أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (7): مرياع القطيع

طيلة أيام فصل الربيع وقبله بأيام، يقضي أهل الواحة وقتا طويلا، وهم يقتلعون مختلف الأعشاب والنباتات الدخيلة على زروعهم، حيث يظهر النصف العلوي من الرجال والنساء أحيانا، بينما النصف السفلي تحجبه عنك سيقان الزرع، وكلما انحنى بعضهم، إلا واختفى عنك داخل الزرع، ولم تعد ترى له أثر، وإذا به لوهلة قليلة ويده ترفع قبضة مما اقتلعه من النباتات، بعد جذبها بقوة وصلابة إلى الأعلى، وهي حركة تجعل صاحبها، على استعداد ليستوي واقفا بعد هزيمة جذور النباتات التي تكون أكثر تمسكا بتربة الأرض المبلّلة.

في أول وهلة يمتلكك نوع من التعاطف، مع مختلف هذه النباتات التي تقتلع من الجذور بهذه الطريقة، أليس لها حق النمو، لكن بعدها يخطر ببالك سؤال مفاده؟ من أُعدت من أجله الأرض وأفرشت له لينمو ويثمر؟ الزرع أم غيره من النباتات؟ يأتيك الجواب حينها بأن مختلف تلك النباتات، دخيلة على الأرض، ويمتلكها الطمع، وإذا بها تضرب بجذورها في عمق التربة أكثر من جذور الزرع، بهدف محاصرته من، والتضييق عليه، إنها خطة خفية تهدف إلى الاستلاء على المكان، فعنما تتسع جذورها تحت التربة، تصير سيدة الموقف، إنها حرب الجذور، من افتقد جذوره فلا مستقبل له. المزارعون يفهمون هذه القاعدة جيدا، فلا رحمة ولا تساهل عندهم مع النباتات الدخيلة، وقد مرت معهم الكثير من التجارب، من بينها، منهم من كان يظن خيرا في بعض النباتات الدخيلة، وقال في نفسه من حقها أن تنموا إلى جانب الزرع، إنها نباتات لطيفة، وقد تتعايش مع الزرع، ترتوي بالماء مثله، وتستمتع بأشعة الشمس كما يستمتع... لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، عندما يتمكن نبات من النبتات أن يترعرع وتشتبك جذوره مع جذور الزرع، لا محالة أنه سيتقوى وتتسع مساحته، ويصبح سيد الموقف، والزرع إلى جانبه  يصبح ضعيف الهيأة والمنظر.

أمر عجيب، ما يجري في الطبيعة، يصدق على الإنسان، في الواحة وفي كل مكان. ولا شك، قد بلغك حديث وقصة ذلك الشعب الذي كان قدره أن يعيش، اختيارا منه، حياة الشتات في مجال واسع عبر العالم، وهو قدر أختاره لنفسه عن طواعية دون أن يكرهه عليه أحد، إذ وجد في الشتات مسلكا للعيش الرغيد، ووجد لنفسه مجالا واسعا من الحرية، فأهل الواحة يعرفون هذه القصة جيدا، إذا عاش هؤلاء بين ظهورهم لوقت طويل. وقد استغل هؤلاء فجوة من الزمن والتاريخ، وإذا بهم يتسللون من كل مكان بأسماء مستعارة حينا، وبوجوه مقنعة حينا آخر، إلى أرض ليست لهم، وقد أعانهم ودفعهم آخرون ليكونوا لهم خدما من أجل تحقيق مصلحة خاصة بهم، وبعد أيام وسنوات ادعوا بأن الأرض أرضهم، وأشجار الزيتون والنخيل لهم، دون غيرهم من الذين استضافوهم، ومن حمقهم وجنونهم، أنهم يمانعون في أن يعيش معهم أهل الأرض الذين استضافوهم أول مرة، وإذا بهم يضربون بجذورهم في قاع الأرض التي ليست لهم، وهم في خوف مستمر، من حالة الاقتلاع التي ستلحق بهم، لأنهم على يقين بأن وجودهم يرتبط بدعم غيرهم، ولا شك أن دورهم الذي يدعمون من أجله سينتهي عاجلا أو آجلا، وقد تتعالى الآن صرخات البعض منهم، لا حياة رغيدة لنا إلا في الشتات. فمصير النباتات الدخيلة إلى زوال واندثار وشتات، أما بذور الزرع فهي محفوظة على طول الزمن، ولم نسمع يوما ما أن بذور الزرع قد اختفت واندثرت، داخل الواحة وخارجها، بينما النباتات الدخيلة فهي إلى زوال، بفعل قوانين الطبيعة، وبفعل الزراع الذين يقتلعونها من الجذور.

