ترجمات أدبية
جوادالوبي نيتيل: الحياة في مكان آخر

بقلم: جوادالوبي نيتيل
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
حدث ذلك قبل بضع سنوات، في تلك الفترة التي استأجرنا فيها شقتنا. لجأنا إلى وكالة عقارية أوصى بها صديقي وكانت تتقاضى عمولات معقولة جدًا. بعد زيارة عدة مبانٍ في جميع أحياء برشلونة، اخترنا اثنين: أحدهما في شارع ميستال بالقرب من ساحة إسبانيا، والآخر في شارع كارولينيس في حي جراسيا. كان شقة ميستال مكانًا مشمسًا، مع شرفة صغيرة تخيلتها ألينا فورًا كحديقة داخلية. لم تكن العمارة جميلة بشكل خاص. كانت من تلك المباني المربعة التي تفتقر إلى السحر والتي تنتشر في تلك المنطقة، ولكنها بدت لألينا واسعة. أما شقة جراسيا، فكانت تقع في الطابق الأوسط، على الرصيف الأيسر من شارع كارولينيس، قادمة من مترو فونتانا. كان المبنى قديمًا ومشغولًا بشكل جيد. كان المصعد الخشبي الذي يتناغم مع الباب المودرن والركائز والأقواس داخل الشقة يعطيه طابعًا مميزًا. باختصار، كانت شقة أنيقة جدًا، مكانًا يمكن تنظيم عشاءات ممتعة فيه، منزلًا يفخر به المرء. للأسف، في تلك الشقة كان الضوء يدخل بالكاد ومن الجهة المقابلة. كان الفناء الداخلي، الذي يطل عليه ثلاث غرف، من المفترض أن يضيء الشقق العليا لكنه لم يكن يصل إلى تلك الطابق. وكان هذا السبب الذي جعلنا لا نختارها فورًا. في أوقات فراغها، كانت ألينا تعمل كرسامة لقصص الأطفال وفضلت مكانًا مشرقًا. خلال عطلة نهاية الأسبوع، فكرت في الأمر وقررت أن أختار شقة جراسيا. ما أهمية عدم وجود الشمس إذا كنا دائمًا ما ندعو الناس في المساء؟ علاوة على ذلك، لم تكن ألينا ترسم كثيرًا حتى تكون هذه الأنشطة الثانوية سببًا مقنعًا. وعندما تقوم بذلك، يمكنها استخدام مصباح مصمم يحاكي ضوء النهار بشكل مثالي. وعدتها بأنني سأتكفل بتركيبه بنفسي.
صباح يوم الاثنين، اتصلنا بالوكالة لإبلاغهم بأننا اخترنا شقة كارولينيس، لكن الموظفة أخبرتنا بأنها لم تعد متاحة.
- لقد تم حجزها من قبل عائلة شابة لديها طفلان.
احتججت بإصرار، مضيفًا:
- لكننا أكملنا جميع مستنداتنا مسبقًا، لماذا لا تؤجرونها لنا مباشرة؟
ردت الموظفة بلهجة قاطعة:
- لا يمكننا ذلك. العائلة دفعت عربون الحجز، وهذه سياسة الوكالة التي لا يمكن تجاوزها.
ثم أضافت قبل أن تنهي المكالمة:
- إذا طرأ أي تغيير أو تأخروا في تقديم الأوراق المطلوبة، سأبلغكم على الفور.
في تلك الليلة، ذهبت ألينَا إلى الوكالة لدفع عربون حجز شقة شارع ميسترال. أما أنا، فبقيت غارقًا في خيالاتي حول الحياة في حي جراسيا: التجوال في شوارعه، السينما "فيردي"، الجلوس في المقاهي ذات التراسات، والمسرح "تياترينيو". كنت واثقًا أن القرب من المسرح سيعيدني إلى خشبة التمثيل، وبحلول العام القادم، كنت سأعمل في إحدى المسرحيات بلا شك. ومع مرور الوقت، أصبحت شقة جراسيا في مخيلتي أمرًا لا يمكن الاستغناء عنه.
لكن يوم الخميس، تلقيت مكالمة من الوكالة أكدت لي أن الشقة قد أُجرت بالفعل. وهكذا، لم يكن أمامنا خيار سوى الانتقال إلى شقة ساحة إسبانيا.
