دراسات وبحوث

إنتزال الجبوري: نحو وعي تربوي جديد في عالم متغير (4)

4- خزين القيم التربوية الفاضلة:

تُعتبر القيم أهم أداة تربوية في التربية التقليدية والحديثة، يمكنني الحديث عنها بشكل تفصيلي؛ كونها المعايير التي بها يوزن خُلُق الفرد، وبها يُرسم سلوكه، وتُحدّد هويته الأخلاقية في العائلة، والمجتمع العام.

تُعرّف القيم بأنها "مصطلح ينطوي تحته كل الأهداف ومعايير الحكم التي تؤدي بالفرد إلى السلوكيات الإيجابية في المواقف المختلفة التي تفاعل فيها مع المجتمع في ضوء معايير ارتضتها الجماعة لتنشئة أبنائها، وتُعد القيم التربوية إيجابية كلما أدّت إلى المزيد من النمو السوي لسلوك الفرد، وكلما اكتسبت من خلالها مزيدا من القدرة على التمييز بين المواقف المختلفة؛ في حين تعتبر سلبية كلما تسببت في إعاقة النمو في الاتجاه الصحيح"[1]. وتُعرف القيم أيضا بأنها" مجموعة معايير واتجاهات ومثل عليا تتوافق مع عقيدة الفرد التي يؤمن بها عن قناعة بما لا يتعارض مع السلوك الاجتماعي بحيث تصبح تلك المعايير خلقا للفرد تتضح في سلوكه ونشاطه وتجاربه وخبراته الظاهري منها والضمني، كما تتضح في التزام الفرد بتلك القيم خلال تصرفاته تجاه الإنسان من جهة، ورب الناس من جهة أخرى"[2].

والقيم أطر مرجعية لسلوكيات أفراد المجتمع تكمن أهميتها في كونها تمنح الحياة معنى، وتجعل الإنسان يسعى لهدف معين مهم يحقق قيمة له، أو للمجتمع. وللقيم أهمية في تفكير الإنسان، حيث تضع معايير تساعده على التفكير فيما ينبغي أن يفعله والأساليب والوسائل التي يختارها في حل مشكلاته وتعينه على تفسير السلوك العقلي، وتكمن وظائف القيم في دورها الفعال في حياة الطفل كونها معايير يميز بها الطفل بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والحسن والقبح. وتلعب القيم دور التنبؤ بسلوك صاحبها، حيث أن سلوك الفرد يظهر بما يحمله من قيم، وتعمل القيم على إيجاد التوافق النفسي والاجتماعي للأفراد[3].

وظائف القيم الفردية هي تهيئة الخيارات المعينة للفرد، وتحديد السلوكيات الصادرة منه، وتلعب دورا مهما في تشكيل شخصيته، وتحقق له الإحساس بالأمن، وتتيح له فرصة التعبير عن نفسه، وتعمل القيم على إصلاحه نفسيا وخلقيا، وتوجّهه صوب فعل الخير وتجسيده، وتربط القيم بين أجزاء ثقافة المجتمع ببعضها وتعمل على تماسكها وتناسقها، وتحفظ للمجتمع تماسكه داخل أهدافه وتمسّكه بمبادئه الثابتة، بالنتيجة تعمل القيم على إعطاء نمط في شخصية الفرد، وتجعله قادرا على التكيف الإيجابي مع متطلبات وظروف المجتمع الذي يعيش فيه[4].

للقيم دور مهم ومؤثر في سنوات تنشئة الطفل الأولى ومن المهم أن يكتسبها من الأسرة والروضة والمدرسة، ليتشكل لديه الإطار القيمي، ويكون مرجعيته لتمييز الخطأ من الصواب، والحرام من الحلال، ومن ثم يستطيع التكيف في المجتمع، وتكمن أهميتها في إيجاد حالة التوازن والتكامل في سلوكه وقدرته على مقاومة القيم المنحرفة، وإحداث حالة توازن بين مصلحته الخاصة والمصلحة العامة. وتسهم القيم في بناء شخصية الطفل وتحديد غاياتها وأهدافها ووسائل تحقيق هذه الغايات، وتساعده في حل المشكلات، واتخاذ القرارات. ويكتسب الطفل أيضا قيمه من المجتمع المحيط من خلال التفاعل الاجتماعي، والمجتمع المحيط يعلمه كيفية إشباع حاجاته المختلفة من خلال مواءمة سلوكه مع القيم السائدة[5].

