دراسات وبحوث
مجدي إبراهيم: القرآن.. والتجربة البشرية
أثر القرآن الكريم على التجربة الإنسانية ظاهر لا شك فيه، من حيث كونها ذات أبعاد تتصل بالحضارة وبالثقافة وبالمعرفة وبالوجود الروحي على التعميم. فالقرآن له بالمباشرة أثر على الإنسان من هذه الجهات مجتمعة ومفردة على السواء، وكل تجربة عميقة ذات أثر في الإسلام كان للقرآن فضل فيها، بل هو مظهر أساسي من مظاهر مكوناتها.
تتكون التجارب البشرية بالفاعلية والعمل والمباشرة والتعلق وامتدادات الوجود بمسائل المصير، وهى لا تتكون فارغة غير مُحاطة بالوعي ولا ملآنة بالممارسة، التجارب الفاعلة والمؤثرة لها بعدٌ روحي أعمق من الكلمات.
ولسوف أتتبع هذا الأثر القرآني على الوجود الروحي عامة كمظهر فعال يعدُّ هو الأساس لكل نشاط سواه.
للصوفي العظيم السَّهْرَوَرْدِيّ المقتول سنة 632هـ، إشارة كاشفة يقول فيها: “اقرأ الكتاب بوجدٍ وطربٍ وفكر. وأقرأ القرآن كأنه نَزَلَ في شأنِك”.
ولم تكن تلك الإشارة إلا تجربة عاشها قائلها، فكأنما كانت بالفعل هى حياته، عاشها وتمثلها حتى الرمق الأخير، فصدرت عنه كما لو كانت قطعة من روحه، فاعلة ومؤثرة.
يظهر فيها فعل الطرب العلوي واللذة الروحانيّة، تنشأن من أثر القراءة على بصيرة، ونحن نود في تلك الأسطر توضيح العلاقة بين الطرب والوجد من ناحية، والفهم والفكر من ناحية ثانية؛ إذْ الوجد والطرب والفكر صفات مجتمعة: خصائص للذاتية الخاصَّة للقرآن يتقدّمها الفهم لامحالة؛ فيأتي الطرب والوجد فيساوقا ذلك الفهم الذي تقدَّم: خاصّة ذاتية تعرفها الحالة الروحيّة، فتشرق في القلب قبل الظاهر المحسوس، ويكتشفها في نفسه المتحقق بها، يقاربها ويتذوقها، ويستشعر آفاقها المتسعة بين ضلوعه وجوانحه، وتكون مع ذلك كالطلاسم المُبهمات لمن لا يدرك لها معنى ولا يصيب منها تحقيقاً: (ولكل درجات ممّا عملوا).
– فهم القرآن: اتّساق الحالة مع الفكرة
وقد يترادف الفهم تحقيقاً مع الفكر، ويقابله مقابلة الشبيه مقابلة واضحة لا غموض فيها. وبما أن الشبيه يدرك الشبيه كما يُقال؛ فالفهم يدرك الفكر ويؤدي إليه من أقرب طريق، ويمدُّ الفكر الفهمَ بأواصر القربة لا محالة؛ فما الفكر هنا إلا الفهم. وما فكر مَنْ فكر إلا مَنْ فهم، وعن الفهم تصدر حالات الوجد والطرب، ولا تصدر مطلقاً بغير فهم ولا تفكير.
فالذي يطرب لمعنى آية من آيات التنزيل هو بلا شك كان قد فهمها في السابق؛ فاتّسع معناها لديه من كثرة التفكير فيها، فطرب لها شعوره وَوَجِدَتْ لديه قواه الباطنة.
ومن هنا، جاء الوجد علامة رُقيِّ الفهم الذي يصحب حالات التلاوة على الحضور. فالوجد والطرب حالتان في باطن النفس يتقدمهما الفكر أو الفهم ولا تتقدم هاتان الحالتان على الفكر أو الفهم بوجه من الوجوه؛ فالذي يجد ويطرب لا يجد ولا يطرب من غير فهم ولا فكر، ولكنه يفهم أولاً، أي يفكر ثم يطرب لما عساه يفكر فيه، وهو لا يطرب حين يطرب لغير فهم سابق ولا تفكير متقدّم، وإلا سيكون طربه عَرَضَاً لحالة نفسية مضطربة مجهولة غير مفهومة ولا معلومة؛ لأجل ذلك كان العلم في القرآن بداهةً مُقدّماً على ما عاداه، وكانت المعرفة سابقة على الوهم الذي يعجز معه الاستبصار؛ إذْ ذَاَكَ يطرب الواجد لمعنى يحسّه في قواه الباطنة بعد أن يكون قد فهمه وفكر فيه؛ ليتسق الفكر مع الشعور فلا يُوحي بتناقض يفصل الحالة عن الفكرة.