في شهر يوليو، انشغلنا أنا وألينَا بتجديد شقتنا. قمنا بطلاء الجدران والسقف، وإصلاح الخزائن، وتصميم الحديقة الداخلية التي تخيلتها. وعندما انتهينا، قررنا قضاء بضعة أيام في قرية والديّ. عند عودتنا من الريف، كان رائحة الطلاء قد تلاشت تمامًا.
لكن، ومنذ الليلة الأولى، شعرت أن الشقة غير صالحة للسكن. لم تكن لدي أية أسباب منطقية لهذا الشعور، لذلك قررت عدم إخبار ألينَا. أما هي، فقد كانت غارقة في سعادتها بما حققته من تحسينات، وبالألوان التي اخترناها لغرفة المعيشة.
في الخريف، وضعتُ خطة جديدة لاستعادة مسيرتي في التمثيل. تضمنت الخطة الاقتراب من الشباب الذين ربما ما زالوا يحملون بعض الاحترام لممثلي جيلي. لذلك نظمتُ عدة عشاءات للتعرف على بعض المخرجين الجدد. كنتُ قد قضيتُ أكثر من عامين أعمل في دائرة تابعة لحكومة كاتالونيا، وثلاث سنوات دون أن أصعد على خشبة المسرح. وفقًا لما كانت تقوله ألينا، كان عليّ أن أشكر السماء على هذا العمل الممل وأترك المسرح كهواية أمارسها في أوقات الفراغ، كما كانت تفعل هي مع الرسم.
كان الضيوف في تلك العشاءات يهنئوننا على شقتنا، لكنهم لم يعرضوا عليّ أي فرصة عمل في أي مسرحية، حتى ولو كعامل مساعد في قسم الديكور. ومع اقتراب الشتاء، بقي الوضع على حاله تقريبًا. ومع مرور الوقت، بدأتُ أشعر بإحساس غامض، هادئ جدًا لا يرقى أن يُسمى قلقًا، لكنه كان مزعجًا بما يكفي ليظل حاضرًا في داخلي. كان لدي شعور قوي بأن شيئًا ما يجري بالقرب مني، شيء لا أستطيع رؤيته لكنه يخصني تمامًا.
بدأتُ المشي في فترة ما بعد الظهيرة لتخفيف توتري. بعد العمل، كنتُ أتجول في المدينة بلا هدف محدد. غالبًا ما كانت جولات المشي تلك تتحول إلى دوران حول أحد المسارح. مسرح "روميا" إذا كنتُ في حي رافال، أو مسرح "ليوري" إذا كنتُ بالقرب من المنزل. كثيرًا ما كنتُ أكتفي بالبقاء في الشوارع المحيطة دون الاقتراب حتى من أبواب المسرح لرؤية جدول العروض. كنتُ أكتفي بمراقبة خروج الجمهور الذي، بعد انتهاء العرض، يتوجه بحماس نحو الحانات والمطاعم في الحي.
كان يكفيني أن أستنشق هواء تلك الكثافة العاطفية التي تملأ قلوب الجمهور بعد عرض جيد، تلك الكثافة التي شعرتُ بها مرات كثيرة في الماضي. لقد كانت هي نفسها التي جعلتني في مراهقتي أعتقد أنني وُلدتُ لأكون ممثلًا.
كان أحد تلك التجوالات ما أعادني مجددًا إلى شارع كارولينس. منذ أن انتهينا من ترميم شقتنا في شارع ميسترال، خفتت الأفكار عن تلك الشقة الأخرى، وتحولت شقة جراسيا إلى أمنية منسية ضمن قائمة طويلة من الأشياء التي تمنيت تحقيقها ولم تحدث قط، وظننت أنني قد تجاوزتها. ولكن، حين اقتربت من محطة المترو –رغم البرد القارس الذي كان يلف اليوم-لم أستطع مقاومة الرغبة في المرور بالمبنى. في النهاية، لم يكن يبعد سوى شارعين بعد محطة فونتانا، ولن يستغرق الأمر طويلًا.