مختلف النباتات التي تم اقتلاعها من الجذور، يتم تجميعها وحزمها بحزام من سعف النجيل، ويرفعها الرجل على رأسه، يد تمسك بالحزمة من فوق الرأس، ويد أخرى إلى الأمام مرة وإلى الوراء مرة أخرى، فالرجل على هذه الحال وهو يحمل على رأسه ما يتجاوز ثقله الخمسة عشر كلو غرام وأكثر، ما كان على المارة إلا أن يفسحوا الطريق أمامه، وهو على هذه الحال، سيقطع أقل أو أكثر من أربعة كلومترات، ها هو الآن، يدفع خطواته إلى أبعد مدى، وإذا به وصل إلى جدار على جانب الطريق بعلو مترين، إنها فرصته التي يتوقعها في خاطره ويتمنى أن يصل إليها، قبل أن يرفع الحزمة على رأسه، ها هو الآن يقترب بجانبه الأيمن إلى الجدار، وإذا به يتكئ عليه، وبحرفية عالية يجعل الحزمة تتسرب من فوق رأسه لتأتي على سطح الجدار، يجلس الآن ليستريح ويسترجع طاقته ويعود بعدها ليستمر في طريقه بعد أن يعيد الحزمة على رأسه. وعند وصوله يلقي بها وسط ساحة الدور السفلي من البيت، ويفك الحزام، وإذا بالنعاج والماعز المضطجعة، في أحد جنبات المكان، تقفز من مكانها وتقصدها وهي تتسابق نحوها بشكل جماعي، يغلق الرجل الباب، تاركا النعاج والماعز وراءه وهي تستمتع بوجبتها المفضلة.

عندما تكلف نفسك بجلب القوت والكلأ إلى الماعز والنعاج، فأنت تعودها على التواكل والكسل وكثرة الصياح، فكلما أحست بحركة من يمشي بالقرب منها وراء الباب، أو سمعت كلام متحاورين بالقرب منها، إلا وأكثرت من الصياح بشكل مرتفع، فعنما يتداخل صوت "ثغاء" النعاج والخرفان بصوت "نبيب" الماعز فأنت أمام إيقاع موسيقي يجمع بين، صوت الماعز الرقيق والسريع، وبين صوت يتصف بالبطيء والثخانة وهو صوت الخرفان والنعاج، وقد ينضاف إليها صوت خوار بقرة الجيران...

الماعز والنعاج في هذه الحالة تضعك في حالة من الحرج، فأنت لم توفي لها بطلباتها، شيء يصد صياحها، وهو الجري داخل المراعي الفسيحة، ففصل الشتاء الذي يحلو لها فيه أن ينكمش بعضها في بعض، بفعل البرد القارس، قد ولى وانتهى، حتى أصوافها من أعلى ظهورها تسبب لها نوع من الانزعاج، وكم هي في حاجة لتتخلص منها. هذا النوع من النعاج والماعز، عندما تصاحبه إلى المرعى ففي اليوم الأول، سيتيه في المكان، ولا يعرف إلا الجري تلو الجري، لا يعرف كيف يمدد رقبته ورأسه إلى الأرض، وأعينه تقوده إلى كل لون أخضر من أعشاب الأرض، سيجد نفسه عاجزا عن تتبع الكلأ وجزه أو اقتلاعه بالأسنان والشفتان من الأرض، هذا النوع تعود أن يأتيه الكلأ بدل أن يأتي هو إليه، تعود على مضغ واجترار الكلأ بدل جزه واقتلاعه... يا الله هذا النوع في حاجة إلى دروس وتدريب على الرعي.

أهل الواحة، في القصور والقصبات لا يفوتون فرصة رعي نعاجهم وماعزهم، فإلى جانب ملكية الحقول والبساتين، يملكون عشرات النعاج والماعز، إلى جانب بقرة أو اثنتين بالنسبة للأسرة الواحدة، ففي فصل الربيع يجمعون نعاجهم وماعزهم وإذا بها تتحول إلى قطيع كبير، يتولى مهمة رعيه ثلاثة أشخاص أو أربعة من أهل القصر أو القصبة، يصطحب القطيع إلى المرعى في الصباح الباكر ويعود به في المساء قبل غروب الشمس، ليتولى مهمة الرعي في اليوم الموالي أشخاص آخرون بالتناوب. بينما الذين يمتهنون الرعي وهو حرفتهم الوحيدة، إذ يتناوب أهل الأسرة الواحدة على مدار السنة على رعي قطعانهم وهم يجوبون جنبات الواحة في الصحراء.

يظن البعض أن مهمة الراعي مهمة سهلة ولا تكلف صاحبها شيئا، وكثير من سخروا من مهمة الرعي والراعي، ففي نظرهم، الراعي يتكئ تحت ظل شجرة ويعزف كثيرا على الناي، وقطيع غنمه إلى جانبه، طعامه مخبأ في محفظته بالقرب منه، قد يحلب الحليب بالقدر الكافي كما يريد. فهذه صورة رومانسية جميلة، فالراعي يستحق هذه الصورة وأكثر، لكن حقيقة الأمر شيء آخر. الرعي بين الجبال والتلال العالية والهضاب المخضرة، يختلف كثيرا عن الرعي في الصحراء، فمن بين ما ينتبه إليه الراعي في الجبل، هو الحذر كل الحذر من أن يتجه القطيع في فخ منطقة وعرة منحدرة جنبات الجبل فينزلق بدفع القطيع بعضه بعضا، ويسقط من الأعلى نحو الأسفل وسط الوادي. بينما الراعي في الصحراء أهم ما ينتبه إليه، هو ألا يتفرق قطيعه ويأخذ اتجاهات مختلفة، ويبتعد بعضه عن البعض الآخر، وهي حالة قد تجعل البعض منه يتيه في الصحراء، الراعي في الصحراء يحرص على التحكم في اتجاه القطيع، وإلا تشتت أمام أعينه، ويصعب عليه تجميعه، فالقطيع الكبير، يصحبه أربعة أفراد أو ثلاثة واحد يسر ببطيء على يمين القطيع وآخر على يساره، وواحد أو إتنان من الخلق.