الفكرة في القرآن سابقة (مُتقدِّمة) والحالة لها تابعة (لاحقة) ما في ذلك شك، ولا يحدث العكس أبداً؛ لأنه إذْ ذَاَكَ إنْ حَدَثَ يلغي الفكر والعلم والفهم وكل المفردات والعناصر الفاعلة التي تقوم عليها المعرفة وتستند القيم العليا للإنسان عليها، وتبطلها من أساسها، ليس هذا فقط، بل وتقدَّم الجهل والخرافة والوهم والتضليل على العقل والنور والذوق والاستبصار.
تقودنا إشارة “السَّهْرَوَرْدِى” الكاشفة إلى نصِّ هو من الأهمية بمكان، كان “الزَرْكَشِي” شَرَطَهُ في “برهانه” حيث قال:” أصلُ الوقوف على معاني القرآن التَّدَبُّر والتَّفَكُّر. واعْلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقةً، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه كِبْرِ أو هوى، أو حُبّ دنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو معتمداً على قول مُفَسِّر ليس عنده إلا علم الظاهر، أو يكون رَاجِعَاً إلى معقوله، وهذه كلها حُجُب وَمَوَانع، وبعضها آكد من بعض…”.
وفهم القرآن هو أول ما يُقَابلنا من جهة المقاصد؛ ليُشكل بجانب الحضور أركان الذاتية الخَاصَّة للقرآن، وإنما المُرَادُ من فهم القرآن أن تريده وحده هو عينه المُراد من الخَاصّة الذاتية له، وفي تلك الخاصَّة الذاتية بشرى ورحمة: “فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسَنه، أولئك هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب” (سورة الزمر: آية 17- 18).
فإذا وصفهم – سبحانه – بأنهم أولو الألباب، كان هذا الوصف وصفاً على المدح العاقل لفهم، من جانبهم، للخاصّة الذاتية في استماع القول وإتباع أحسنه؛ فهو من جهة حدَّد الإطار النظري في كلمة “استماع القول”، أي جَعْل القول مناط “العلم” أولاً، ومن جهة أخرى قَرَنَ النظر بالتطبيق تَوَخِّياً للفاعلية العملية (أي المعاملة)
ثم جَعَلَ العمل والسلوك سياجاً حافظاً في المسارعة إلى مَحَابّ الله وتجَنّب مساخطه.
هذه إرادةُ مُغيِّرة تأتي كما لو كانت لبنة جذريّة وأساسية تشكِّل ذاتية القرآن الخاصَّة، إذْ تستحقُ الوصف بالهدى مدحاً غير منقوص ووصفاً بالعقل الذي هو اللب. وذلك ضربُ لا شك فيه من الاعتقاد السَّاري دوماً في فهم القرآن على الصفة المَخْصُوصَة بذاته لا بسواه، ولذاته لا لغيره، من أجل ماذا؟ من أجل “إرادة التغيير”.
ولقد سبقت لنا الإشارة في الكلام عن الحُضور: أنه ذو دلالة على قوة العقل يتولد عنها ذكاءُ الذهن، فيقوى الفهمُ ويستبينُ فيه اليقين، ويصفو من ثمَّ مع استبانة اليقين؛ يصفو الذكر مع قوة الفكر في آي القرآن. واعتبرنا أن هذه الخَاصَّة الذاتية التي تترتب على الحضور هي من موروثات الممارسة ومن ثمار المعاناة في ممارسة الحضور دوماً وفي غير سَهَيَان، وقلنا إن من شأنها أن تتغلغل في عمق داخلي “جُوَّانيِّ” يراها من يطبقها، لا بتعّلم ولا باكتساب؛ بل بهزَّةٍ لدُنيَّةٍ مُفَاضة فيضاً من عند الله: فَيْضٌ في فضل، وفضلٌ من فيض: “قُل بفضل الله وبرحمته؛ فبذلك فليَفْرحُوا هو خيرٌ مَمَّا يَجمَعُون” (سورة يونس: آية 58).
