أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (3)

بحلول فصل الربيع يعرض النخل عَراجينُه التي تحمل التمار، وهي من النَّخْل كالعنقودِ من العنب، وأهل الواحة يسمونها أعراش. كما أنهم لا يرون في النخلة بأنها شجرة كباقي الأشجار، إنهم يرون فيها أنها مفارقة لكل الشجر، الأشجار الأخرى في تصورهم مثل الزيتون والرمان والكروم... تأتي في الدرجة الثانية بعد النخيل، فلا حياة داخل الواحة في نظرهم دون شجرة النخيل، ولو اتسعت المساحة والمجال لمختلف الأشجار، فليس هناك شجرة تحل محلها، الواحة هي النخيل، والنخيل هو الواحة، فلا وجود لطرف دون آخر.

النخيل يأتي ثماره من أعلى رأسه. فالرأس عند النخلة هو كل شيء، الجذع كله في خدمة الرأس، النخلة لا تتوفر على أغصان وفروع وأوراق تفقدها في فصل الخريف كباقي الأشجار، النخلة لها بضعة صفوف من الجريد تحتضن به ثمارها، وتوفر به الحماية لرأسها، وقد تستغني عن صفوفه السفلى في نهاية كل موسم فلاحي. فصل رأس النخلة عن جذعها يعني نهاية حياتها المحتومة، بينما الجزء الكبير من الأشجار قد يستمر في الحياة ولو فصلت جذوعه على مختلف فروعها وأغصانها، ما لم يقتلع من الجذور.

النخلة لا تفيدها الجذور في شيء إن تم فصل جذعها عن رأسها، وهي حالة شبيهة بوضع مختلف الكائنات الحية التي لا تقوم لها قائمة بفصل رأسها على جسدها. فأول ما يتضرر من النخلة هو الرأس وجريدها نتيجة شدة العطش أو نتيجة مرض يحل بها مثل مرض البيوض، الذي يأتي النخلة بدءا من أعلاها، فإن إحتضر رأسها وجفت آخر جريدة منها، فقد انتهى أمرها بالكامل، ولا ينفعها جذعها وجذورها الأرضية في شيء، باختصار نبض حياة النخيل يقع في الأعلى من رؤوسها، وكل الأعراض السالبة أو الإيجابية تظهر من خلال جريدها، فجريد النخلة كأنه وجهها الذي يعكس مختلف ملامحها، فرحها في حالة الارتواء والاخضرار والغنى، وحزنها في حالة من مرض أو في حالة من العطش الشديد، كذلك هو الإنسان حالته تقرأها من خلال جبينه.

مرض البيوض من الأمراض التي تفتك بالنخيل في كل مكان، وهو عبارة عن نوع من الفطريات المجهرية، ينتج عنه جفاف صفوف الجريد السفلي للنخلة وتتبعه الصفوف التي تليه حتى آخر جريدة من قلب رأس النخلة، في حين تبقى الشتلات التي تنمو قرب النخلة المصابة سليمة، وهذا ما يميّز البيوض عن الجفاف. البيوض يأتي على نوع بعينه من أشجار النخيل ويتنقل عبره بشكل سريع، وقد يكون أثره قليل المفعول على أنواع أخرى من النخيل، وقد حاول أهل الواحة محاربة مرض البيوض بحرق جذوع النخل المريض، بيد أن هذا الأمر غير مجدٍ لأن الفطريات المسببة للمرض تعيش على الجذور وتنتقل بوساطة التربة.

حرق جذع النخيل بهدف الشفاء تبدوا غريبة، وقد أتت أكلها في حالات قليلة، ولكن من أين لأهل الواحة بهذه الفكرة؟ فإذا نظرنا إلى حيات أهل الواحة نجد النار حاضرة بشكل كبير في العلاج لديهم، من خلال الكي بالكبريت وغيره في حالة من أصيب بفدع في اليد أو الرجل وفي حالة الكسر... ويستعمل الكي بالأغصان السميكة جدا لشجرة الرمان أو الزيتون، في علاج أمراض أخرى من بينها فقر الدم... وهذه مسألة لها أهلها، ممن يعرفون مفاصل الجسم، والتي تحتاج الكي والتي ينتج عنها ضرر، فالعلاج بالنار بواسطة الكي عند أهل الواحة يشمل الدواب كذلك، فليس من الغريب حرقهم لجذع النخيل لطرد مرض البيوض. مع الأسف ليس هناك اهتمام وعناية كافية بالبحث في علاج يحد من مرض البيوض.

