أقلام ثقافية
توفيق التونچي: نصرت مردان والموت بحسرة الوطن
اهوى صعدائك في القوريات*
برحيل الأديب نصرت مردان تفقد مدينة كركوك احد ادبائها من جيل ما بعد جماعة كركوك الادبية عاصر معظم اعضاء الجماعة وكان صديقهم ولكونه ينتمي الى عائلة معظم ابنائها من الادباء والشعراء والفنانين اخيه المرحوم محمد مردان كان احد شعراء المدينة وكذلك اخته المرحومة ليلى مردان وزوجته السيدة سلمى مردان كما ان اخيهم المرحوم بهجة غمكين كان موسيقارا. العائلة تركت ميراثا ادبيا تفوح منها طعم المدينة واحيائها. الكتابة عند الأديب والشاعر والمترجم نصرت مردان يوازي أهمية الماء للأسماك. البحر ها هنا، وطن يسمى مدينة النار والنور والقصيدة الضوئية "كركوك " المدينة التي ولد فيها عام ١٩٤٨.
ان تكتب في تأبين صديق رافق جزء من سنوات حياتك يعيد ذكريات نصف قرن من الزمان. حين بدا المرحوم بفك أسرار الكتابة كتب قصة قصيرة ترجم فيه شعوره نحو فدائيي فلسطين وهو يرى تجمعهم تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية أوائل الستينيات. وعلى عادة ادباء ذلك الزمان قرر إرسال قصته للنشر في بيروت. طبعا كان عيون الرقيب حاذقا فمسك بالرسالة بمهارته المعهودة في الشرق واقتاد بكاتبنا الى الغرف الأمن السرية والمظلمة ليسأله ويستفسر عن سر تلك الشفرات السرية المرسلة من قبل الفدائيين في القصة التي كتبها والتي كان الفدائيين يتواصلون ويتخاطبون بها بينهم. طبعا كل تلك الشفرات كانت من وحي خيال الكاتب. أين الأدب الرفيع من رجال الأمن الجهلة حتى النخاع. طبعا بعد التحقيق الممل وتدخل الطيبين بالواسطة اخلي سبيل المراهق نصرت وعاد الى بيته تائبا على ان لا يعاود الكتابة ب "الشفرة ". ليس هذا مجرد قصة رواه لي صديق دراستي الجامعية والذي سكنا معا في نفس البيت لسنوات، بل احداها فقط منبين سلسلة من المحطات في حياة الشاعر الرهيف الذي احب الحياة لان فيها "سلمى" وأحب العراق لان فيها سومر وفرات وبقى على سجيته الرومانتيكية يكتب على قطرات المطر اماله شعرا . كتب لي يوما يقول:
انا ضال والقلب ثمل
اتكسح في الحانات
لأني افتقدك
بعد ان اكمل دراسته الجامعية في مدينة ازمير الساحلية عمل مترجما في الملحقية الثقافية العراقية في انقرة والتي كانت فارغة من الثقافة بدونه.بعد دراسة الماجستير عاد الى العراق ليعمل في جامعة صلاح الدين وهنا مرة اخرى احبه الدارسين والتدريسيين وساهم في الحياة الثقافية مع زوجته النبيلة. ثم جائت الأحداث فسقطت أربيل عاصمة الإقليم وسارت الدبابات في شوارعها.
فكتب:
سودا بالغ يان گيدر*
وإشعار كثيرة في مجموعة " شفق" مع عدد من الشعراء المحدثين امثال محمد عمر قازانچي و الشاعر عصمت اوزجان وذلك لكسر الجمود الذي بقى يلازم الشعر التوركماني منذ عصور. لكنه بقى حالما بمعبودته فكتب امنيته التي لم تتحقق؛
إلهي
أنا
لا
أبغي الجنة ولا النار
الموت في كركوك
جل مبتغاي
ترك الوطن الكبير والصغير واللجوء الى المنفى الى الجار القريب تركيا وبقى لسنوات في معسكر سلوبي للاجئين قبل ان يلحئ الى سويسرا. وذاق المر في ذلك المخيم الحدودي وكانت تلك السنين " عجاف" وكتب عن تلك الأيام والشخصيات التي عاشرهم عن قرب وذاق هو وعائلته الأمرين من القريب والصديق والرفيق في وداعا سيلوپي.
كتب فيه راويا ايام ذلك المعسكر قائلا:
"أقسم بالله لو كنت في الجبل كما كنت قبل أعوام، لما منحته فرصة كي يتنفس. كنت سأسكت فيه صوت الشر والشيطان برصاصة واحدة لا يزيد ثمنها عن مائة فلس!.. لعن الله الأمم المتحدة وحياة اللجوء التي حولتنا إلى أن نكون خرافا أمام المعاصي والمنكرات في هذا المعسكر اللعين."
انتهى به المطاف على ضفاف بحيرة "جنيڤ " الخالدة. وبدات رحلة جديدة من حياة المنفى. كتب موسوعة توركمان العراق ونشر فيها كتاباته. كما نشر في المواقع العراقية على الإنترنت وفي الجرائد العراقية وجل المطبوعات في الخارج ونشر ذكرياته عن احدى شوارع وطنه الصغير وأبدع في الحوار والسرد الذي يصل الى درجة القصيدة النثرية. كما ابدع في الكتابة المسرحية وترجم الى العربية معرفا قارئ العربية بالموروث الثقافي والأدبي للشعب التوركماني في العراق.
***
د. توفيق رفيق التونچي
.....................
* القوريات من الانماط الشعرية الخاصة ب تركمان العراق شعر رباعي موزون. البيت من اشعار المجموعة الشعرية ” شفق ” طبع الكتاب في مكتب المنصور للطباعة في كركوك والديوان لمجموعة من الشعراء الشباب حاولوا فيها كسر طوق هيمنة الشعر الكلاسيكي الذي لا يزال يهيمن على مجمل الابداع الشعري للشعراء التوركمان ، وقد صدر الديوان عام ١٩٨٨ ويشمل ابداعات الشعراء؛ نصرت مردان ، الاستاذ عمر قزانجي و عصمت اورجان.
* تجنح السمكة في مسيرها. عنوان أغنية تركية تراثية.