لم نكرر هذا المعنى من جانبنا إلا لتوضيح أمرين اثنين،
الأول: يتصل بموقف القرآن من العلم، وهو موقف جوهري أصيل يرتبط ارتباطاً مباشراً بحرية العقل المقرّرة سلفاً في الإسلام.
والأمر الثاني: يتصلُ بشرط الحضور في القرآن؛ كون “العلم” فيه شروعاً في التطبيق، ووقوفاً على المباشرة العملية والممارسة الفاعلة.
- القرآن والعلم:
فأمّا الأمر الأول: فهو الذي نتوقف عنده تلك الوقفة؛ لنُجلي بعض عناصره بالنظر فيما صاغه الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي في مقدّمة المصحف المُفسر، وفيما أبداه الدكتور محمد غلاب عن موقف الإسلام من العلم في كتابه “هذا هو الإسلام”؛ ففي هذين الرأيين من تشابه في الوجهة الدفاعية عن الإسلام، وفي توضيح صورة الإسلام الحقيقية خلال تعاليم القرآن ما من شأنه أن يمكننا من ملاحظة قدر انعكاس المعارك الفكرية التي خاضها أمثال هذين العالمين الجليلين مع غير المسلمين من المستشرقين حول الإسلام وقضاياه الكبرى. ومنها على سبيل المثال لا الحصر قضية إنكار موالاة الإسلام للعلم والدعوة إليه والحضّ عليه والإخلاص فيه. واعتبار القرآن – كتاب المسلمين المقدّس – عائقاً للنظر العقلي كما كان يُشَاع لدى بعض المستشرقين.
ولم يكن الفهم – موضوعنا كشرط للخاصّة الذاتية للقرآن – ببعيد مطلقاً عن حرية العقل والعلم، ولم يكن العقل على الإطلاق مُضاداً للدين كما هو مُقرّر في الإسلام؛ فما بين الفهم والعقل والعلم وشائج وصلات لا تختلف كثيراً في روابطها المعرفية وتوجُّهاتها لوحدة القصد في آي القرآن الكريم؛ فالعلم كقيمة من القيم النافعة الباقية لن تقوم له قائمة بغير إعمال العقل.
ولن يكون للعقل ولا للقيم العقلية والمعرفية وجودٌ فعليّ مؤثر على الحقيقة، بغير الفهم الذي هو أحد الأدوات الظاهرة لشهود العيان في استخلاص القيم المعرفية والعلميّة. ولم يكن الحارث بن أسد المحاسبي (ت243هـ) ببعيد عن الصواب حين صَنّفَ أحد كتبه الممتازة (العقل وفهم القرآن)؛ ليكون إشارة قريبة دالة على توحيد المعرفة العقليّة، واتصالها مع فهم القرآن على شرط العلم النافع المُوَجَّه لوَحْدَة القصد. ولا سبيل لفهم الدين إلا بالعقل الذي تنشأ عن فرط استخدامه ملكات التفكر والتّدبُّر والإحالة والتحقيق.
لقد كانت هنالك دعوى عريضة تبناها نفرُّ من المستشرقين الأوروبيين الذين أرادوا الطعن على الإسلام كان منهم من قال: إنّ الإسلام يُحارب الفكر، ويقضي على حرية الرأي، ويحظر على معتنقيه الاشتغال بالعلم الدنيوي، ويقوّض من ثمَّ دعائم الإبداع الإنساني، ولم يبح لأشياعه إلا العناية بالعلوم الدينية؛ وإنه ليعتبر التبحر في العلوم الطبيعة ضرباً من الزندقة التي تستوجب العقاب. وأن القرآن، كتاب المسلمين المقدس، عائقٌ للنظر العقلي كما كان يقول المستشرق الفرنسي (أرنست رينان Ernest Renan (1823- 1892) الذي أقام تفكيره الاستشراقي كله في التعامل مع العرب والمسلمين على الأفكار العنصرية مُفرّقاً بين العقل السامي والعقل الآري، ومؤمناً في إطار تلك التفرقة بالنهضة الكبيرة التي تحدثها أوروبا نظراً لما توليه المجتمعات الأوربية للعلم من اهتمام. ولقد تصدى لأفكار “رينان” كثيرٌ من المفكرين المصلحين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى عبد الرازق وفندوا دعواه الباطلة كل التفنيد.