كان الشارع غارقًا في الظلام، ومن الزاوية ظهرت لي النوافذ المضيئة للطابق الأرضي المرتفع. ومع اقترابي أكثر، تسللت إلى مسامعي أصداء موسيقى خافتة. رأيت مصباحًا أرضيًا منصوبًا في المكان الذي كنت أنوي وضعه فيه لو كنت هناك، ولاحظت وجود أصص للنباتات أيضًا. توقفت لبضع دقائق، متأملا تلك الظلال التي تلوح خلف النوافذ، متخيلا أنها ظلالي وظلال عائلتي. لم تكن ظلالي وظلال ألينا، بل عائلة أخرى، زوجة وأبناء لم أعرفهم يومًا، ولكنهم ألهبوا قلبي بحنين موجع وحزن عميق، كذاك الذي يسيطر علينا حين نتذكر أحبة غابوا عن حياتنا ولم نعد نراهم.
عندما عدت إلى المنزل، أعدت ألينا العشاء وكانت تنتظرني لأقرأ في غرفة الطعام. ذهبت لأغسل يدي، وعندما نظرت في المرآة، شعرت وكأن شخصًا مختلفًا قد استولى على وجهي. لقد فكرت في البيت الآخر طوال الليل. كنت أعتقد أن هذه الشقة هي الأكثر ملاءمة لأذواقي وطريقة وجودي، تمامًا كما كانت شقة ميسترال أكثر ملاءمة لألينا. قلت لنفسي، لأعزي نفسي، إن الشقة تشبه إلى حد ما الطفل الذي تختلط فيه جينات عائلتين. في حالتنا، كان ذوق زوجتي هو الذي انتصر، ربما سيأتي دوري في المرة القادمة.
في يوم الجمعة التالي، عند خروجي من المكتب، توجهت مجددًا إلى المبنى. في تلك الأيام، كان الظلام يحل مبكرًا، لذا كانت الليلة قد خيمت عندما نزلت في محطة مترو فونتانا. لكن هذه المرة، لم يكن هناك ضوء في الشقة. كانت معظم نوافذ البناية مغلقة. "هذا أمر طبيعي"، فكرت، "في مثل هذا الوقت، لا يكون أحد في بيته." قررت الجلوس في المقهى الموجود على الرصيف المقابل. اخترت طاولة قريبة من الشارع وطلبت قهوة منزوعة الكافيين مع الحليب.
كان المكان يحمل الطابع البوهيمي والفرنسي الذي يميز أجواء مقاهي جراسيا، بأضوائه الخافتة وبعض الملصقات المعلقة على الجدران. في أحد هذه الملصقات، لاحظت برنامج عروض مسرح تياتريناو. كانت تُعرض مجددًا مسرحية أوبو ملكا، من تأليف ألفريد جاري الذتي تم نقلها إلى السياق السياسي لكاتالونيا. كانت العروض ممتدة حتى نهاية الشتاء. رغم أن الكثيرين قد تحدثوا عن المسرحية بإعجاب، فضلت عدم حضورها. كان شافي ميستري، الممثل الرئيسي، شابًا أسمرً ذا بنية عضلية، وكان زميلي في مدرسة الفنون. بعد التخرج، سافر شافي إلى إيطاليا ثم إلى الدنمارك ليتدرب مع يوجينيو باربا. وعند عودته، استقبل المسرح الكتالوني شافي كأنه مخلص، ومنحوه أدوارًا لم يحظَ بها أحد من جيلنا حتى ذلك الحين.
بينما كنت أرتشف قهوتي ببطء، كنت أتأرجح بنظري بين ملصق المسرح وباب المبنى، وهما مكانان لا أستطيع دخولهما إلا بصفتي مجرد متفرج.
كنت في هذا الوضع عندما رأيت امرأة تتوقف أمام البناية الرئيسية. بدا أنها في أوائل الثلاثينيات من عمرها. كانت نحيلة وشقراء، وشعرها مرفوع بطريقة تجمع بين الأناقة والعفوية المتقنة. كانت تدفع عربة طفل وإلى جانبها طفل صغير ينتظران حتى تفتح الباب. الوجه الذي رأيته لبضع ثوانٍ بدا لي جميلاً.
بعد دقائق قليلة، أضاءت الأنوار في الطابق الأول. ظهرت ظلال الطفل في النافذة، وفي عمق المكان، كانت المرأة تحمل الطفل بين ذراعيها. كانت الأجواء الدافئة للشقة تنساب وكأنها تصل حتى المقهى الذي كنت أجلس فيه عند الزاوية. واصلت مراقبتي لبضع دقائق، ثم دفعت ثمن قهوتي وعدت إلى منزلي. هذه المرة، كانت ألينا قد تناولت العشاء بالفعل، واستقبلتني في السرير أمام التلفاز.