القيم تجعل الفرد يتحمل مسؤولية الالتزام تجاه نفسه، وتقوية إرادته، والسيطرة عليها في كل الأحوال الخاصة الذاتية، والعامة الاجتماعية، أولا كونه كائنا إنسانيا يسعى لتحقيق ذاته بشكل كامل يمكّنه من الالتزام تجاه الناس باعتبار تلك القيم، والقيم تجعله يقوّم الميل في سلوكه، وتعلّمه تفهّم الآخرين، والتعاطف معهم، ومن ثم التسامح معهم، والانفتاح على الفضاء الاجتماعي، والتخلص من ضيق فضائه، والانسجام مع الطبيعة، وإنصاف الناس من نفسه، وأن لا يثق بالمظاهر ما لم يبحث عن حقائق أكثر عمقا[6].

فالقيم إذن معايير تحدد سلوك الفرد وخلقه؛ وهي بمثابة البوصلة التي توجّهه تجاه سلوك معين؛ حيث إذا أراد فعل شيء معين فإن ما يحدد موقفه منه هو خزين القيم التي تلقاها عن عائلته، ومربيه، ومحيطه؛ والقيم من أهم عوامل تكوين الشخصية، حيث إن شخصية الفرد يحددها طابع القيم التي تلقاها منذ بواكير حياته حتى نضجه الجسدي والعقلي الكامل.

وتتصف القيم بشموليتها لكل جزئيات الحياة الأخلاقية، والدينية، والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية؛ وتتمثل القيم بالمحبة، والصدق، وبر الوالدين، وبر المعلم، والأمانة، وأدب التخاطب، واحترام الآخرين، وتحمل المسؤولية، والشجاعة، والإخلاص في العمل، والعدل والإنصاف، والحفاظ على البيئة، والتعاطف والتسامح، والرحمة، والعطاء، والصلاح، والإيثار، والتضامن، ومراعاة القانون الاجتماعي العام، وتقديم العون للآخرين إن استدعى الأمر.

هذه القيم رافدها الأول الدين، والثاني المجتمع؛ ولكل مجتمع قيمه الخاصة. ما يمكن الجزم به في مجتمعاتنا أن القيم المذكورة تكاد تكون مشتركة فيما بينها، وهي التي تحدد هوية الفرد العائلية؛ ف "إن العلاقة مع الأب ومع الأم بشكل خاص هي علاقة كاملة تترك في الطفل بصمة لكل نزعاته الشخصية، إنها مرحلة غذاء، أمن، حنان، دفء، وتعلم سلوك"[7].

وتعتمد مجتمعاتنا العربية في تربية الأبناء على قيم تربوية مُستقاة من الدين أولا، والمحيط الاجتماعي ثانيا. ويعتبر الدين أهم منابع القيم لأنه من المشرع الأعلى أوردها في القرآن الكريم، ووردت في السنة النبوية. القيم الدينية تتمثل بتقوية الارتباط بالله، والتحلي بالأخلاق التي أوصى بها القرآن الكريم، التي منها بر الوالدين، واحترام الكبار، والعطف على الصغار، وملازمة الخلق الرفيع، وطاعة قوانين الدولة في المجتمع العام، والتحلي بالفضائل الدينية، والتضامن والعطاء فيما بين أفراد المجتمع.

والدين منجم القيم والأخلاق الإنسانية. ديدن التعليم الديني في بلداننا هو الشروع أولا بمعرفة الخالق وأمور الدين ومبادئه، والطفل يحفظها عن ظهر قلب دون فهم، وعلى تدرج المراحل العمرية تتكرر، وتتطور المعارف الدينية، ويحفظها وتكون الموجه لسلوكه وخلقه. وتربية الطفل وتعليمه القيم الدينية تبدأ منذ بواكير بلوغ الطفل السن المدرسي.

