أقلام ثقافية

سجاد مصطفى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾... (البقرة: 281)

المقدمة: تعيش الكتابة في العصر الراهن تحوّلاً جذريًّا؛ ليس فقط في أدواتها، بل في مفهومها الجوهري. فلم تعد مجرّد فعلٍ إنساني يعبّر عن تجربة ذاتية أو موقف وجودي، بل أصبحت، عند كثيرين، سلعة رقمية يُعاد إنتاجها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولا سيما برامج متطورة كـ(GPT)، تُكتب بها المقالات والقصائد والخطب وحتى الاعترافات.

وفي خضمّ هذا التغيّر، ينهض سؤال أخلاقي ملحّ: هل لا يزال من يُنتج نصًّا دون أن يتألم فيه، يُعدّ كاتبًا؟

الكتابة كفعل وجودي لا تقني

إنّ فعل الكتابة لم يكن يومًا ممارسة لغوية خالية من الألم، بل هو – في جوهره – عملية معرفية وجدانية تتطلّب من الكاتب أن ينزل إلى قاع ذاته، ويُفتّش في خزائن روحه، ويستخرج من مخزون الألم والأمل، ما يُعبّر به عن فكرة أو إحساس أو موقف.لكن في عصر الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان إنتاج نصوص كاملة في دقائق، وبجودة لغوية مبهرة. غير أن هذا التقدّم لا يطرح إشكالية تقنية بقدر ما يكشف عن أزمة في الضمير الأدبي:هل يجوز أن تُنسب نصوص لم تُكتب بتجربة شخصية إلى من لم يعشها؟

هل يُسمّى من ينسخ نصًّا كتبته خوارزمية كاتبًا؟

أليس في ذلك تزوير لهوية النص واغتيال لمعناه؟

خيانة الحبر باسم البرمجة الكتابة ليست مجرد سردٍ جميل، ولا تجميعًا بارعًا للمفردات، بل هي فعل مسؤولية تجاه الذات والآخر. ومن يكتب دون أن يتألم، دون أن يُراجع نصّه، دون أن يشتبك معه فكريًا وعاطفيًا، فإنما يُقدّم نصًّا خاليًا من الندبة، من الذاكرة، من الحياة. إنّ من يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي في التحرير أو التنقيح دون أن يُخفي المصدر، قد يدخل في إطار الاستخدام التقني المشروع. أما من يتلقّى نصًّا كاملًا بلا جهد، ثم ينسبه إلى نفسه، وينشره للناس، فإنما يخون جوهر الكتابة قبل أن يخون القارئ. ليس المقصود من هذا النقد رفض التقنية أو التقدّم، بل الدعوة إلى صدق الكتابة ووعي الذات. فالنص الذي لا يُوجع صاحبه، ولا يُربكه، ولا يُقلقه، ليس شهادة حياة، بل شهادة زور. وفي زمنٍ يُصنع فيه الحرف في مصانع الذكاء الاصطناعي، يصبح على الكاتب أن يقرّر: هل يكون شاهدًا حقيقيًا على نفسه؟ أم شاهِد زورٍ على نص لا يعرفه؟

تسليع المعنى: حين تُباع المشاعر بضغط زر

في عالم تُختزل فيه الكتابة إلى محتوى، يُقاس بالأداء الرقمي لا بالأثر الوجودي، تبدأ الكلمات بفقدان قدسيتها.

لماذا نكتب إذًا؟ هل نكتب لنملأ الفراغ؟ أم لنُعمّقه ونفهمه؟ حين تُنتج المقالات بلا تجربة، والخواطر بلا لحظة انكسار، تصبح اللغة نفسها بضاعة استهلاكية، ويتحوّل الكاتب إلى مجرد موظف محتوى، يُقلّد صوتًا ليس صوته، ويوقّع على مشاعر ليست له.