ليس هذا فقط، ولكن أيضاً ردَّدَ المستشرقون من ضمن دعواهم: أن ما عثر عليه التاريخ لدى المسلمين من معارف فكرية هو دخيل عليهم – ليس بأصيل فيهم – من الإغريق وفلاسفة اليونان يرجع الفضل في ترجمته إلى خلفاء العباسيين الذين ورثوا سعة الأفق من أمهاتهم الفارسيات، أو أوحى بها إليهم وزراؤهم ومستشاروهم من الفرس والمسيحيين.
ولم يكن السبب كافياً لقيام تلك الدعوى أو قيام غيرها من دعوات المستشرقين لولا وجود نفرٌ بين المسلمين زعموا على الجهالة أن العقل عدو الدين، ولا سبيل لفهم الدين بواسطة العقل، حتى كان من ضمن الأفكار التي نادوا بها عدم إقرارهم بالعجز عن إدراك ذات الخالق وتشبثهم بوصفه بما يروق لعقولهم، وترضاه لهم مداركهم، وحَمْل الناس على اعتقاد ذلك، والعمل به ومعاقبة كل من يناقشهم فيه.
ومنها: حسبانهم مسائل خلق الكون من الدين وتقدير الطبيعة بحسب أفكارهم وقصر قواها وعجائبها على ما وصل إليهم من الأقاصيص القديمة الخُرافية. على حين كانت أوروبا تدين بمبدأ هام في العلم التجريبي وهو أن لكل ظاهرة طبيعية علة ناموسية تفصلها فصلاً تاماً عما بعد الطبيعة. ومعنى هذا أن مؤثرات الكون محتواة فيه، ليست خارجة عنه، ولا آتية إليه من عالم أسمى كما تقول المسيحية أو الفلسفة. وقد نجم عن هذا بالضرورة فصل العلم عن الدين وعما وراء الطبيعة.
يرفض الإسلام أن يكون العلم وثناً من الأوثان؛ فلم تصغر الإنسانية قط كما صغرت الآن بوساطة العلم المادي الذي يقضي عليها أو يكاد بالانزواء في ركن ضيق محدود من أركان الوجود، وهو ركن التجربة الحسيّة، مادام أنه يحاول جهد الطاقة أن يفقدها كل اتصال يتجاوز حدود المحسّات، ويحملها على جحود كل ما يتعدى أفق المرئيات.
ولكن مع ذلك كله، فقد بلغ الغلو في حمل الناس على هذه الأغاليط بالخلط بين العلم التجريبي والمبادئ العلمية المقررة في القرآن وقياسها على كشوفات العصر؛ ليقال للناس: إمّا هذا وإمّا ذاك، إمّا أن تأخذوا بالعلم التجريبي وكفى، وإمّا أن تتخلفوا عن ركب التقدّم، فظهرت العداوة بين الدين والعلم أو بين العقل والحرية أو بين الفهم وترقية الأذواق والمعارف إلى حد أنهم تربصوا بكل ما يشمون فيه بارقة الحرية العقلية فنكلوا به شرّ تنكيل وأذاقوه العذاب الوبيل، فكم أحرقوا من علماء، وصلبوا من حكماء، وسموا من نبلاء أذكياء، حتى شوهوا وجه الحق مذهبهم وجعلوه عنوان العَسَف والإجحاف بعد أن كان الدين رائد العدالة والإنصاف.
ومهما يكن من شيء؛ فإن تاريخ الإسلام الطويل المفعم بعظائم الأحداث وجلائل الوقائع، لم يحدثنا مرة واحدة أن الإسلام قد حاول، أدنى محاولة، أن يحطم مدنية أمة من الأمم التي فتحها، ووضعها تحت إمرته، وأخضعها لرايته، وإنما كان دائماً يطبعها بطابعه ثم يضمها ويحولها إلى غذاء صالح يفيد أتباعه في دنياهم، أو ينبههم إلى ذكرى تنفعهم في آخرتهم.
ولا ريب أن مسلكاً هذا شأنه ونهجاً مليئاً بالحكمة إلى هذا الحد، ينمُّ عن سعة عظيمة في الأفق تعلوها درجة عالية من التسامح والاعتدال ليشف عن حجة بالغة ضد أولئك المتجنين على الإسلام، المسيئين إلى سمعته، زوراً وبهتاناً، بعزوهم إليه أنه كان – منذ أن وجد – حرباً ضروساً على الفهم والعلم، وعقبة كأداء في سبيل المعرفة والثقافة والتقدّم. ولا جَرَمَ أن هذا الاتهام البعيد عن الحقيقة بعد العدم عن الوجود: إمّا أنه ناشئ عن جهل وسوء فهم للمبادئ الإسلامية، وإمّا أنه شرر متطاير من نار الحقد والحفيظة وسوء النية واسوداد الطويّة.