المعرفة بحقيقة الكون وأسراره وجمالياته، ومعرفة خالق الكون، ولماذا خلقنا؛ هي من أولويات تربية الطفل الدينية لتنمية وعيه الديني، ومن ثم تعليمه طقوس العبادات، وهذه حقيقة أكّدتها الكتب المقدسة.

لقراءة القرآن الكريم وتفهّم معاني ألفاظه أهمية قصوى لوعي الكون وما يحويه، والواقع وما يحتويه؛ وعي بمعرفة الله وخَلقه، (أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلࣲ مُّسَمࣰّى)[8] ، والقراءة العامل الأساس في هذا الفهم والتفكير والوعي؛ فالقرآن كتاب تثقيفي توعوي قبل أن يكون تبشيريا وعظيا بدليل الآية الأولى منه﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[9] .

يطرح الفيلسوف كانط رأيه في تلقين الطفل القيم الدينية دون الإشارة إلى أي دين من الأديان؛ حيث يؤكد على أولوية تعليم الطفل كيفية معرفة نفسه، والغايات والأهداف الأولى من الخلق، وما يتعلق بالإنسان حتى تُصقل معرفته، ويجب أن يطّلع على مظاهر الطبيعة وجمالياتها، ومعرفة واسعة عن بنية الكون، وكيفية ترتيبه الترتيب المنظم الرائع عندها يمكن أن يُكشف له فكرة الكائن المشرع والخالق الأكبر، مع العلم أن الطفل لا يمكن منعه من سماع اسم الله من على المساجد والصوامع والكنائس، ومن رؤية الناس حين يؤدون الطقوس التعبدية له، لكنه -كانط - يؤكد على إن معرفة الله مبكرا تسبب الرعب والخوف الذي يزرعه الوعّاظ في نفس الطفل من قدرة الله عليه والعقاب الإلهي، والخوف طبع بشري عام يتجلى أولا عند حدوث الظواهر الكونية، والطبيعية من زلازل وصواعق وكسوف وخسوف، وغيرها. وأن تكون عبادة الله عبادة فرح وتقوى، وأداؤها يكون بمزاج مرتاح، لا عبادة كئيبة ومرعبة وخجولة وحزينة. وأن نعلم الطفل احترام الذات والكرامة الشخصية، واحترام الناس وأراءهم وحفظ حقوقهم، وأن يتعلم الطفل الاشمئزاز لكل ما هو منفّر وعبثي في الحياة العامة، ويؤكد كانط على أن الديانة هي (أخلاق مطبقة على معرفة الله)، فيقرن الديانة بالأخلاق، وأن الطقوس والعبادات ماهي إلاّ استعدادات للأعمال الصالحة التي تخدم الناس، وليست هي الأعمال نفسها، وأن الرذائل التي يمنعها القانون البشري إنما هي بالأساس من المشرّع الأعلى الذي هو الله وليس الإنسان. معرفة الأخلاق أولا، ثم معرفة الله، لأن معرفة الله أولا، ومن ثم تعليم الأخلاق تبث في نفس المتعلم الخوف والرهبة. الله هو الحاكم وصاحب الحكم لكنه أقام في داخلنا مكانا للحكم هو الضمير، فمعرفة الضمير وتنقيته من كل ما يشين إلى الطبيعة وحياة الناس ويكدرها. ينبغي أن يتعلم الطفل الخوف من الضمير الداخلي إذا ارتكب خطأ قبل أن يخاف الله، هي الطريق الأسلم والصحيح لتبجيل الله وإكرامه لأنه تصرّف وفق إرادته، وتعليم الطفل إجلال الله ووقاره فهو رب الحياة ورب العالم أجمع[10]وإن" الديانة التي تجعل الناس قاتمين هي ديانة باطلة لأنه ينبغي أن نخدم الله بفرح القلب وليس بالإكراه".[11]

لنأخذ نماذج من قيمنا التربوية التي يتلقاها أبناؤنا وأثرها في الحياة الخاصة والعامة؛ -مثلا- قيمة المحبة هي أقوى رصيد يتلقاه الطفل في مقتبل حياته، وهي أسُّ التربية المتينة، حيث تعبّئ الطفل بالقوة، واللطف، والرقة، والشفافية؛ وتجعله مشفقا، بارا، حنونا، متحكما بذاته، قوي النفس، محبا للعطاء، والعمل من أجل راحته وراحة المجتمع.

