أقلام ثقافية
أحمد صابر: حفيف النخيل (1): لبن مجفّف "الكليلة"
تنبئ عراجين النخيل بحلول فصل الخريف، وقد سارع بلحها الأحمر في التحول إلى رطب سوداء اللون، وتحول بلحها الأصفر الى رطب عسلية باللون الغامق أو المفتوح، مختلف أنواع تمور النخيل لا يأتي نضجها دفعة واحدة، فالتدرج سنتها من حيث النضج على طول فصل الخريف، إلا أن بعضها يتماطل في نُضجه حتى الأيام الأولى من فصل الشتاء، وأقصد هنا تمر النخيل الذي يسميه أهل الواحة بـ"الشّتوي" نسبة لفصل الشتاء. في آخر أيام الخريف تختفي مختلف العراجين، وقد تفاجئك نخلة شتوية يتيمة بعراجينها، وقد استعصى بلحها على أن يتحول إلى رطب بالرغم من حرارة الصيف وبالرغم من اعتدال حرارة الخريف، بلح لم ينفع معه حرُّ الصيف وكيف ينفع برد الشتاء، ومن الحمق عند أهل الواحة أن يفلح برد الشتاء في نضج تمار نخلة يتيمة، وإن حدث ذلك فهي علامة من علامة الساعة، القليل من حبات الشتوي التي تتحول إلى رطب، والكثير منها تبقى بلحا وقد اختارت لنفسها لونا مركب يجمع بين اللون الأحمر والأصفر والبرتقالي... حيلة الشّتوي وتهربه من أن يتحول إلى رطب وتمر، لا تنطلي على أهل الواحة، فهم لا يمنحونه فرصة طويلة أكثر من اللازم إذ يجنونه آخر أيام الخريف...
يسمح فصل الخريف لأهل الواحة بالسفر بعيدا أو قريبا، بعد تراجع حرارة الصيف ولهيبه، وهي فرصة لتجار الواحة وغيرهم، بأن يحمِّلوا دوابهم وعيرهم، بمختلف التمور وبالأخص الأنواع الجافة منها، متجهين بها خارج الواحة وخارج نطاق الصحراء، في اتجاه الشمال بالقرب من البحر الأبيض المتوسط، أو في اتجاه الجنوب، حيث يصبح لحبات التمر قيمة وثمن وافر، يمكِّن التجار من مقايضتها ببضاعة أخرى من قبيل الجوز واللوز والفول السوداني والشاي والقهوة والزعفران ومختلف الأثواب وبعض أنواع السجاد ومختلف أنواع الفخار، بالإضافة إلى حلي النساء من جواهر فضة وذهب ولؤلؤ وبلح البحر...
زاد الذين تعودوا على السفر بعيدا أو قريبا، داخل الواحة أو خارجها، الذي يسدُّون به رمقهم، يتكون من أطعمة جافة يلجؤون إليها، في الأوقات واللحظات التي يجدون أنفسهم داخل مسافات شاسعة خالية من السكان، حيث البراري المفتوحة أو المسالك الضيقة بين الهضاب والجبال...فعندما يستسلموا للتعب يحطوا رحالهم في أماكن يعرفونها كما يعرفون أصابع أياديهم، خاصة بالقرب من أحد الآبار، التي تشكل نقطة عبور، وتَزود بالماء، فمن العادة أن يُحَطَّ الرحال بالقرب من بئر من الآبار، لأن البئر أقل خطر من هجوم حيوان مفترس، فالحيوانات ترسخ لديها أنها تسير نحو نهايتها، إن اقتربت من كل مكان عرف بتردد البشر عليه. كما أن البئر له حرمة في أنفس الناس فقطاع الطرق، يتجنبون النهب والسلب بالقرب من الآبار، خوفا من أن ينازلوا قافلة ويباغتهم رجال قافلة أخرى قادمة في الطريق نحو البئر، فضلا على أن فعلتهم البئيس تنكشف بالقرب من الآبار، فعين المارة لا تنقطع عليها، فضلا أنهم هم بدورهم في حاجة إلى التزود بماء البئر، وربما أن ماؤه يشعرهم بالكف عن فعلتهم الدنيئة. والكثير منهم يخافون من أن تلحقهم لعنة مياه البئر...
