تجديد وتنوير

ابتهال عبد الوهاب: ضريبة الوعي.. من الطمأنينة إلى القلق النبيل

كلما اتسعت فيك مساحة الوعي، ضاقت من حولك الدائرة. فالفكر المستقل ليس زينة تعلق على الجدران، بل عبء يثقل الكتفين، وجمر يضطرم في الأعماق. أن يكون لك رأي خاص، يعني أن تخرج من الصف، أن تسير عكس الموكب، أن تواجه ضجيج الإجماع بصمتك العالي، وأن تدفع ثمن وضوحك من دفء الآخرين. الاستقلال في الفكر ليس بطولة، بل عزلة.

هو أن تدرك أن الحقيقة لا تسكن الحشود، وأن القبول الاجتماعي ليس برهانا على الصواب. وأن الإنسان، كلما استقل بعقله، فقد شيئا من طمأنينته القديمة، تلك التي كان يمنحها له الانتماء إلى السرب.

وحين تتجاوز العرف وتعيد النظر في الموروث، وتفكك المسلمات، فإنك تخلخل النظام الذي ألفوه، وتغدو في نظرهم خطرا لا يحتمل. ستجد نفسك وحيدا على حافة الفهم، تكلم نفسك احيانا كأنك خصمها، وتحاور ظلك كأنه آخر من تبقى.

هناك، في الفراغ الذي يخلفه انسحاب الحشود، يسمع الإنسان صوته الأول — ذاك الصوت الذي خنقته الصيحات الجماعية طويلا. لكن في هذه الوحدة العاقلة، يكتمل الإنسان. فهناك، بعيدا عن صخب القطيع، تنضج الرؤية، ويولد المعنى.

العقل الحر لا يجد دفئا في القطيع، بل يجد نفسه في مواجهةِ عراء ميتافيزيقي لا يستره إلا صدقه مع ذاته. وحين تنكسر أوهام الانسجام الاجتماعي، يبدأ الإنسان رحلته الحقيقية: رحلة الكائن المفكر في صحراءِ المعنى.

إنها مغامرة التفرد: أن تختار العقل رغم ألمه، وأن تظل صادقا مع ذاتك وإن خذلك الجميع.

فالحشود تتضخم لتخفي خواءها، أما العقول المفردة، فهي وحدها التي تنير العتمة ولو احترقت وهي تضيء.

وحدهم الذين اختاروا أن يكونوا "واحدا" أمام "الكل"، هم الذين لمسوا جوهرَ الحرية. فهم يدفعون ثمنا فادحا ولكنهم وحدهم يعرفون لذة أن تكون ذاتك، لا نسخة مكررة من الضجيج.

واخيرا التفرد العقلي إذن، ليس طريقا ممهدا ولا مفروشا بالورود، بل ممر ضيق بين نار الشك ونور الفهم. غير أن من يسلكه، وإن احترق في نهايته، يترك للآخرين قبسا من ضوء، ودليلا على أن العقل مهما خذل — يظل أسمى مغامرات الإنسان.

ولنعلم ان الوعي ليس مجرد معرفة، بل انقلاب في بنية الإحساس بالعالم. إنه انتقال من سكون الغفلة إلى توتر الفهم، من راحة المسلم إلى عذاب السؤال. ولذلك كان كل وعي صادق بداية قلق عميق؛ لأن العقول الكبيرة لا تنام في دفء الأجوبة، بل تسهر على حواف الشك

وذلك القلق الذي يرافق الوعي ليس لعنة بل علامة حياة. فالعقل الذي لا يقلق، لا يفكر، والروح التي لا تضطرب، لا تنضج. ولنعلم انه من رحم القلق يولد المعنى، ومن نزيف الأسئلة تنبثق الحكمة.

ولهذا فإن الذين وعوا كثيرا، لم يعيشوا مطمئنين، بل عاشوا يقظين. وهي يقظة مؤلمة، لكنها يقظة الإنسان الكامل الذي لم يخدع نفسه.

والوعي يجعلك ترى هشاشة كل ما اعتدت اعتباره صلبا: المعتقد، العادة، النظام، وحتى الذات. وحين تنهار هذه الأعمدة من حولك، تشعر بالفراغ، لكن هذا الفراغ هو بداية الخلق.

فالقلق النبيل ليس انكسارا، بل لحظة ولادة جديدة، تخرج منها الذات أكثر صدقا وأقرب إلى جوهرها الحر. فلتكن يقظتنا إذن عبورا لا لعنة، وليكن قلقنا طريقا نحو صفاء أعمق، فمن لم يقلق لم يسأل، ومن لم يسأل لم يعِ، ومن لم يعِ لم يعش حقًّا.

وهكذا يصبح القلق النبيل تاج الوعي، وثمن الحرية، وعلامة الذين لم يرضوا أن يكونوا نسخا مطمئنة في عالمٍ بارد. إنه القلق الذي لا يهدمك، بل يصهرك لتولد من جديد — أكثر صدقا وأكثر إنسانية.

***

ابتهال عبد الوهاب

في المثقف اليوم