أهم صورة للمحبة في المحيط العائلي هو حب الأبوين له، ويأخذ الحب صورا وأشكالا متعددة لا تقتصر على الكلام والاحتضان بل على الاهتمام وتشجيع الطفل حينما يؤدي عملا ما فيه تفتّح لقابلياته، ومواهبه الذهنية. التربية عملية القصد منها السعي نحو التحسّن لا الكمال. حب الأم والأب والمعلم والأسرة والأصحاب هو أهم الأمور عند الطفل. [12] تنمية المحبة والإحسان في نفس الطفل تجاه المجتمع الخارجي، وتلقينه عادة إلقاء السلام على من يلتقيه من أفراد المجتمع، والتزام أدب المجالس، والحديث حينما يكون في مكان عام، أو في مجلس مختصر.

يصنّف علماء التربية الحب الذي يغدقه الأبوين على الطفل إلى نوعين: الحب المشروط والحب غير المشروط؛ فالحب المشروط هو الذي يمنحه الأبوان للطفل حينما يقوم بسلوك معين كأن يقوم بأداء واجباته المدرسية، أو صحبة أخيه الأصغر منه، وغيرها لكن بشرط أن لا ينعكس سلبا على الطفل حينما يشعر أن أبويه يحبانه فقط لأجل سلوك إيجابي يأتي به الطفل، فالحب ليس صفقة فيها طرف رابح وخاسر بل هو عطاء بلا حدود، والحب غير المشروط هو الحب العفوي الذي يغدقه الأبوان بفطرتهما عليه بدون القيام بأي سلوك، وهو الذي يشعر الطفل بالأمان والسعادة وراحة النفس[13].

والمحبة ينبغي أن تكون ممزوجة بالحزم، وتعليم الطفل الخضوع، والطاعة الإيجابية؛ وإلزامه كل ما يُملى عليه من قواعد أخلاقية معينة كون ملكة الاقتداء بالآخر قوية عنده، وتعليم الطفل ضبط حريته، ومن ثم تعليمه كيفية استخدامها بصورة صحيحة فيما بعد حينما يختلط في جو المدرسة والمجتمع العام، ويعرف حدود حريته وممارستها بطريقة لا تضر بالآخرين[14]-على سبيل المثال- حينما نطلب من الطفل أن لا يرفع صوته، أو يصدر حركة غير لائقة بوجود الضيوف، أو يزعج أمه أو أباه حينما يكونان مشغولين بعمل "فالنفس البشرية كالغاز يتمدد على الدوام ما لم يكفه ضغط خارجي، وهدف التربية من هذه الناحية أن تجعل الضغط الخارجي هو العادات والأفكار والميول العاطفية في عقل الطفل نفسه، لا الضرب واللكم والعقاب"[15]. استخدام الحنان والحب مع صرامة وحزم، فالحب يدفع المربي لأن يستخدم أسلوب الصرامة غير المؤلمة ليستقيم الطفل[16] .

قيمة النظام والحفاظ على القانون يتعلمها الطفل بشكل أولي عبر اهتمامه بشؤونه الشخصية -مثلا الاهتمام بالنظام الغذائي المتوازن، والنشاط البدني اليومي اللذين ينعكس أثرهما الإيجابي الصحيح والسليم على نمو جسمه، وتعليمه منذ الصغر مهارات الاهتمام بتنظيم الوقت وعدم الإفراط به بما لا طائل منه؛ فقيمة النظام، وحفظ القانون، والحرص على الوقت توفّر له الثقة العالية بالنفس والاستقلالية، وحب النظام في محيط العائلة وخارجها.