في اليوم التالي، استيقظنا معًا كما هي العادة. تناولنا الإفطار بهدوء، وكما هو معتاد، خرج كل منا من المنزل في اتجاه مختلف. ولكن بدلاً من أن أأخذ المترو إلى عملي، وعندما وصلت إلى ساحة إسبانيا، صعدت إلى الخط الأخضر، الذي سرت فيه كأنني ميت حي حتى وصلت إلى فونتانا. كان عليّ أن أنتظر ساعة في المقهى قبل أن أرى المستأجرة تخرج من الشقة. من ملابس الطفل، بدا لي أنها ستأخذه إلى المدرسة. تركت بعض العملات على الطاولة وقررت متابعتها.
في ذلك الأسبوع، قمت بتقديم إجازة من المكتب بادعاء الإصابة بالإنفلونزا، وعلى مدار خمسة أيام متتالية، خصصت وقتي لملاحقة المرأة في شوارع جراسيا. كانت ثلاثة أيام كافية لمعرفة عاداتها وأوقاتها: بعد أن تترك الطفل، تعود إلى المنزل لتطعم الطفل في الأريكة حتى الساعة العاشرة. ثم تخرج بمقعد الطفل إلى ساحة فيرينا حيث تجلس لتقرأ في أحد المقاهي حتى وقت الغداء. بعد ذلك، تستلم ابنها من المدرسة وتعود إلى المنزل. كانت نادرًا ما تخرج في المساء.
بقية وقتي - أي الساعات التي لم أكن أخصصها لمهمة التجسس - كانت تبدو لي غير ذات أهمية. كانت حياتي مشابهة للإعلانات التلفزيونية التي تقاطع فيلمًا مشوقًا. لم أستطع فعل شيء حيال ذلك سوى تحمله بصبر. بدأت ألينا في إلقاء تعليقات ساخرة، كانت تقول إنني في الآونة الأخيرة كنت في مكان آخر. لكنني كنت دائمًا أتحدث إليها عن صراعاتي المهنية.
في صباح يوم الخميس، عندما غادرت المنزل لركوب المترو، كدت أتعرض للدهس بواسطة شاحنة قمامة، والسيارات لا تسير بسرعة أبدًا. قلت لنفسي أن زوجتي كانت على حق: يجب عليّ أن أتوقف عن هذه التفاهات وأركز على عملي، لكن هذا لم يقنعني تمامًا، تمامًا كما لم يكن يعجبني العيش في شارع مليء بالبيروقراطيين والمهاجرين، مغطى بفضلات الكلاب، أو وجود رسومات جدارية على جدران المترو. لم يعجبني أيضًا اللكنة البارشلونية التي كان يتحدث بها موظفو عملي، ولا طعم القهوة القوية في المقهى القريب. حيّنا لم يكن سيئًا، والمبنى لم يكن سيئًا، والشقة أيضًا لم تكن سيئة، لكن مهما نظرت حولي، لم أتمكن من إيجاد شيء كان على ما يرام. كانت الحياة تبدو لي غير عادلة في جميع جوانبها. وبصفتي ممثلًا، كان بإمكاني التظاهر بنفس الرضا الذي كان يظهره جيراني، لكنني كنت لا أزال أتساءل في أي عام أو في أي كيلومتر قد خرجت من الطريق السريع الذي كان يقودني إلى المصير الذي كنت أعتقد أنه يخصني، أو على العكس، أي زاوية كان يجب أن ألتف فيها حتى لا أخرج إلى هذا الشارع المليء بالسيارات، هذه الجادة السريعة المؤدية إلى الحدائق المحبطة في فترة الحجر الصحي.
أوحى لي حدسي أن شيئًا جيدًا ينتظرني في الشقة التي لم نستأجرها. شيء غير تقليدي ومنعش، مثل بداية جديدة بعد سنوات طويلة من التعاسة.
مع مرور الأيام، توقفت عن الرضا بدور الشاهد وبدأت السرية تصبح غير محتملة. أردت أن أتحدث مع المرأة، أن أكسب ثقتها وأجعلها تدعوني إلى منزلها. لم أعد أستطيع الانتظار، وفي صباح يوم الجمعة، قررت أن أقف في طريقها في مقهى فيريينا.