غاية رجال القافلة هي الاستراحة ومنح فرصة من الراحة والأكل والشرب لدوابهم، وفي الوقت ذاته ملئ قِربِهم1 بالماء، والكثير منهم لا يستبدل ماء قِربته إلا بعد تذوق ماء البئر، فالماء في ثقافتهم لا يُستغنى عنه إلا بعد الوصول إلى مصدر ماء آخر وتذوقه، حينها يمكن استبدال القرب بالماء الجديد في حالة إن كان عذبا وأفضل مذاقا من غيره.
بالقرب من البئر اتسعت فروع شجرة طلح يبدوا عليها أنها ضاربة في القدم، فظلها متسع إلى أبعد حد، وبالقرب منها نخلة تصافح السماء وقد تفرعت بجنباتها أربع نخلات لا تضاهيها في الطول، كل هذا بفضل الماء الذي يسيح على الأرض عندما يفرغ كل ساق دلوه في قربتِه أو ما يسيح من الحوض الصغير الذي يتعاون الرعاة على ملئه لسقي قطعانهم من الغنم والماعز والجمال...
اجتمع الرجال من تحت ظل شجرة الطلح بشكل مشتت هنا وهناك، وقد استغل البعض منهم الفرصة لقضاء حاجته...وتوضأ الكثير منهم، والبعض استغل فرصة وجود الماء لغسل لثامه... ومنهم من وجدها فرصة ثمينة ليزيل الشوكة التي علقت أسفل قدمه وقد تحمل وخزها طيلة النصف الأول من النهار، وهو يتوقع لحظة وصول الجماعة إلى البئر لينقش عنها بالمنقاش من فوق جلد قدمه، ويضغط على جنباتها، لتنزلق إلى الأعلى من خارج جلده، بمساعدة أحد أقرانه.
وبعدها بلحظات، أحضر أمير رحلتهم مزود2 الزاد وقد استداروا حوله الى جانب إيناء دائري الشكل مصنوع من سعف النخيل، إنها وجبة مكونة من لبن مجفف ممزوج بمكسرات الجوز واللوز والتمر المجفف، تسمى "الكليلة"3. امتدت الأيادي الى وسط الإناء، وقد كشف البعض منهم عن وجهه المخفي من وراء اللثام، كف الكل عن الكلام وعن القيل والقال وانهمك الجميع في ملئ الأفواه، وقد أفرغ الإناء ولا أحد منهم رجع إلى الوراء، فعينهم على المزود، وإذا بالأمير يفهم قصدهم من نظرات أعينهم، فلا أحد منهم تجرأ بطلب الزيادة، ليس خوفا، وإنما أدبا وتقديما للقناعة عن الشَّبع والاكتفاء، وإذا بالأمير يقرّب المزود إليه ويفكُّ عقدة رباطه التي تحفظ ما بداخله، وقد ملأ الإناء مجددا، انخرطوا في الأكل مجدا، ونطق بعضهم الحمد لله عليها نعمة...