قيمة الصدق حينما نعلّمها للطفل منذ بواكير وعيه، وتجنب الكذب يولد عنده الشعور العالي بالثقة، وتُرسم حدوده مع الآخر، والطفل بطبعه خائف وخجول، والأبوان يحميانه من أي خطر خارجي في سنيّه الأولى، فالخوف والخجل أحيانا يحثان الطفل على الكذب. "يحط الطفل كرامته إلى ما دون كرامة الإنسان من خلال الكذب، لأن الكذب يفترض مسبقا القدرة على التفكير، وعلى التواصل مع أفكار الآخرين. الكذب يجعل من الإنسان موضوع ازدراء عام، وهو وسيلة لسرقة الاحترام والثقة في نفسه التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان"[17].

تفعيل قيمة التعاون بين أفراد الأسرة بإشراك الأطفال في أعمال المنزل التي لا تشكل ضررا على صحتهم الجسدية ولو من قبيل الاهتمام بترتيب شؤونهم الشخصية، وأغلب الأحيان يبدع الأطفال في التعاون ويفعلون المزيد. لا ينبغي أن يفعل المربي للطفل ما يستطيع الطفل هو أن يفعله بنفسه، مثلا ارتداء ملابسه، حمل حقيبته المدرسية بدلا عنه، ومساعدته على احتذاء حذاءه. وتسري قيمة التعاون والتضامن إلى المجتمع الخارجي، وتتجسد في مشاريع الخير، وكلها تعبّئ الطفل للاندماج في المجتمع.

يرى طبيب النفس الفرنسي Serge Tisseron  تعليم الأطفال منذ الصغر تقنيات التعرف على مشاعر الآخرين، وأيضا تعليمهم حسن النظر إلى مشاعرهم من خلال التعاطف الذاتي؛ فالتعاطف الكامل مع الذات أولا، ومع الآخرين ثانيا يستثير مناطق عدة في الدماغ، حتى اذا بلغ الطفل عمر 8-12؛ فإنه من اللازم أن يكون قد وصل تربويا إلى مرحلة الاعتراف بتعدد وجهات النظر، واقتنع بضرورتها؛ وهذا الأمر سيفتح الطريق أمامه لاحترام مبدأ المعاملة بالمثل، ولكن -حسب قوله- أن أغلب الأطفال يتوقفون في منتصف المحطات التربوية، ولا يصلون إلى نهاية الطريق المؤدي إلى التعاطف الناضج الكامل مع ذواتهم ومجتمعاتهم[18]. على المربي أن يفكر فيما يتعلمه الطفل من التجارب، هل يتعلم مهارات حل المشكلات والاهتمام الاجتماعي أم يتعلم أن من حق الأقوى أن تكون له السلطة ويعامل الآخرين بعدم الاحترام؟ [19]، ويعتقد عالم النفس ألفريد أدلر "أن الصحة العقلية بما فيها تقدير الذات مرتبطة بصورة مباشرة بحجم الاهتمام الاجتماعي لدى الفرد، والاهتمام الاجتماعي معناه الاهتمام الحقيقي لدينا بالآخرين واحترام الاختلاف"[20]؛ فينوجد التآلف والتآزر داخل العائلة، ومع البيئة المحيطة.

الاحترام أيضا قيمة يتعلمها الطفل في العائلة، ومن ثم احترام الآخرين وحفظ حقوقهم الحياتية، من خلال التطبيق، كأن يُعلم عدم الاعتداء على الطفل الآخر دون مبرر، أو يضربه، أو يهزأ به؛ لأن تصرفه هذا ضد حقوق الإنسان. ينبغي على كل من يتولى تربية الطفل أن يعامله بكامل الاحترام والكرامة لأن كل البشر بحاجة للاحترام وشعور الكرامة، حتى يشعرون بالانتماء والأهمية[21]، ويكنّون الاحترام لمن يشاركهم الحياة الخاصة والعامة، ولا يضر بعضهم بعضا.