كان صباحًا مشمسًا في الشتاء، حيث لا يكون الجو باردًا جدًا، وكان من اللطيف الجلوس في التراس. خلعَت معطفها وطلبت قهوة. جلست على بعد طاولتين منها، وشعرت كيف بدأ نبض قلبي يتسارع. ومع ذلك، طرحت السؤال بشكل مباشر، وبطبيعية:
- كنتِ في مدرسة التمثيل، أليس كذلك؟
رفعت المستأجرة نظرها. حدقت عيناها الزرقاوان فيّ لبضع ثوان، ثم أجابت المرأة بلكنة أجنبية لم أتمكن من التعرف عليها:
-أنا لا.. لكن زوجي هو الذي درس في تلك المدرسة.
تحدثنا لبضع دقائق. أخبرتني أنها دانماركية وأنها درست الديكور المسرحي في كوبنهاجن حتى قررت الانتقال إلى برشلونة للزواج من رجل كان ممثلًا. قبل أن تذكر اسم زوجها، أدركت أنها تتحدث عن زوجة إكسافي.قلت بإعجاب مصطنع:
-لا تخبريني أنكِ متزوجة من إكسافي، تلميذ يوجينيو باربا.
أظهرت اهتمامًا حقيقيًا بمسيرة زميلي السابق؛ وبدأت أتذكر بصوت عالٍ ثلاث مواقف مدرسية جمعتني به، مُبالغًا في أهمية علاقتنا. بدت مسرورة واستمرت في الاستماع إليّ باهتمام بقدر ما سمحت لها مسؤولياتها الأمومية، قبل أن تسرع للذهاب إلى مدرسة ابنها. قالت وهي تنهض:
-من النادر أن نجد أشخاصًا من تلك الفترة. زملاء إكسافي لا يحضرون عروضه تقريبًا. يجب أن نلتقي في وقت لاحق
ثم تركت لي بطاقة تحتوي على اسمها، وعنوانها في شارع كارولينس، ورقم هاتفها. كانت تُدعى جوزفينّا وتستخدم لقب زوجها.
عدت إلى العمل في ذلك المساء وأدخلت البطاقة في الدرج. لم يكن لدي أدنى نية للاتصال بها أو للعودة إلى طرقها. ومع ذلك، لم تنتهِ الأمور هنا. بعد ثلاثة أسابيع، اتصلت بي أليينا لتخبرني أن إكسافي ميستري قد اتصل في ذلك المساء.
- يريدنا أن نذهب لتناول العشاء في منزله!
قالت ذلك بدهشة، وكأنني تم ترشيحي لجائزة أوسكار بدلاً من ذلك.
سألْتُها بقلق:
- وماذا قلتِ له؟
- قلت له إن يوم الجمعة سيكون مناسبًا لنا. هل تعرف في أي شارع يسكنون؟
أجبت:
-نعم، أعرف، هم من فازوا بالشقة التي كنا نريدها.
قلت ذلك لأرى إن كان بإمكاني جعل أليينا تكرههم قليلاً. كنت قد نسيت أنها كانت تفضل شقتنا دائمًا.
على الرغم من أننا لم نكن أصدقاء أبدًا، تصرف إكسافي وكأن عودتي لرؤيته كانت تسره حقًا. كان العشاء لذيذًا وكان الشقة أجمل بكثير مما كانت عليه قبل بضعة أشهر، عندما عرضتها لنا الوكالة. من جانبي، وجدته قد تغير كثيرًا، أصبح أكبر سنًا وأقل كلامًا، أقرب إلى الملك أوبو فى مرحية ألفريد جاري منه إلى الشاب الذي تعرفت عليه قبل خمسة عشر عامًا. تساءلت إن كان مريضًا أو أن مظهره كان نتيجة موسم طويل كهذا. ومع ذلك، بدلاً من أن يجعله ذلك بائسًا، كانت هذه الشيخوخة المبكرة تبرز جوهريته المتفوقة. خلال العشاء، أكد لي أن زملاءه في مدرسة المسرح لم يريدوا أن يعرفوا عنه شيئًا منذ أن عاد إلى إسبانيا. ولكن رغم الحرب الشرسة التي شنها عليه الاتحاد، لم يشكك المخرجون أبدًا في موهبته.