يتقدم القطيع الخروف أو النعجة "المرياع" فالقطيع يحبه ويسير خلفه دائما، لا ينبغي الاعتماد كليا على "المرياع" فهو لا يلتفت إلى الوراء، أحيانا لا يهمه هل القطيع يلحق به أم فارقه في السير نحو اتجاه آخر. "المرياع" بقدر ما يتبعه القطيع ويجتمع حوله، ويسير وراءه، يحتمل أن يأخذ القطيع إلى نقطة ضياع وتيه في الصحراء، "المرياع" يعتمد عليه بأنه يتقدم القطيع، لكن هل هو على وعي إلى أين يقود القطيع؟ والقطيع هل هو على وعي إلى أين يتجه به مرياعه؟ والغريب أحيانا، عندما تجد القطيع في بقعة خضراء وسط شعاب الصحراء، وإذا بالمرياع يأخذها في اتجاه كثبان الرمال!!  يا الله مرياع بليد يقود أخوته لتبتلع حبات الرمال!! وكيف للقطيع أن يلحق به؟ الرعاة في الصحراء لا ثقة لديهم في المرياع، حقيقة الأمر أنهم يستغلونه وهو يتقدم القطيع.

في الزوال يجتمع الرعاة تحت ظل شجرة عالية من الطلح، وأعينهم على القطيع، يخرجون من محافظهم الجلدية المحمولة على أكتافهم، حبات التمر، يعدون الشاي، بعد إيقاد النار، يأكلون قليلا من الخبر المدهون بقليل من العسل. المكلف منهم بحمل "قربة" الماء استراح الآن من عبئها طيلة الوقت، السماء صافية، الجبال البعيدة تبدو بلون أزرق يلتقي بزرقة السماء، من الجانب الآخر تبدوا كثبان الرمال المسطحة هذه المرة ممتدة الأطراف، لا حدود لها، فزرقة السماء تلتقي بلونها الذهبي. الرعاة في جلستهم وحديثهم المستمر، أقترب منهم أحد كلابهم وإذا بهم يصرفونه، بعيدا... وإذا به ينبه بالقرب منهم ويكثر في النباح، قام البعض منهم من مكانه ولمحت أعينه (ابن آوى) وأهل الواحة يعرفونه باسم الذئب، يتسلل من بعديد إلى وسط القطيع، انطلقت الكلاب وهي تجري نحوه، وقد طاردته بشراسة، اختفى بدوره هاربا بين الشعاب وأشجار الطلح والسدر، اختفى ولم يعد له أثر. مرياع القطيع لا يعلم شيئا عن الخطر الذي كان يهدد القطيع، وقد وجهه الرعاة الآن في اتجاه طريق العودة نحو الواحة وقصورها، خطة الذئب (ابن آوى) معروفة عند الرعاة من أهل الواحدة، إنه يتسلل داخل القطيع ويقتل ما تمكن من قتله، ليختفي بعد ذلك، ويعود بعد أن يخلو المكان إلى فرائسه، الذئاب في الصحراء تكون أكثر جشعا، إن اختلت لظرف معين بالقطيع فقد تأتي عليه بالكامل، الذئب ليس كباقي المفترسات، فهو لا يكتفي بقتل واحدة، يحلو له قتل القطيع بأكمله. إنه سلوك مثير للاستغراب، قتل العشرات من النعاج وفي الأخير أكل واحدة!! ولهذا فالذئب موضوع للحكايات عند أهل الواحة.

الرعاة الذي يحترفون الرعي طيلة فصول السنة، وهم يرتحلون من مكان إلى آخر، بين شعاب وكثبان رمال الصحراء، أكثر ما يواجههم هو الخطر الحاذق بهم من كل جانب تسلل الذئاب الى قطعانهم، ولهذا يملكون ما يكفي من الكلاب لتصدّ أي هجوم محتمل. لكن مشكلتهم هذه الأيام لا تكمن في خطر الذئاب، إنها مشكلة الكلأ الذي ضاقت مساحاته في جوف الصحراء، نتيجة فقدان قطرات الماء، التي تخلف وراءها  بعض من السيول هنا وهناك...وهم في هذه الحال يوجهون قطعانهم، اتجاه الواحة لتقتات على ما تبقى النباتات والشجيرات جانب النهر الكبير، وهي حالة يتضايق منها البعض من أهل القصور والقصبات داخل الواحة، اليوم لم يعد لحياة الترحال وجود إلا فيما هو نادر، كما أن الرعي سار محدودا، في مجالات ضيقة.

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

في المثقف اليوم