ولكي نجسد قيمة العطاء عند الطفل يجب أن نعلّمها إياه نظريا وعمليا، كأن يقتسم شيئا من الحلوى مع صديقه، ويمكن أن يعده الأهل بقطعة أخرى لو أعطى قطعته. ويمكن أن تُستنهض صفة الإحسان للآخرين عند الطفل عبر استعطافه ليكتشف معنى واجبه ليبادر إلى مساعدة الآخرين، وفكرة وجوب الإحسان يجب أن تكون هي المتعمقة في فكر الطفل لا الشعور الذي يعتريه حينما يُحسن للآخر، فحينما نفعل الخير للفقراء إنما هو واجبنا تجاههم وهو واجب إلزامي، وهو من أجل الله. يمكننا أن نسمح للطفل بأن يتملّك أشياءه الخاصة، وفي نفس الوقت نعلّمه كيفية العطاء مع الآخرين أقرانه إذا أحبوا أن يشاركوه لا أن يعارض، أو يشاكس ففي مثل هذا السلوك يعلمه التعاطف والتعاطي مع الآخرين، وفن الحوار الهادف معهم.

يفسّر لنا علم الاجتماع عملية العطاء الاجتماعي في إحدى نظرياته؛ (نظرية التبادل الاجتماعي Social Exchange Theory)؛ روادها هم؛ كيلي، وثيبوت، وجورج هومانز، وبيتر. فحوى هذه النظرية هو" إن الحياة الاجتماعية عملية تفاعلية تبادلية بين طرفين؛ كل طرف يأخذ ويعطي، وليس فقط يأخذ أو يعطي، وهذا الأخذ والعطاء يؤدي إلى ديمومة العلاقة التفاعلية واستمرارها وتعمقها، وأما المبادئ الأساسية التي تستند عليها هذه النظرية فهي أن الحياة الاجتماعية هي عملية أخذ وعطاء، وتبادل بين شخصين، أو فئتين، أو جماعتيْن، أو مجتمعيْن، وتتعمّق العلاقات وتستمر اذا كانت ثمة موازنة بين الأخذ والعطاء؛ أي بين الحقوق والواجبات المتعلقة بالفرد، أو الجماعة، وتتوتر العلاقات، أو تنقطع اذا اختل مبدأ التوازن بين الأخذ والعطاء بين الشخصين المتفاعلين"[22].

قيمة الجمال أيضا ينبغي للطفل أن يستلهمها من المربي أولا-مثلا- تربية الطفل على الاهتمام بالفن كتعليمه الرسم، والموسيقى، والنقش على الخشب أو المعادن، أو الخياطة، أو التطريز، أو غيرها. وتعليمه السكون، والهدوء، والتأمل في الأشياء واكتشاف مواطن الجمال فيها كالنظر في لوحة فنية، أو منظر طبيعي، أو ما شاكل ذلك، والتعبير عنها شفاهيا أو تحريريا. كذلك كيفية التعامل مع الطبيعة ومفرداتها والحفاظ عليها، وتوطيد العلاقة معها ليكون صديقا لها، لا يلحق الأذى بها، محبا لجمالها، والتزام النظام والنظافة فيها، وهي ملك المجتمع بعامته.

وأدت تعقيدات وتغييرات عصرنا الراهن بالمجتمع إلى عدم التمييز بين القيم الموجودة في داخله عن القيم الوافدة من خارجه، وهذا ما يؤدي إلى عدم وضوح الرؤية، والخلط بين ما هو أصيل وما هو دخيل. وأحسن وسيلة هي الانتقال بالقيم المجتمعية الأصيلة من مستوى التنظير إلى مستوى العمل في كافة المجالات. وحينما يسير الناس وفق القيم المعتبرة عندهم فإن الصراع ينتفي فيما بينهم، ويتحقق التوازن النفسي للفرد، وبدوره يحقق التوازن المجتمعي، وفقدانه بعد فقد القيم والعمل بها فإنه يؤدي به إلى التوتر والقلق[23].