قلت لإرضائه:
- من الطبيعي أن هؤلاء الممثلين الصغار يكرهونك، لا بد أنهم يغارون منك...
وعلى الفور، كسبت إعجابه.
خلال العشاء، نهضت مرتين للذهاب إلى الحمام. هكذا اكتشفت الغرف الأخرى، التي كانت مدهشة مثل غرفة المعيشة. في الردهة كانت هناك صور مؤطرة لإكسافي على خشبة المسرح، وكذلك لوحة تذكارية. كانت جميع الأثاث والأشياء في ذلك المكان تبدو مألوفة لي، ولذلك شعرت بشعور بالانتماء كان من الصعب تحمله. كان ذلك المنزل تقريبًا ملكي، لكن، لسبب غير مفهوم، لم أستطع العيش هناك.
قرب نهاية الليل، سألني ميستر عن سبب تركي للتمثيل. كنت على وشك أن أخبره بما أقوله دائمًا، أي أنني أفضل أن أعيش حياة مستقرة وآمنة مع منزل جميل حيث سيعيش الأبناء الذين سأرزق بهم من ألينا، لكنني لم أجرؤ. رفعت كتفي وأجبت بأنني لم أستطع تحمل الوسط الفني، ولهذا فضلت الابتعاد. وقد تفهم ذلك تمامًا.
كانت أمسية غريبة. تحدثنا كثيرًا عن المدرسة، وعن أحلامنا السابقة، والطريق الذي اختاره كل منا. وصف لي إكسافي المسرحية وعلاقاته مع المسرح الكتالوني، التي لم تكن على النحو الذي تخيلته. فاجأني أنه انفتح عليّ بهذه الطريقة. شعرت في صوته بشيء من المرارة التي لم أتمكن حينها من فهمها.
تحدثنا وشربنا حتى الصباح. وعدنا أن نبقى على تواصل وأن ندعوهم للعشاء في المرة القادمة. لا أتذكر بالضبط كيف عدنا إلى المنزل. عندما استيقظت، كانت رأسي المؤلمة كأنها مستنقع عفن. كانت ألينا تحدق بي. بعد ساعات قليلة، اعترضت على اهتمامي بزوجة ميستر. طلبت مني ألا أراها مرة أخرى. مع ذلك، اتصلت في نفس اليوم لأشكرهم على العشاء. شرحت لي جوزيفينا، التي أجابت على الهاتف، أن إكسافي كان مريضًا ورفضت أن تتيح لي التواصل معه. زادت شكوكي بشأن صحته.
قالت:
-بشكل عام هو يتحمل ذلك جيدًا،لكن اليوم لم يستطع حتى النهوض من السرير.
أقلقني صوتها. طوال تلك الأيام، لم أستطع إخراج جوزيفينا من رأسي. لم أتمكن من تحديد ما إذا كان ما جذبني إليها، شخصيتها وفمها، أم أن إعجابي كان بسبب كونها زوجة إكسافي ميستر. رجل كنت أحسده على كل شيء، بما في ذلك علاقته المضطربة مع المسرح الكتالوني.
كان هذا أبرد شهر ديسمبر على ما أتذكره. تغلغلت الرطوبة في عظامنا وكانت ألينا لا تزال غاضبة. عدت إلى شقة كارولين عدة مرات، ولكن بدونها. أتذكر أن تلك الزيارات إلى تشافي ميستري كانت الشيء الوحيد المثير للاهتمام الذي قمت به في ذلك الشتاء. شربنا البراندي ولعبنا الشطرنج في الاستوديو الخاص به، حيث لم تدخل أشعة الشمس تقريبًا أبدًا. وبينما كنا نلعب، كان يشتت انتباهه بالحديث عن ماضينا المشترك في مدرسة المسرح. لم أتمكن من تصديق أنه، بعد هذا النجاح الكبير، كان يشعر بالحنين لتلك الفترة البائسة.
في إحدى الأمسيات، وبين كأس وآخر، أخبرني أنه لن يكمل موسم "أوبو". عندما سألته عن السبب، أراني بعض الأوراق التي تحمل شعار عيادة CIMA.
