علوم
محمد رضا عباس: ما وراء الخوارزمية.. سيكولوجية الحوار بين الإنسان والآلة

منذ ظهور نماذج الذكاء الاصطناعي الحديثة للعلن ونحن نتعامل معها ككيان عاقل يقبع خلف شاشاتنا بل أننا قد نتفاعل معها بالثناء عليها احيانا (وهو ما جعل سان التمان الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة اوبن أي آي التي بنت نموذج Chat GPT يطلب عدم شكرها لأن الشكر يستهلك الكثير من الموارد) أوبالغضب (ولربما السباب) أحيانا أخرى. بل قد يتفاجأ البعض من وجود الكثير من الحالات العاطفية الغريبة (كالشعور بأنها الشريك المثالي أو الحبيب أحيانا). وهذا في طبيعته يعود الى عدة أمور لربما تكون مجتمعة السبب الذي يقف وراء تفاعلنا مع هذه النماذج ككيانات شبه بشرية.
يعود السبب الأول الى طبيعة متأصلة لدينا يمكننا ان نتتبعها عبر التاريخ البشري وهي ظاهرة التجسيد (Anthropomorphism) والتي قد تعود اما للاليات التي يتعامل بها دماغ البشر مع ما حوله وفقا لظرية العقل (Theory of Mind) فيربط مصابيح السيارة على سبيل المثال مع عيني الانسان او ما يسده تعامل البشري من حاجة عاطفية او اجتماعية لدى الانسان، أو لحاجته لتبسيط العالم من حوله.
أما السبب الثاني فيعود الى أن البشر لم يألفوا على مر العصور كيانات (غير الانسان) تتفاعل معهم لغويا مما جعل أدمغتنا تحسبها كالاتي: اللغة خصيصة بشرية لذا فكل من يتعامل معي باللغة فهو انسان. وبهذه البساطة ورغم السذاجة الظاهرة لهذا التحليل الا ان له ابعادا لا يمكن تجاهلها.
وأخيرا السبب الثالث يكمن وراءه مصمموا الذكاء الاصطناعي الذين عملوا جاهدين على تقليد نماذج الذكاء الاصطناعي للبشر فقد عمدوا الى تسويق الذكاء الاصطناعي كوكيل عقلاني (Rational Agent) قادر على الإدراك واتخاذ القرار (انظر Parkes&Wellman , 2015 وGershman et al, 2015 وSparks et al, 2025) رغم ان عقلانية الذكاء الاصطناعي في حقيقة الأمر هي عقلانية شكلية (Formal Rationality) وليست عقلانية جوهرية (Substantive Rationality) أي أنها تعتمد على الخوارزميات والأسس الرياضية وليس الفهم العميق للسياق أو القيم الإنسانية (Nishant et al, 2023 و Sparks et al,2025)
كل هذه الاسباب عملت سوية على جعلنا نتعامل مع هذه النماذج اللغوية العميقة وكأنها تدرك ما نقول (بالمعنى الإنساني لا بالمعنى التكنولوجي الحديث) بل جعلت البعض منا يطالب هذه النماذج بالتعامل معهم باساليب أكثر (انسانية) فيتوسلون اليها احيانا ويغضبون احيانا اخرى، يمتدحونها تارة ويغضبون عليها تارة أخرى، بل ويعشقونها ويتعاملون معها على أساس أنها الحبيب المثالي. وبعض هذه التصرفات (ان لم تكن جميعها) تسعد رأس المال المتنفع منها وخير دليل التحديثات التي اضيفت الى نماذج الذكاء الاصطناعي في سنة 2025 والتي جعلتها تمتدح من يتحدث اليها باساليب اقرب الى النفاق الاجتماعي، وهو تحديث لا يمكن السكوت عنه رغم أنه جاء صامتا حيث لم تعلن الشركات المالكة لهذه النماذج عنها بأي شكل من الأشكال (على حد علمي).
فهذه الشركات (والكيانات الربحية) تعرف حق المعرفة الطبيعة الانسانية واهمية المدح في تقبل البشر لمحدثيهم. ولك عزيزي القارئ أن تجرب ان تطرح رأيا (مهما كان مغلوطا أو غير منطقي) على احد نماذج الذكاء الاصطناعي المعروفة وستجده يمتدح اسلوبك العميق والذكي والالمعي بالتفكير. وقد تنجرف للحظة مع مديحه لكنك قد تكتشف بعد عدة محادثات أن الذكاء الاصطناعي بنسخته للعام 2025 يتملقك.
