أقلام ثقافية
علي الجنابي: لبَّيكِ يا بِطاقةً حَمَّالةً للقَهَر
رَنَّ "هاتِفي" بخَبَر، أفضاهُ لي صديقٌ مُقيمُ في باريسَ السَّمَر، وكانَ بسَقيمِ عَيشٍ في بغدادَ قد كَفَر، وبِنَسيمِ ضِفافَ "السِّينَ" قد ظَفَر، والسِّينُ هوَ اسمٌ لذاكَ النَّهَر.
استوطَنَ حّذوَهُ واتَّخذَ مِن برجِ ايفِلَ قِبلَةً لمَقطَنِهِ على مَدِّ البَصَر.
ثمَّ حَثيثاً غادَرَ صدِيقِي حديثاً مِن شَذرٍ مَذَر، وبَادَرَ الى قَولِ الخَبَر؛
- لقد حُزتُ على جِنسِيَّةٍ إفرنجيَّةِ بفَخَر. ويا لهُ من نبأٍ سارٍّ مُنتَظَر، ومُدعاةٍ لابتهاجٍ بصَخَبٍ على جُفُونِ السَّهَر!
- أصِدقاً ما قلتَ مِن خَبرٍ بابتهاجٍ وفَخَر؟ أوَلم ترَ من العَوائِقِ ما فيهِ مُزدَجَر؟
- نعم، وعَلامَ العوَائِقُ والبَوائِقُ والقَهَر، وما مِن مُديرٍ إفرنجيٍّ هَهُنا ذي صَفِيرٍ مُزدَجَر، وما مِن مُوَّظفٍ ذي وجهٍ مُصفَرٍّ مُكفَهَر. بل إنِّي لستُ مَلزمَاً لأكونَ في دائِرةِ الجِنسِيَّةِ لديهم مُّحتَضَر، لإنَّ الأمرَ كلُّهُ سَلسٌ يَسيرٌ مُختَصَر، ويكمنُ برقمِ طابعٍ بثَلاثينَ "يُورو" أرسِلُهُ لهم ببَريدٍ مضمُونٍ مُعتَبَر.
- ويْ! أوَصِدقاً ما تَقولُ، أم هو التَّملُّقُ بِفَخر! أمهاجرٌ يَتَجَنَّسُ دونَ كَبَدٍ بكمَدٍ وقَهر. أحقَّاً الأمرُ لا يستَوجبُ إلّا طابعاً مُرسَلاً ببَريدٍ مضمُونٍ مُعتَبَر. وَيْ، لئن كانَ ذاكَ كذلكَ، فالخَطبُ إذاً يستدعيَ السَّهرَ بسَمَر. ولا تَثريبَ عليكَ يا صاحُ ولا حرجَ من ذا سَهر، ولكَ أن تَجعلَ أمَدَ السَّهرِ شهراً فَشَهراً فوقَهُ شهر، واجعَلِ السَّمَرَ فيهِ حكايَتي وماطوَتْ من قَهَر.
وإنَّ ما سَأرويهِ لكَ هوَ واللهِ حقٌّ، وما كانَ من عَجيبِ الخَبر، ولا من غَريبِ الضَرَر..
كنتُ قد وقفتُ قبل أيامٍ قُدَّامَ دائِرَةَ الجنسيَّةِ في بغدادَ بِأنَفَةٍ وانشِراحٍ وبلا ضَجَر، إمتِثالاً لإمرِ حُكومَتي بِتَحديثِ "الِبِطاقةِ المُوَحَّدَة" المُعتَبَر. وإذ أرشَدنيَ القائمونَ هناكَ الى حَجزِ موعدٍ للمراجعةِ يَمتدٌّ لشَهرٍ مَعهُ شَهَر. وإذِ أبانوا ليَ ألّا حَجزَ دونَ دفَعِ مبلغٍ ماليٍّ (أصُوليٍّ) مُقَدَّراً بِقَدر. فأسرَرتُ القَولَ باستِهجانٍ وبضَجَر؛
إنَّ هذا لأمرٌ وضيعٌ غيرُ مُحتَرمٍ ولا مُعتَبَر!
أمالاً عليَّ دَفعُهُ ثمناً لحَجزِ ميعادٍ مُنتَظَر!
