دراسات وبحوث
الطيب النقر: في فلسفة العقوبة التشريعية
لما كانت الغاية من العقاب في الفقه الاسلامى حماية الفضيلة، وحماية المجتمع من أن تتحكم فيه الرزيلة، والحفاظ على المصلحة العامة، فقد وجب أن تكون العقوبة ذات طبيعة ملائمة تحقق هذا الغرض وتؤدى وظيفتها كما ينبغي."ولا يتحقق ذلك إلا أن تكون العقوبة تقوم على أصول ومواصفات معينة أهمها:
- أن تكون العقوبة زاجرة بحيث تجعل الفرد يفكر في عواقب الجريمة قبل الإقدام على اقترافها، فإذا وقعت الجريمة كانت العقوبة بحيث تؤدب الجاني على جنايته، وتزجر غيره عن التشبه به وسلوك طريقه، ولذلك قيل عن العقوبة أنها موانع قبل الفعل زواجر بعده، أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعها يمنع العودة اليه.
- أن تكون العقوبة مناسبة لحاجة الجماعة ومتلائمة مع مصلحتها، فإذا إقتضت مصلحة الجماعة التشديد شددت العقوبة، وإذا اقتضت المصلحة التخفيف خففت العقوبة فلا يصح أن تتجاهل حاجة الجماعة ورغبتها.
- إذا اقتضت حماية الجماعة من شر المجرم إستئصاله من الجماعة، أو حبسه عنها كفاً لشره، وتحقيق أمن المجتمع واستقراره، وجب أن تكون العقوبة هي قتل المجرم أو حبسه عن الجماعة حتى يموت مالم يتب أو ينصلح حاله.
- إن كل عقوبة تؤدى لصلاح الأفراد وحماية الجماعة، هي عقوبة مشروعة، فلا ينبغى الإقتصار على عقوبات معينة دون غيرها.
- إن هدف العقوبة على اختلاف أنواعها ليس الإنتقام من المجرم وإيذائه، وإنما لإصلاحه وتقويمه". يقول الماوردى فى العقوبة: "أنها تأديب وإصلاح وزجر يختلف بحسب اختلاف الذنب". والعقوبات إنما شرعت "رحمة من الله تعالى بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغى لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم، والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض". والتأديب يختلف ويتفاوت باختلاف الأشخاص "فتأديب أهل المكانة أخف من تأديب أهل السفالة والسفاهة، لقول النبى r "أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا حداً من حدود الله"، والمراد بذوي الهيئات"أهل المروءات، أما أن يعلم من رجل صلاح في الدين، وكانت العثرة أمراً فرط منه على خلاف عادته ثم ندم، فمثل هذا ينبغي أن يتجاوز عنه، أو أن يكون أهل نجدة وسياسة وكبر فى الناس، فلو أقيلت العقوبة عليهم فى كل ذنب قليل أو كثير لكان فى ذلك فتح باب التشاحن، واختلاف على الإمام فإن النفوس كثيراً ما لا تحتمل ذلك، وأما الحدود فلا ينبغى أن تهمل إلا إذا وجد لها سبب شرعى تندرئ به، ولو أهملت لتناقضت المصلحة، وبطلت فائدة الحدود".
"ولأن التأديب المقصود منه الزجر عن الجريمة وأحوال الناس مختلفة فيه، فمنهم من ينزجر بالصيحة ومنهم من يحتاج إلى اللطمة وإلى الضرب، ومنهم من يحتاج إلى الحبس".ومنهم "من لا ينفع معه إلا القتل، لهذا تدرجت عقوبات التعزير من الوعظ والإرشاد إلى القتل تعزيرا"ً، ومما يؤكد حرص الشريعة الاسلامية على مصلحة المجتمع وحمايته من الخطر الذى يتهدده من جراء تلك الجرائم ، وجود تشريع عقابي حازم يضرب بيد من حديد كل من صادته حبائل الشيطان، وأصرّ على غيّه ونزع عن نفسه عذار الدين والحياء، بيد أن الشرع لا يتعجل فى تطبيق تلك العقوبة إلا بعد روية وتمحيص في الأسباب التي دعت الجانى لاقتراف الجرم الفادح، والوقوع في حمى الرحمن، "فالشريعة الغراء تراعى كلا الأمرين مصلحة المجتمع، ومصلحة الجانى، ففي عقوبات جرائم الحدود لاحظت الشريعة مصلحة الجانى بأن جعلت شخصية الجانى تقف عند التأكد من بلوغه وعقله وإختياره وعدم وقوعه في حالة الإكراه أو الضرورة والجهل في بعض الأحيان،كما لو شرب خمراً يظنها عصيراً، فلا عقاب عليه في هذه الحالة لأنه جاهل بذلك".
ويختلف الأمر حين النظر إلي مصلحة المجتمع ، فلو ارتكب الجانى جريمة من جرائم الحدود كالزنا والسرقة دون إكراه أو إضطرار وهو عاقل مختار، استحق أن تقام عليه العقوبة المقررة للجريمة المرتكبة، ولا يلتفت إلي المبررات التي ساقها لدرء العقوبة عنه، كما لا تولى ظروف وملابسات القضية أدنى اهتمام، ولا تلعب شخصية الجاني والأجواء المحيطة به وضحالة تعليمه، دوراً في اسقاط العقوبة أو احالتها لعقوبة أخرى تعزيرية، ولا يملك القاضي إلا توقيع الحد على المذنب لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قدر العقوبة وجعلها عامة لجميع مرتكبى جرائم الحدود، دون النظر لشريفهم أو وضيعهم طالما فيهم شروط تطبيق العقوبات المقررة لهذه الجرائم، وهي كون مرتكبها عاقلاً بالغاً غير مضطر ولا مكره، هذا هو النهج القويم فى حماية المجتمع وصون ذماره، حتى لا يتهضم جانبه، ويستباح حماه.
***
د. الطيب النقر