من أعلى الرأس تتفتح عراجين التمر، ففي الأول تظهر على شكل حبات عقيق سميكة منظومة في خيوط متوازية، ومربوطة إلى وريد (عصا) يمتد إلى قلب رأس النخلة من وسطها العلوي، وعندما تنمو بعض الشيء فهي في حاجة إلى التأبير. فطيلة فصل الربيع تجد أعين أهل الواحدة مشدودة إلى الأعلى تتطلع وتراقب رؤوس النخيل وصفوف وجريده العلوية. ومنهم من يفضل الصعود إلى ربوة تطل على أشجار نخيله، ويتفقد الوضع عن قرب، وهو يخمن مع نفسه يا ترى هل النخيل سيعرض ثمارا وافرة هذا الموسم، أم أن ثماره ستكون أقل من الموسم الفارط، وكيف له أن يعرض ثمارا كثيرة، وهو يظهر في حالة شاحبة الوجه والمنظر، لأن قطرات المطر لم تزره طيلة موسم كامل. إننا نحمّل النخل أكثر ما يحتمل، نتطلع إلى العراجين المليئة بالتمر، والنخل لم يرتوي ماء منذ زمن طويل...

قصة تأبير النخيل[1] تزيد أهل الواحة نوعا من الاعتزاز بالبيئة التي تحتضنهم، وتأخذ أذهانهم إلى زمن بعيد، زمن لا يعرفون عنه الكثير، ولكنهم يتصورون بيئة ذلك الزمن شبيهة ببيئتهم في كل شيء، كثيرة هي الأحاديث التي وردت في حق النخيل، فالنخلة في مدونات الحديث تدور في مدار تشبيه الإنسان الصالح بها، فالنخلة لا تأكل إلا طيبا ولا تضع إلا طيبا. فالمؤمن مثله مثل شجرة النخيل التي لا يسقط ورقها. وفي القرآن ذكرت النخلة والنخيل ومن أبرز ذلك ما ورد في حق مريم أم عيسى قال تعالى: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) (مريم) النخلة هنا مصدر حماية ونجاة لمريم وولدها عيسى، وقد نداها وهو صبي بأن تهز بجذع النخلة، لتأمن غداءها، أية نخلة هذه وأي نوع من النخيل والتمر هذا، وفي أي مكان احتضن ذلك؟

النخيل منه الذكر ومنه الأنثى، والذكر يلقّح الأنثى، فموضوع اللقاح بين مختلف الأشجار حسب النوع سارية في الطبيعة، وقد تقوم الحشرات بهذا الدور من بينها النحل، وقد تلعب الرياح هذا الدور. ورد في القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ (الحجر/22) الحشرات لا تقوم بهذا الدور بين النخيل الذكر والأنثى منه، كما أن الرياح لا يترتب عنها هذا الدور إلا في حالات نادرة، كأن يكون ذكر النخيل بالقرب من الأنثى. تلقيح وتأبير النخيل مهمة يتولها الإنسان وقد أبدع فيها كثيرا، وقد تحولت لديه إلى علم تجريبي توارثته الأجيال. الغريب أن أهل الواحة لا يهتمون بشأن الذكر من النخيل كأنه لا يهمهم في شيء، فكل اهتمامهم يدور حول الأنثى التي تأتي بالتمار، فدور فسيلة الذكر هو التلقيح فقط.

ففي فصل الربيع يخرج الذكر من النخيل عرجون مغلق على بعضه، يتفتق بعد أيام، وبداخله فسيلات عديدة مليئة بغبار كثيف أبيض اللون مثل الدقيق، وكل تلك الفسيلات مربوطة إلى وريد (عصا) يمتد إلى وسط أعلى رأس النخلة (الذكر) بين الجريد. جني عرجون التأبير هذا يتم جنيه وجذّه بعناية، وينبغي الحفاظ على المادة المسحوقة بداخله التي تتطاير بشكل سريع في الهواء. يتم فك الفسيلات بعضها عن البعض الآخر، وهي التي تغرس في عراجين النخلة الأنثى، وبهذا تتم عملية التلقيح والتأبير. وتقتضي الضرورة اصطحاب قفة صغيرة إلى أعلى رأس النخلة الذكر منها أو الأنثى، بهدف الحفاظ على الغبار المسحوق داخل الفسيلات بهدف نقله الى النخلة الأنثى، وقد يتسرب عبر الهواء داخل حبيبات عراجين النخلة التي تنمو أسبوعا بعد آخر، حتى تتحول إلى رطب، ومن بعده إلى ثمار.