لمَ المَال! علامَ المَال؟ لا أدري لمَ ! بيدَ أنِّي فَرَكتُ بيَديَّ ثمَّ تَرَكتُ الدَّائرةَ بِكَدَر، على أملٍ في عَودٍ اليها مُعتمِراً وملبياً بلبَاسِ إحرامٍ وطَنيٍّ مُبتَدَر، لباسٍ مِن عَلمٍ عراقيٍّ مُحتَضَر، حينَما تَكونُ المَناسِكُ في دائرةِ الجنسيَّةِ قد خَلَت من زحامِ حَجيجٍ مُستَعَر، فأحجُّ بلا عُسرٍ وأُكبِّرُ للعراقِ بِيسرٍ مُستَقَر.
أجل، تَرَكتُ الدَّائرةَ بِحَسرةٍ بل بِكَدَر، فَيَمَّمتُ وجهي شَطرَ "مصرف الرَّشيدِ" بتؤدةٍ ذاتِ بَصَر، لأستَلِمَ راتباً تقاعدياً بعدَما اكتَملَ الشَّهَر، لكنِ المَصرَفُ أمَرَني بدفعِ ٢٥ ألفَ دينارٍ ولعُذرِ الدَّفعِ قد طَمَر، ولمَّا سألتُ ردَّ عليَّ المُوظفُ بردٍّ قانونيٍّ مُختَبَر: "إنَّها أُجورُ المُعتمدِ ليَجلبَ لنا من هَيئةِ التَّقاعدِ صِحَّةَ الصُّدورِ لملفِكَ في ذا شَهَر".
لَعمريَ إنَّ هذا لأمرٌ وضيعٌ غيرُ مُحتَرمٍ ولا مُختَبَر!
أمالاً عليَّ دَفعُهُ ثمناً لصحةِ صُدورٍ مُنتَظَر!
لمَ المَال! علامَ المَال؟ لا أدري لمَ ! بيدَ أنِّي فَرَكتُ بيَديَّ وَدَفعتُ إجلالاً لقَداسةِ المَصرفِ في ذا دَهَر، فهوَ نَبعُ النَّهَرِ في ذا شهرٍ وفي كلٍّ شَهَر.
أنا أبداً، لن أصَرِّحَ بعدَ هذا السَّفَر، لدَائِرتَي الجِنسيَّةِ والمصرفِ بنَكدٍ وبِقَهَر؛
"تبَّاً لكَ يا وَطَن، يا أسَّ كلِّ كَمَدٍ مُعتَصَر" !
كلّا، وحَاشَا لوَطَني، وهوَ لمُقَليَ المَقَر..
فَوَطني حَوى الجَالغيَّ ودجلةَ، واحتَوى كُبَّةَ السَّرايِّ والقشلةَ، وشايَّ الشَّاهبَندَرَ المُقَدَّرَ بقَدَر.
كلّا، لا وَزَرَ، على وَطَنٍ رَوَى النَّجمُ حَرفَ العُنفوانِ المُستَطر، وَرَوى مِن ماءِ فُراتِهِ العاكِفُ والبادي والطَّيرُ والشَّجَر.
وَطَنٌ زَوى شَطَّ العرَبِ، وهوى طُرفَةَ بَصراويٍّ حينَ السَّمَر، ونَفرةَ كرديٍّ "نَه خبر"، وتلكَ نَفرةٌ لا تقبَلُ قسمةً إلّا على نفسِها بقَدَر.
في وَطَني ورُغمَ كلِّ هَمٍّ وغمٍّ وقَهَر، لم تزلِ التَّحيةُ تُلقى مِن على مَدِّ البَصَر، ولم تزلْ فيهِ ضحكةُ خَالتي بلا سَبَب، وعُبُوسُ عَمِّي لأدنى جَلَب، واستدانةُ جاري لدِينَاري بسَبَبٍ وبلا سَبَب.
وطني، وَطَنٌ أصيلٌ جَميلٌ وإن أمسَتِ الخُطى فيهِ كئيبةً وبِحَذَر، وأنا لن أنالَ مِنهُ ولو أضحَيتُ ناراً تلظَّى بسعر. وأمّا جنسيَّتي فلا تَثريبَ ولا ضرارَ ولا ضَرَر، وسأنقَلِبُ في قادمٍ بلباسِ إحرامٍ وَطَنيٍّ لأرميَ حِجاراتٍ على كلِّ مُوَسوِسٍ لي بهجرَةٍ وسَفَر؛
"لبَّيكِ يا بِطاقةً حمَّالةً للقَهَر"
***
علي الجنابي