في مثل هذه اللحظة، تصبح كل كتابة خيانة ناعمة، وكل نصّ يُنشر بلا إحساس،هو تزوير ناعم للمعنى. الكتابة.. شهادة حياة لا مهارة تقنيةلا يُطلب من الكاتب أن يكون فصيحًا فقط، بل أن يكون صادقًا مع نفسه أولًا.ولا يُسأل الكاتب: كيف كتبت؟

بل: لماذا كتبت؟ النصّ الذي لا يحوي نزفًا داخليًا، ليس أكثر من تمرين لغوي.وما أكثر من تمرّسوا في البلاغة، وقلّ من امتلكوا ضمير اللغة.لهذا، فإن ما يُصنع اليوم من نصوص عبر الذكاء الاصطناعي، وإن بدا بليغًا، إلا أنه يفتقر إلى أهمّ عنصر:الحضور الإنساني.

من لا يكتب ليُشفى، لا يكتب بل يُقلّد. ومن لا يكتب ليشهد، لا يُسجّل إلا حضورًا زائفًا. كل نصّ لم يُوجعك… ليس لك، ولا منك. وكل نصٍّ من هذا النوع… هو شهادة زورٍ تحملاسمك. الكتابة كنجاة... لا كصنعة ما من كاتبٍ حقيقي، إلا ويحمل في داخله شيئًا يرفض أن يموت بصمت. هو لا يكتب لأنه يتقن تركيب الجمل، بل لأنه لا يطيق ثقلها إن ظلّت عالقة في صدره. الكتابة، بالنسبة له، ليست قرارًا، بل ضرورة.

صناعة النص أم صدقه؟

كلما ازداد الاعتماد على الآلة، تراجعت مساحات الشكّ والتردّد والخوف…وكل كاتب حقيقي يعرف أن هذه الثلاثية ليست عيوبًا، بل أدوات كتابة.

الآلة تكتب من معجمٍ إحصائيّ، لكن الكاتب يكتب من ذاكرةٍ مشروخة، من طفولةٍ ناقصة، من خيانةٍ نائمة، من دمعةٍ لم تُذرف. الكتابة كأثر لا كعرض ثمة فرق بين من يكتب ليمتلك اللغة، ومن يكتب لتخلّصه اللغة منه. الأولُ يجعل من النص قفصًا، أما الثاني، فيجعل من النص باب نجاة. النصوص التي تبقى لا تُقاس ببلاغتها، بل بقدرتها على أن تُوقظ شيئًا نائمًا في وجدان القارئ. الكلمة التي لا تعنيك… لا تعنينا في زمنٍ يفيض بالنصوص، صار التحدّي الأكبر ليس في أن تكتب ما لم يُكتب،بل أن تعني ما تكتب. فما أكثر من يكتبون…وما أقلّ من يكتبون وهم خائفون من أن يكونوا كاذبين!

حين تصير الكتابة مرآة لا قناعًا

في النهاية، لا نملك نحن الكُتّاب سوى حروفنا. ولا نطلب من القارئ أن يُحبّنا، بل أن يشعر بصدق ما نقول. الكتابة ليست مهرجانًا، بل محرقةٌ شخصية، يدخلها الكاتب ليخرج أقلّ وزنًا، وأشدّ صدقًا، وربما… أنظف روحًا. في عصر تُنتَج فيه الكلمات كما تُنتَج السلع،يبقى الكاتب الحقيقي هو من يرفض أن يُجمّل جُرحًا لم يشعر به، أو يكتب نصًّا لا يُشبهه.

الكاتب الحقيقي…يكتب لأن قلبه ضاق، لأن الحياة خانته، لأن الصمت خذله. فإن لم تُوجعك الكتابة، فلا تُوجِع بها أحدًا. وإن لم تكن شاهِد صدقٍ على ألمك،فلا تكن شاهِد زورٍ باسمك. ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾.. (الإسراء: 36)

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

في المثقف اليوم