تأبير النخيل مهمة لا يقوم بها إلا من خبرها، فهي اختصاص وصنعة، تجعل من صاحبها يفهم جيدا طبيعة أنواع النخيل والفرق فيما بينها، ويمتلك فراسة تجعله يميز بين مختلف أنواع النخيل من خلال شكل سعف جريده وطبيعة أشواكه وجذوعه... فهناك أنواع من النخل يكفي تأبير كل عراجينها مرة واحدة، وهناك أنواع أخرى تقتضي تأبير كل عرجون لوحده، عندما يحين وقته، ومعرفة ذلك يتم من خلال طبيعة حبات العرجون من جهة تبدل لونها من البياض إلى الصفرة أو من البياض إلى اللون الأخضر... وهذه مسألة تجعل صاحبها متمرن على صعود رؤوس النخيل، دون كلل ولا ملل. ويصاحب مهمة الصعود لتأبير النخيل الكثير من الأذكار والابتهالات والصلاة على الرسول... بألحان وأصوات شجية.

مهمة تأبير النخل تتداخل بشأنها مجموعة من المكونات، منها ما ارتبط بالطبيعة ومنها ما يرتبط بالمعرفة الاجتماعية والخبرة الفلاحية التي تشكلت طيلة السنين، ومنها ما يرتبط بالتأبين ذاته وما يستوجب من الأدعية والأذكار، وما ينبغي أن يتصف به صاحبه هذه الصنعة وما ينبغي أن يكون عليه بين الناس من حسن الخلق والمعاملة. فأهل الواحة مرة أخرى لا ينظرون إلى التمر بأنه فاكهة من بين مختلف الفواكه، ففي أذهانهم ومخيلتهم التمر ليس كذلك، فهو غداء كامل، ووجبة لها وقتها الخاص في اليوم طيلة السنة، تحل ما بين الفطور والغداء وفي الصباح الباكر بين الحين والآخر. طقس تأبير النخل يبدأ على يد من شهد له الناس بصلاحه بينهم، وله ما يكفي من الخبرة والتجربة ليتعامل مع تأبير النخيل بالقدر والمقدار المطلوب. إذ لا زيادة ولا نقصان في التأبير، فالزيادة فيه أكثر من اللازم تضر بالنخلة وبالتمر معا، فالنخلة قد تفرغ كل جهدها، وتأتي العراجين مليئة ببلح وتمر سميك جدا، خالي من الفائدة... ولا يصلح إلا لعلف الدواب... ولهذا فمهمة تأبير النخل قد تتوارثها وتتولاها أسر بعينها داخل الواحة.

عندما يحل فصل الربيع يتنقل داخل الواحة المختصين في حدادة المناجل المسننة المعكوفة الرأس، وهي بطول يتراوح ما بين عشر أو خمسة عشر سنتمترات من حديد مغروسة في قبضة يد خشبية، وتستعمل في قطع مختلف الحشائش والزروع. وتستعمل كذلك في جزِّ الفِصَّة، وهي جنس نباتي يتكرر نموه كلما تم قطعه، ويعتمد عليها في علف الأبقار والغنم... فعندما يعمّ الماء كل أرجاء الواحة، تجد الكثير من بساتين الواحة مليئة بالفِصَّة على طول السنة، وتجز في الصباح الباكر وقبل غروب الشمس من كل يوم.

وهناك مناجيل كبيرة مثل السيوف، معكوفة الرأس وهي بطول يقل على نصف متر من الحديد الحاد بعناية فائقة، مثبتة على مقبض خشبي بطول عشرين سنتيم أو أقل منها أو أكثر منها بقليل. وتسمى بـ (تامسكرت) وهي مخصصة لتقليم مختلف الأشجار بما فيها مختلف أنواع جريد النخيل، كما أنها تستعمل في قطع عراجين التمر، فضلا على أن أهل الواحة اتخذوا منها سلاحا لهم، يحميهم من مختلف الوحوش التي تسرق منهم بعض من مواشيهم ليلا مثل ابن أوى وهو من فصيلة الذئاب، ومثل بعض الكلاب الضالة التي تعترض طريقهن أحيانا، وهم في وقت متأخر من الليل في جوف الواحة، في حراسة أو في مهمة تسهيل جريان الماء بين جداول الواحة...

أهل الحدادة وهم يطوفون مختلف التجمعات السكنية داخل الواحة من قصر إلى قصر ومن قصبة إلى أخرى... يكتفون ببرد وسقل مختلف المناجل والسكاكين والفؤوس...أما صناعتها فهي تتطلب منهم أن يعودوا لمقر سكناهم، حيث لديهم أفرنت تذويب الحديد وتفريغه كما يريدون، فهم أهل الصنعة التفنن في مختلف أنواع الحدادة المعروفة في الواحة بما في ذلك صياغة مختلف شباك النوافذ التي يستعملها أهل الواحة في مساكنهم.

... يتبع....

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

......................

[1] عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل، فقال: (لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصًا) - تمرًا رديئًا - فمر بهم، فقال: (ما لنخلكم؟)، قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) رواه مسلم

في المثقف اليوم