- يقول الطبيب أنه سيكون من الأفضل إيقاف الموسم، لكن بدلاً من ذلك طلب ريجولا من شخص أحمق أن يحل محلي. هل يمكنك أن تصدق ذلك؟
بدأ الطفل يصرخ في الغرفة المجاورة. عندما سألته عما ينوي فعله حيال ذلك، أجاب:
- سأفكر في شيء ما. ومهما كان رأي الآخرين، أنا مستمر في عملي.
نزلت الدرج متفاجئًا من جوابه. على الرغم من مرضه، كان الرجل مليئًا بالثقة بالنفس. عندما غادرت المبنى التقيت بجوزيفينا. لقد كانت تنتظرني في نفس المقهى الذي كنت أتجسس فيه على شقتها عدة مرات. كانت عيناها متورمتين.
جلست معها على طاولة في الخلف. كانت تتحدث بصوت منخفض، وكأنها تخشى أن يسمع الزبائن الآخرون ما ستقوله. شرحت لي مدى خطورة آخر النتائج. وفقًا لها، كان مرض شافي نتيجة لعدة سنوات من العمل المستمر دون راحة، لكنه كان أحمق بالإضافة إلى كونه أنانيًا. كما عبرت عن مرارتها تجاه المدير الذي طرده إلى الشارع مثل الكلب. حاولت تهدئتها:
- إن الطلب من ريجولا تعليق الموسم لأن شافي مريض بمثابة انتحار وسيضر بالممثلين الآخرين أيضًا.
أمسكت بيدها. ولكن لا كلماتي ولا إيماءاتي الداعمة كانت قادرة على جعلها تشعر بالهدوء.
منذ تلك اللحظة، زدت من معدل زياراتي. كنت أذهب ثلاث أو أربع مرات خلال الأسبوع، باستثناء يومي السبت والأحد. لم أكن حتى أتعب نفسي بالمرور عبر المنزل. بعد الخروج من العمل، كنت أركب الحافلة في شارع مايور دي جراسيا وأتوقف قبل بضعة شوارع لأذهب إلى السوبر ماركت. إذا كان هناك شيء يمكنني قوله لصالح نفسي هو أنني كنت دائمًا أصل ومعي شيء للأكل. كل مساء، كنت أعرض وضع الطاولة، أو تغيير حفاضات الطفل أو اللعب مع الطفل الآخر. لم أجد صعوبة في التعود على المنزل، لأنه كما قلت سابقًا، كان دائمًا يبدو لي مألوفًا. عند الدخول، كنت أضع معطفي على المشجب وأترك حقيبتي في الردهة، ثم أذهب مباشرة إلى المطبخ لأضع الأشياء التي اشتريتها. تدريجيًا، بدأت أتحول إلى عضو آخر في الأسرة. كنت أعرف تمامًا مكان كل طبق في المطبخ، كنت أعرف كيف أضع الطاولة وحتى أغير الفراش إذا لزم الأمر. في الحمام، حيث كنت أحب الجلوس لفترات طويلة، كنت دائمًا أجد مجلتَي المفضلتين.
كما كان قد أعلن، استمر شافي في العمل. بمجرد أن ترك العمل الفني، بدأ في كتابة رواية. وفقًا لجوزيفينا، كان يصحح مخطوطًا قد احتفظ به لأكثر من عشر سنوات، وهو محاكاة ساخرة للبيئة الفنية الإسبانية، وبشكل خاص تلك الموجودة في كاتالونيا. كان مشاهدته أثناء العمل محطمة للكرامة. أنا متأكد من أن انضباطه وتركيزه كانا يجعلان أي شخص يشعر بالسوء، وليس مجرد طفيلي مثلي. عند موعد العشاء، كانت جوزيفينا تطرق باب الاستوديو عدة مرات لتعرف إذا كان يريد الانضمام إلينا أو إذا كان يفضل أن نأخذ له العشاء إلى مكتبه. عندما كان يوافق على تناول الطعام معنا، كان دائمًا هو من يضع جوًا من البهجة على الطاولة. كان يختار أسطوانة موسيقية، ويشعل شمعة. كان الأطفال قد ناموا في تلك الساعات، وكنا نجلس وحدنا لنستمتع بحساء دافئ. على عكس ما كنت عليه، كان هو يأكل أقل فأقل. في بعض الأحيان، كان متعبًا جدًا لدرجة أنه كان يجد صعوبة في حمل أدوات الطعام. ومع ذلك، تمكن من إنهاء الرواية.