لم تطل وقت الاستراحة هذه، فقد أخذت وقتا قصيرا، إلى درجة أن جلَّ الدواب بقيت محملة، فعند الزوال ترك الجماعة المكان مستمرين في المسير في اتجاه المكان الذي سيكون فيه مبيتهم، وهم في المسير بين التلال الرملية المنحدرة التي تستوي مع سطح الأرض وبين الأحراش التي يتخللها نبات "الدِّيس" وقد اصفر لونه، وتغطيها في أكثر من نقطة نبتة "أم اللبينة" ونبتات صحراوية أخرى... تبدوا شجرة الطلح الضخمة من ورائهم وهي تبتعد شيئا فيشيئا، ويتقلص حجمها مرة بعد مرة حتى اختفت عن الأنظار، وقد سارت معلما يدل على البئر من مكان بعيد، فاختفاؤها بالكامل ينبئهم عن اقتراب دخولهم منعرجا جديدا في الطريق الذي اقترب من الوصول إلى سفح الجبل الذي يحيط بالمكان من كل جانب، ويبدوا من البئر بلونه الأزرق الداكن الذي يلتقي بزرقة السماء، فعنده تتوقف رؤية البصر الممتدة في الأفق البعيد، فكل من ارتوى من ماء البئر، وأخذ لنفسه وقتا قليلا للراحة تحت الظلال المشتبكة أرضا بين ظل شجرة الطلح الكبيرة والنخلة التي تفرع عن جذعها أربع نخلات أخرى، تأسره زرقة الجبل بمنظرها الجميل، ويأخذه نوع من الفضول لمعرفة ما الذي يا ترى يحجبه الجبل عن الأنظار، وما الذي يخبئه داخل جيوبه الصخرية الكبيرة، فكل ما تخشاه الجماعات في سفرها وتحتاط من أجله هي مباغتة قطاع الطرق، الذين اعتادوا أن يتخذون من جيوب الجبال موطن تَخفِّي تحجبهم عن الأنظار.
في هذا الوقت بالذات الذي غادرت فيه الجماعة البئر، حطَّ جماعة من الناس رحالهم، بداخل الساحة الرئيسة للقصبة، البعض منهم من الذين يبيعون ما تحتاجه نسوة الواحة من عطور وصباغة تقليدية للزينة، والآخرين منهم مختصين في بيع الأواني الفخارية المزركشة بمختلف الألوان، البعض منهم يبيع بضاعته بمقابل نقدي، والبعض الآخر يقايضها بأنواع من التمر، والبعض الآخر يقايض بضاعته بالشعير أو القمح... وهي مقايضة لا يهمهم فيها التمر أو القمح بعينه، بقدر ما يهمهم الفضل الذي تجلبه معها المقايضة، وهي عملية تجعل البيع يتحقق بشكل سهل بين البائع والمشتري، فنسوة الواحة ليس بحوزتهم الكثير من النقود، بينما بحوزتهم وتحت تصرفهم بيوت خزين أسرهم، فهم يلجؤون إليها ويأخذون ما يلزمهم من الحبون والتمر، خفية عن أعين رجالهم، أو بعد استأذناهم، فقبل غروب الشمس يملأ التجار أوعيتهم، يقصد البعض منهم، أحد الدكاكين، بهدف استبدال الحبوب والتمر... بثمن نقدي وهم على يقين بأن تجارتهم رابحة ومثمرة.
... يتبع ...
***
بقلم: د. أحمد صابر
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
..........................
1- القِرْبَة (الجمع: قِرَب) هي وعاء أو كيس من جلد الماعز أو البقر لاحتواء السوائل وتستخدم عادةً لحفظ الماء وتبريده
2- المِزْوَدُ: وعاء من جلد ونحوه يوضع فيه الزاد
3- "الكليلة" من مشتقات الحليب، أصل تسميتها يعود إلى كلمة "كلّلْ" المتداولة في والتي تعني انفصال السوائل عن المواد الصلبة وتشكل كثل بروتينية إما في الحليب أو اللبن، تحضر الكليلة بإضافة القليل من الملح إلى اللبن، يسخن على نار هادئة حتى يتخثر وتتجمع الكتل الصلبة وتنفصل عن السوائل، ثم يصفى بمصفاة ملبسة بقماش رفيع. تحزم القماشة حول المواد الصلبة وتعلق لتتصفى من السوائل، ولتجفيف الكليلة توضع في مكان مهوى ومظلل حتى تجف كليا ويتم الاحتفاظ بها لاستهلاكها في أي وقت، مع إضافة مختلف مكسرات الفواكه الجافة ومكسرات التمر المجفف