا نستمع إليه، نرى أعماله لكننا لا نقرأها، نحبه لكننا لا نفهمه!
في الغرب.. يتحول المبدع إلى "أسطورة" وهو على قيد الحياة. هنا.. نصنع الأساطير فقط بعد الرحيل! زياد عاش بيننا كـ"ابن بار" لفيروز، لكنه كان في الحقيقة "أباً" لموسيقى لم نعرف كيف نتعامل مع عمقها!
كم من مرة سمعنا أحدهم يقول: "زياد معقد.. زياد كئيب.. زياد يغرد خارج السرب!"؟ اليوم.. نفس الأصوات تذكره كـ"عبقري"! أليس هذا نفاقاً فنياً؟
الموت في عالمنا العربي هو "البرومو" الذي يجعل الجميع يشاهدون الفيلم كاملاً! زياد عاش يقدم تحفته تلو الأخرى.. "بخصوص الكرامة والحرية والشعب العنيد"، "هيدا لبنان"، "أنا مش كافر".. لكننا كنا مشغولين عنه!
اليوم.. نكتشف أن كل نوتة عزفها كانت رسالة، وكل كلمة كتبها كانت نبضاً! لكن.. لماذا نكتشف ذلك بعد فوات الأوان؟ لأننا - ببساطة - أمة تتعامل مع المبدعين كـ"أزمة" يجب تجنبها.. حتى تتحول إلى "تراث" نتباهى به!
الإبداع.. جريمة يعاقب عليها بالنسيان ثم يكرم عليها بعد الإعدام!
القاعدة تقول: "إذا أردت أن يحترم إبداعك في الوطن العربي.. مت!".. زياد ارتكب "جريمة" الإبداع الحقيقي.. فحُكم عليه بالعيش في زاوية اللامبالاة!
لكن.. هل كان وحده؟ أليست هذه هي قصة كل عظيم؟ عبد الوهاب اتهموه بالتقليد.. أم كلثوم قالوا عنها "مملة".. سيد درويش مات فقيراً!
الغريب.. أننا نتعلم الدرس ثم نكرره: نهمش المبدع في حياته.. ثم نبكيه بعد موته!
سيرة متمردة..
لم يكن زياد الرحباني (1956-2025) مجرد ابن لفيروز وعاصي، بل كان "حادثة فنية" بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ولد في كنف العائلة التي صنعت أسطورة الأغنية اللبنانية، لكنه اختط مساراً مختلفاً: مساراً يعبث بالمقدسات، يسخر من السياسة، ويصنع موسيقى تشبه طقطقة عظام الواقع اللبناني. كيف تحول هذا الصبي الذي كان يحكم على ألحان والده في السادسة من عمره إلى "فيلسوف السخرية الموسيقية"؟
في عمر السابعة عشرة، قدم زياد أول لحن لوالدته فيروز بعنوان "سألوني الناس" ، وهي أغنية حزينة عن الغياب كتبها أثناء وجود عاصي في المستشفى. اللحن كان ناضجاً لدرجة أن الجميع ظنوه من تأليف عاصي نفسه! هنا بدأت المفارقة: زياد الذي ورث الموهبة، رفض أن يرث التقليد.
أولى مسرحياته "سهرية" كانت محاكاة ساخرة لمسرحيات العائلة، لكنها كشفت عن رغبته في كسر القالب الرحباني المثالي، والغوص في الوحل اليومي للبنان.
مع اندلاع الحرب في لبنان، تحول زياد إلى "طبيب جراح" يشرح الواقع بأغانيه. قدم مسرحيات مثل "بخصوص الكرامة والحرية والشعب العنيد"، حيث مزج السخرية السوداء بالنقد السياسي الحاد . لم يعد المسرح مكاناً للهروب من الواقع، بل مرآة تكسرها ثم تعيد تركيبها أمام الجمهور.
أغنية "هيدا لبنان" كانت صرخة ضد الطائفية: "هيدا لبنان.. بلد الـ 18 طائفة ووزير!".
ثورة النوتة المتمردة
إذا كان الأخوان رحباني قدما الموسيقى كـ"حلم جميل"، فإن زياد قدمها كـ"كابوس جميل". في ألبوم "مونودوز"، مزج الجاز مع الموروث الشرقي، وكسر قاعدة الأغنية العربية التقليدية . أغنية "ولعت كتير" التي كتبها عن علاقته مع كارمن لبس، كانت أشبه بمذكرات عاطفية مكتوبة بنوتات موسيقية .
عرف زياد بـ"مزاجيته" ورفضه الانحياز. بعضهم اتهمه بالتعاطف مع النظام السوري، بينما رأى آخرون أنه كان يرفض الانخراط في الأجندات السياسية . في النهاية، ظل زياد وفياً لموقفه: الفن ليس أداة دعاية، بل ضمير .
اليوم، بعد رحيله، يتذكر الجميع أن زياد كان عبقرياً. لكن قليلون من تذكروا ذلك وهو على قيد الحياة. لقد عاش كـ"خطأ جميل" في نظام الفن العربي، ومات كي يصير "تحفة متحفية" يُحتفى بها بعد فوات الأوان.
الدرس الذي لن نتعلمه!
زياد الرحباني لم يمت.. هو فقط انتقل من عالمنا الصغير إلى عالمه الأكبر! نحن من كنا أمواتاً.. واليوم نبكي لأننا أدركنا أننا فوتنا فرصة الحوار معه!
السؤال الذي يبقى: هل سنتعلم أن المبدع يستحق الوجود.. وليس فقط الذكرى؟ هل سنفتح أعيننا على الأحياء قبل أن يتحولوا إلى صور على الجدران؟ الجواب.. كما كان يقول زياد نفسه: اسألوا الريح!
كلمة أخيرة:
في الوطن العربي.. المبدع يعيش كأنه خطأ.. ويموت كأنه معجزة! والعيب.. ليس في من يغادر.. بل في من يبقى ولا يرى!.
***
د. عبد السلام فاروق