وأيا ما كان؛ فإنّ الحقيقة التي لا مراء فيها هى أن البحوث العقلية والمجهودات الفكرية والمجادلات النظرية والمحاولات العلمية … وبالإجمال كل فروع المعرفة الإنسانية لم تحارب من الإسلام أية محاربة؛ بل على الضد من ذلك: أمر بها وشدَّد في الحض عليها.
ولا شك كانت هذه الجوانب من المعرفة البشرية هى التي كانت معروفة في تلك العهود باسم العلم الذي طالما أمر به القرآن الكريم، ورفعه إلى الأوج، وجعله في مقدمة الشئون الإسلامية، وأمعن في إبراز الفروق الهائلة بين العالم والجاهل؛ فشبه الأول بالأنوار، والثاني بالظلمات.
ولقد بلغت عناية القرآن الكريم بالعلم إلى حد أنه قرَّرَ أن الإنسان الذي يخشى الله أكمل الخشية، ويقدر جلال الألوهية حق قدرها، إنما هو العالم وحده: “إنما يخشى الله من عباده العلماء”. “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. “وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور”. “وقل ربي زدني علماً”. “وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم”.
ولمّا أراد الله تعالى أن يقطع حجة الملائكة الذين كانوا يبدون شيئاً من الدهش ممّا يوشك أن يكون شبه اعتراض على الحكيم العليم جل شأنه، حين أراد أن يجعل في الأرض خليفة:”قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون”.
لم يجد شيئاً يلزمهم الحجة أكثر من إظهاره جهلهم بما يعارضون فيه، وبالإتيان بآدم الذي كانوا يعترضون على وجوده وإبرازه في صورة تفوقهم … ولكن لا في القوة، ولا في البطش، ولا في السلطان، ولا في الجاه، بل في العلم، وهو أسمى ما يتحقق به التفوق والامتياز:”وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إنْ كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السّموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون”.
هنالك يصبحُ العلم في القرآن كائناً حَيّاً، شأنه شأن القرآن نفسه، لم يكن ليغفله في الإحاطة والشمول إلا الغافل الذي لا يقف على حيويته المتحركة في إطار المأمور به فرضاً، فليس أعلى من طلب الزيادة منه، وليس أقدر على التفرقة لمن يعلم حق اليقين أن لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ولم تبلغ عناية القرآن بأمرٍ مقدار ما بلغت عنايته بالعلم في التجربة البشرية؛ كونه حياة حيّة خالصة للذين يقدرون عليه ويخلصون لله في طلبه والقدرة عليه. ولم تكن تزكية الله للعلماء أسمى ولا أرقى ولا أبلغ إلا لأن المعرفة في إطار العلم هي غاية الغايات من عمل الأصفياء.
فالعلم طريقُ معرفة الله لا محالة؛ لأنه يصحب العالم في طريق الله من حيث أمر ومن حيث نهى؛ فيحفظ الطويّة العالمة بإقامة الدليل من غواشي الانحراف. وما يستوى الذين يعلمون بالحجة البرهانيّة مع الذين يجهلونها، ولا يعلمون لا في غاية ولا في هدف ولا في تحقيق منشود.
- قليلٌ العلم خيرٌ من كثير العبادة:
ولم يكن نبيٌ الإسلام، صلوات الله وسلامه عليه، بأقل حرصاً على طلب العلم، وهو الذي سَبَقَ بنظراته الثاقبة باتجاه النظر إلى قيمة العلم كل القوانين المنهجية العلمية الحديثة التي تحرص شديد الحرص على الأمانة في العلم والدقة في نقله بأكثر من أربعة عشر قرناً … بل سبق قانون حماية المؤلفين ونصّ على أن الخيانة في العلم أقوى أثماً من الخيانة في المال، فقال: ”تناصحوا في العلم؛ فإنّ خيانة في العلم أشدّ من خيانة في المال”. ولا غرو فقد فهم المسلمون الأوّلون هذه الروح، وقدروها حق قدرها، وعضوا عليها بالنواجذ، فواصلوا الليل بالنهار لتحصيل العلم والتعب في طلبه، وإحراز المعرفة، ودراسة المشكلات، والتفاني في حلولها. وفي هذا يقول قائلهم: ”العلم لا يضبط باللجام، ولا يصاد بالسّهام، ولا يورث عن الآباء والأعمام. وإنما هو اقتحام المخاطر، واحتضان الدفاتر، واصطحاب المحابر”.