وتمثل القيم ممهدات لتعليم الطفل كيفية الانخراط والتـأقلم والتفاعل مع العالم الاجتماعي الخارجي حتى يلج المحيط -الاجتماعي بنمط عائلته، ولكل عائلة نمطها الخاص من السلوكيات والعادات والأخلاق والطباع. المحبة، والصحبة الحسنة، والاصغاء والتقليد، وتطبيعه على النمط الاجتماعي من طفولته وحتى شبابه وفق المعايير الاجتماعية العامة. وكلها تشكل السيناريو الأسري الممثل للطفل حينما يخرج إلى ميدان الحياة الاجتماعية المتمثل بالمدرسة، والمؤسسات الأخرى، وتمثل خزينه النفسي، والعاطفي، والعلائقي، والمعرفي، والمهاري، ووسائطه الدفاعية التي سيخوض بها معركة الحياة، وكلما كانت مقومات الصحة النفسية متوفرة كانت فرص التفاعل والانفتاح والاغتناء والعطاء المتبادل ومرونة التكيف أكبر تكون الحياة مشروعا مفتوحا. أما إذا كان هذا السيناريو مثقلا بالاضطرابات، والعقد النفسية، والمعوقات تنحسر تبعا له إمكانات الانفتاح والتأقلم والاغتناء ويجعل الحياة مشروعا متعثرا، متأخرا، وأحيانا فاشلا[24].

بعد تمام نضج الطفل الجسدي والعقلي، تتبلور القيم المذكورة في نفسه حينما تُغرس منذ صغره بشكل صحيح؛ فتكون بصمته الخاصة التي تميزه في المجتمع العام، والعيش وفق ظروفه ومتغيراته، وتمكّنه من النمو والتطور بشكل متين ومتوازن.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري – باحثة عراقية 

.................................

[1] الصغير، أحمد حسين. القيم التربوية المتضمنة في بعض الحكايات الشعبية. (دراسة تحليلية). رسالة ماجستير غير منشورة- كلية التربية، جامعة أسيوط، 1991م، ص9.(نقلا عن شريف، د. عبد القادر. التربية الاجتماعية والدينية في رياض الأطفال. بدون مكان النشر: بدون طبعة، بدون تاريخ،

[2]دياب، فوزية. القيم والعادات الاجتماعية. القاهرة: دار الكتاب العربي، 1996، ص52-53.

[3] أنظر: شريف، د. عبد القادر. التربية الاجتماعية والدينية في رياض الأطفال. بدون مكان النشر: بدون طبعة، بدون تاريخ، ص147-158)

[4] أنظر: طهطاوي، سيد أحمد. القيم التربوية في القصص القرآني. القاهرة: دار الفكر العربي، 1996، ص45-46.

[5] أنظر: عبد العزيز، إيناس أحمد. القيم التربوية المتضمنة في قصص الأطفال الأجنبية بالحلقة الأولى من التعليم الأساسي بالمدارس التجريبية لغات. رسالة ماجستير، كلية التربية- جامعة حلوان، 2000، ص64-65.

[6] باينس، جون. أسس التعامل والأخلاق للقرن الحادي والعشرين. ترجمة: أحمد رمو، ص376.

[7]  الدريع، د. فوزية. القُبلة. منشورات الجمل، ط1، 2006، ص64-65.

[8] الروم- 8.

[9]  العلق-1.

[10] أنظر: كانط. مصدر متقدم، ص106-111.

[11]  نفس المصدر والصفحة.

[12]  أنظر: نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص197.

[13] أنظر: سيد حامد. مصدر متقدم، ص29-30.

[14] نفس المصدر، ص40-42.

[15] رسل، برتراند. مصدرمتقدم، ص105.

[16]  أنظر: نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص155.

[17] كانط، مصدر متقدم، ص99-100.

[18] أنظر: الجبوري، إنتزال. (العطاء أس العلاقة مع الآخر والأنا). نقلا عن موقع نقلا عن موقع ذاعة مونتكارلو. صحيفة المثقف(23/6/2021).

[19] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص201.

[20] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص201.

[21] نفس المصدر، ص117.

[22] صغير، عطاف مناع. نظريات علم الاجتماع العام. موقع:New- educ.com.

[23] أنظر: كشيك، منى. القيم الغائبة في الإعلام. مصر: دار فرحة للنشر والتوزيع، 2003، ص 84.

[24]أنظر: حجازي. مصدر متقدم، ص215.

 

في المثقف اليوم