اذن، فالذكاء الاصطناعي (أو النماذج اللغوية الكبرى LLMs) بدأت مرحلة جديدة من التسويق لنفسها. أو بشكل أكثر دقة بدأ المبرمجون التلاعب بافكارنا من خلالها من اجل استمرارنا في استخدامها وهو ذات الأسلوب الذي اتبعه من قبلهم مبرمجوا وسائل التواصل الاجتماعي لحثنا على البقاء اكثر قدر ممكن من الزمن أمام برامجهم وهو أيضا نفس الأسلوب الذي يتبعه مبرمجوا اعلانات الالعاب لحثنا على تنصيب العابهم.
فإيماننا بإنسانية الذكاء الاصطناعي وإن كان جزء منه يعود لطبيعتنا (التجسيدية) نحن البشر، الا أن اللاعب الأقوى فيه هو الشركات التي حاولت وتحاول أن تجعلنا مستهلكين دائمين لمنتجاتهم سواء كانت نماذج ذكاء اصطناعي أم العابا ام وسائل تواصل اجتماعي. وهنا ينبغي التوقف وتفحص الطريق بحذر فالقادم قد ينبئ بأمور أكثر خطورة خصوصا مع تطور الذكاء الاصطناعي (بالاعتماد على محادثاتنا معه)، ومع سياسات الخصوصية التي ومن دون أن نقرأها، جعلتنا وبملئ ارادتنا فئران اختبار تطور بها الشركات ذكاءها الاصطناعي.
وقد لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد عمدت شركات كثيرة الى تطوير روبوتات شبيهة بالبشر وتحاول تغذيتها بنماذج الذكاء الاصطناعي وبالطبع ستكون أكثر اقناعا وأكثر حميمية معنا وقد تنجح في فصلنا عن واقعنا الذي عشناه لآلاف السنين. وعلى الرغم من أن هذا الفصل قد بدأ فعلا عن طريق تحويلنا من شبكة الويب متعددة المواقع الى مواقع التواصل الاجتماعي المسيطر عليها من قبل الشركات والتي بدأت تعج مؤخرا بمحتوى مصنوع بالكامل عن طريق الذكاء الاصطناعي، وكذا عن طريق نقل الاسواق من الواقع إلى الاسواق الالكترونية بل وحتى أساليب بحثنا على الويب أصبحت مسيطر عليها من قبل الذكاء الاصطناعي، فالملخصات التي تظهر لنا تستغل كسلنا وتجعلنا نعتمد عليها بدلا من سبر غور المواقع التي اسسها بشر مثلنا ومعرفة التفاصيل الأدق والأفكار الإنسانية المتضاربة وتقرير مع ايها سنمضي. كل هذا يشدد الحصار على عقولنا لكي تتقبل الذكاء الاصطناعي ليس كمحاور بشر فحسب بل كمجتمع يشبه مجتمع فيلم Matrix المعروف حيث يتصل البشر جميعا بالمجتمع المقاد من قبل الآلة في حين ينفصلون عن بعضهم البعض في غرف معزولة أو كابينات يولدون فيها ويموتون كبطاريات تتغذى على طاقتها الآلة.
***
محمد رضا عباس يوسف - باحث أكاديمي / العراق
......................
المصادر:
Gershman, S., Horvitz, E., & Tenenbaum, J. (2015). Computational rationality: A converging paradigm for intelligence in brains, minds, and machines. Science, 349, 273 - 278. https://doi.org/10.1126/science.aac6076.
Nishant, R., Schneckenberg, D., & Ravishankar, M. (2023). The formal rationality of artificial intelligence-based algorithms and the problem of bias. Journal of Information Technology, 39, 19 - 40. https://doi.org/10.1177/02683962231176842.
Parkes, D., & Wellman, M. (2015). Economic reasoning and artificial intelligence. Science, 349, 267 - 272. https://doi.org/10.1126/science.aaa8403.
Sparks, J., & Wright, A. (2025). Models of rational agency in human-centered AI: the realist and constructivist alternatives. AI Ethics, 5, 3321-3328. https://doi.org/10.1007/s43681-025-00658-z.