حقيقةً؛ يوم أن فارق المسلمون تلك القيم العلويّة المباركة في طلب العلم وتحصيله، شاعت فيهم الفوضى، وتخلفوا عن ركب الحضارة، وسقطت فيهم قيم القرآن وقيم نبي الإسلام؛ فأصبح العلم لديهم حلية برّانيّة يتزيّنون بها: شارة أو علامة أو مكانة اجتماعية يراءون بها الناس.
لم يكن العلم في التجربة البشرية حقيقة بقدر ما هو صورة برانيّة سرعان ما تزول، ولم يكن طلباً لطريق الآخرة أو مباشرة لوحدة القصد، ولكنه أضحى اليوم بين الناس طلباً لسَعَرِ الدنيا والتنافس الغبي على الزائل الرخيص فيها؛ فانهارت القيم التي يتولّاها العلماء، إذْ زالت عنهم منافع العلم وآدابه، ولم تعد تشيع فيهم قيمه العليا مثل شيوعها أيام المجد الأول: مجد الدين ومجد الدنيا على السّواء.
ولا شك أن الظلام الفكري تعيشه أمتنا اليوم، لهو أدلُّ من أول وهلة على سقوط القيم العلميّة عنه في مستنقع آسن من الآفات والأمراض، واستبدال الحظ الأدنى بالذي هو خير؛ لأنه إذْ ذَاَكَ يعزل الفهم عن العقل، ويعزل العقل عن المعرفة، ويعزلهما جميعاً مرة ثالثة عن قيم القرآن ومبادئه التأسيسية في ظل التجربة البشريّة، ويكتفي فقط بتحصيل القشور القاحلة منها، ثم يعزل العلم عن قيمه الوجوديّة والمصيريّة التي تخدم الفرد فضلاً عن خدمة المجموع.
شدّدت الأحاديث النبوية الشريفة على القيم العلميّة كونها مبادئ أولية في الأمر بالتعلم والتعليم تشديداً لا نظير له في أي دين من الأديان الأخرى؛ فمن ذلك مثلاً قول النبيّ الجليل عليه السلام في الحض على التعلم: ”طلبُ العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”. “أغدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محبّاً، ولا تكن الخامس فتهلك”. “قليل العلم خيرٌ من كثير العبادة”.
ولم يكن الأمر بالتعليم بأقل حظاً من الأمر بالتعلم بل هو أشدّ لهجة، وأقسى إنذاراً وتهديداً لمن يكتمون العلم أو لا يحرصون على نشره. وفي هذا يقول صلوات الله وسلامه عليه:” من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار”.
وكما استعمل النبيّ في هذا أسلوب الترهيب من عاقبة كتمان العلم واحتكاره، إلى حد أن أنذر العالم الذي يكتم علمه بأن يُلجم يوم القيامة بلجام من نار؛ كذلك سَلك نهج الترغيب بإزاء من يجود بعلمه، ولا يألوا جهداً في بذله لكل من هو في حاجة إليه، فقال صلوات الله وسلامه عليه: ”ساعة عالم متكئ على فراشه ينظر في علمه، خيٌر من عبادة العابد ستين عاماً”. ” أجودكم بعدي رجل علم علماً فنشر علمه … يبعث يوم القيامة أمّة وحده”. ويُلاحظ على هذه الكلمات النبويّة الشريفة إشراق المقاصد العلويّة النافعة قيماً دينيةً في الإسلام تربط الدنيا بالآخرة، وعمل المسير بالمصير، فيجيء طلب العلم أسمى وأرقى ما في الحياة الإنسانية؛ ليتحوّل في العالم الحق إلى تجوهر الشخصية فيه؛ لتكون وَحْدَة القصد من خلاله هى المطلوبة قصداً ورأساً. فالحياة الإنسانية بدون سعي العالم والمتعلم على سلامة النية باتجاه النظر إلى وحدة القصد، لا قيمة لها، ولا مبرر لإصلاحها، ولا جدوى على الإطلاق بالبقاء فيها إلا كما تبقى السوائم السارحة بغير غاية عظمى أو هدف نبيل. كل المقاصد الدنيا الساقطة تزول بزوال مطالبها القريبة.