بعد وقت قصير، دخل شافي إلى مستشفى سان باو. كانت جوزيفينا ترافقه معظم الوقت، وبالطبع، تضاعفت المهام المنزلية. حاولت مساعدتها بكل ما أستطيع، كنت أتلقى المكالمات الهاتفية وأستغل الفرصة لحذف الرسائل التهديدية من جهاز الرد الآلي التي كانت تتركها ألينَا، والتي كانت قد بدأت منذ ذلك الحين في سبّي. لكن لم يكن لدي وقت لهجمات الغيرة تلك، كان عليّ أن أعتني بالطفلين، وأعد لهما العشاء، وأضعهما في السرير ليناما. هكذا بدأت أمضي الليالي هناك. أولًا على الأريكة، ثم مع الطفلين اللذين كانا دائمًا يشعران بالخوف، وعندما كانت جوزيفينا تبقى في المستشفى، كنت أيضًا أنام في سريرهما.
توفي شافي قبل أن ينتهي الشتاء. قمنا بتوديعه في بيدرالبيس. كانت جنازة حزينة، مع عدد أكبر من الصحفيين مقارنة بالأصدقاء. كنت هناك طوال الصباح. لم تظهر زوجتي، وفضلت ألا أضغط عليها لكي تأتي. في الظهيرة، التقيت بجوزيفينا في مقهى الجنازة. جلسنا في إحدى الطاولات. كان الجو هناك مريحًا. كان البرد أقل، والبخار على النوافذ حال دون رؤية القبور في الحديقة. أتذكر أنها كانت ترتدي شالًا رماديًا من الكشمير. عندما بحثت عن يدها، أدركت أنني لم أعد أرغب فيها. أنا متأكد من أن الأمر لم يكن يتعلق بألمها أو الظروف الدرامية. سألتها عن الطفلين، وأخبرتني أن شقيقتها أخذتهما إلى الدنمارك في نفس الصباح. شكرتني على كوني قريبًا منها في الأيام الأخيرة:
- لقد أظهرت لشافي أن ليس جميع الممثلين حقيرين كما كان يعتقد.
اكتفيت بالابتسام بتواضع. عندما ودعنا بعضنا، أخبرتني جوزيفينا بأنها تفكر في العودة إلى كوبنهاجن وسألتني إذا كنت مهتمًا باستئجار شقتها مجددًا. طلبت منها أن تعطيني بضعة أيام للتفكير.
(تمت)
***
.....................
الكاتبة: جوادالوبي نيتيل /Guadalupe Nettel: كاتبة مكسيكية/ ولدت جوادالوبي نيتل في مدينة مكسيكو عام 1973، وقضت جزءًا من طفولتها في جنوب فرنسا. درست اللغة والأدب الإسباني في جامعة أوتونوما في مكسيكو، ثم نالت درجة الدكتوراه في علوم اللغة من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس.كتبت نيتل العديد من القصص القصيرة والروايات والدراسات، وقد تُرجمت أعمالها إلى ثماني عشرة لغة. حصلت على عدة جوائز دولية، منها جائزة جيلبرتو أوين للرواية، وجائزة أنتوان آرتو، وجائزة آنا سيجرز.
أصدرت أربع مجموعات قصصية هي: ألعاب الخيال (1993)، الأيام الأحفورية (2003)، بتلات وقصص مزعجة أخرى (2008)، وزواج الأسماك الحمراء (2013)، التي فازت بجائزة رواية قصيرة ريبيرا ديل دويرو. والضائعون عام 2023. وفي مجال الرواية، نشرت الضيف عام 2006، التي كانت مرشحة لجائزة هيرالد، ثم نشرت الجسد الذي وُلِدتُ فيه عام 2011، وفي 2014 نشرت بعد الشتاء التي فازت في النهاية بجائزة هيرالد للرواية. كما كتبت مقالات مثل لفهم خوليو كورتاثار (2008) وأوكتافيو بايث، الكلمات في حرية (2014)وتشارك نيتيل بانتظام في العديد من المجلات الأدبية في إسبانيا وفرنسا وكندا وأمريكا اللاتينية.
https://letraslibres.com/revista-espana/la-vida-en-otro-lugar