ولن يبقى في النهاية إلا ما هو خالص في ظلال التجربة البشريّة: المقاصد العليا والمطالب الموصولة بوصلة السّعة والحضور بين يدي الله.
تلك كانت، بلا شك، قيماً نافعة تتضمّن مبادئ مطلقة لا غنى عنها بحال من الأحوال، يصبح التخلي عنها تخلياً في نفس الوقت عن كل نافع يبقى مع الزمن، وفيما وراء الزمن، ثم إنها لتقدح بالجملة في زعم الزاعمين أن الإسلام يحارب العلم أو يضع العقبات في طريق المعرفة. فليس أدعى للدهشة الغربية من النظر إلى دين يرفع من قدر العقل ويؤمن بالعلم والقيم العلميّة، ويعالج “الفهم” كخاصّة ذاتية للقرآن الكريم ثم يكون في نفس الوقت هو نفسه الدين الذي يُحارب العلم ويحدُّ من حدود المعرفة العلمية والعقليّة. إنها ولا ريب لفرية كاذبة يستغربها ولا يسوّغها أدنى ناظر إلى القرآن، وقيم القرآن في التجربة البشرية، من قريب.
ولا شك كانت تلك القيم نفسها هى التي برهن بها علماء المسلمين ممّن عبّروا عن الاستنارة الفكريّة في التراث الإسلامي على سماحة هذا الدين وبخاصّة في مسائل العلم: وذلك حين استقبلوا – كما يقول محمد غلاب (هذا هو الإسلام) – كل أنواع التراث الأجنبي القديم من معرفة إغريقية وترجمات يونانية وحكمة هندية وديانة فارسية، وضمّوه إلى كيانهم المتين، وفعلوا به ما تفعل النحل بالزهور التي تمصّها، ثم تعمل فيها عملها فتحولها إلى شراب مختلف ألوانه فيه للناس شفاء. وسرعان ما أنتجت هذه الخطة الحكيمة: من قادة المفكرين وأفذاذ الفلاسفة وأصناف المجتهدين وجهابذة العلماء وأفاضل المشرّعين من زينوا – ولا يزالون يزيّنون – أروع صفحات التاريخ” (يراجع: هذا هو الإسلام: ص: 31).
تلك كانت نقطة جديرة بالالتفات بكل تأكيد، تُوحي بالانفتاح لا الانغلاق والتقوقع، وتقدر ثقافة الآخرين ومعارفهم وتدل على سماحة “المبدأ” بإزاء العلم يعطيك إيّاه الإسلام، فلم يكن لينقبض عن لقاء كافة الثقافات، ولا أن ينظر إليها نظرة مُغايرة بل هضمها واستوعبها وعمل فيها ذائقته حتى شكلت تباعاً نسيج ثقافته ومقومات ابداعاته.
ولئن كانت جوامع الكَلِم النبويّ تشرق فيها المقاصد العلويّة قيماً دينية في الإسلام يتخذها العالم فيمضي على هداها إلى حيث يكون العلم قيمة خيّرة في ذاتها، فعلى العكس من ذلك تماماً يصبح العلم الذي يدمّر البشرية مادةَ شرِّ كله، ومقصد رعونة في أشخاصه وميادينه لا يعود بالنفع العاجل ولا الآجل على أحد، ولكنه يكون مجال تنافس مادي بين الناس، يشوّه خلق الله، ويقوّض دعائم الأسرة الإنسانية، ويقضي على براءة الحياة ويحيلها إلى سوادٍ ومأساة.
العلم في يد العالم المتحقق بالمقاصد الدنيا رعونة وتدمير، يستخدم في الحروب التي تحركها القيم المادية والاقتصادية، فليس ينفع الإنسانية في شيء بل يقضي عليها ويحليها إلى خراب مُحقق وهلع منكوب. وهو في يد العالم المتحقق بالمقاصد العلويّة أنفع وأبقى، وأصلح للإنسانية في سعيها المتواصل نحو تذليل الكون وتسخيره وترقية التجربة البشريّة، ثم الاتصال بالله على شرعة العمل النافع والمقصد المفيد.
***
بقلم: د. مجدي إبراهيم - أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف جامعة أسوان