دراسات وبحوث
الاجتراء المورموني ونسخ الكتاب المقدس
يستند المورمونيون في نسخهم واجتراءاتهم على الكتابات المقدسة بخاصة، والديانات الإبراهيمية (الزرادشتية، الصابئة المندائية، اليهودية، السامرية، المسيحية، الإسلامية، السيخية، الطائفة الدرزية، البابية، النصيرية، الراستفارية، المعتقدات الباطنية) بعامة، على كونها – أي الديانة المورمونية – واحدة من الديانات المكتملة الأركان (وحي، نبي، كتاب مقدس، معبد، عُباد وأتباع) وذلك فضلًا عن انتمائها إلى الديانات التوحيدية. ويبرر لاهوتيوها أيضا نسخهم للشرائع السماوية السابقة على دعوتهم بسنة تلك الأديان وعلى رأسها المسيحية والإسلام والفرق والملل والطوائف والمذاهب ذات الصلة بتلك.
وخليق بنا قبل الخوض في قضية نسخ العقائد عند المورمونيين الوقوف بالنقد والتحليل على مصطلح الديانات الإبراهيمية، وذلك لأهميته حيث المشكلات والقضايا التي تثار في محيطه العقدي والفلسفي والسياسي من جهة، ودوره في تشكيل بنية العديد من المصطلحات المعاصرة وعلى رأسها مصطلحي وحدة الأديان وما بعد الدين وهو كذلك من أكثر المصطلحات انتشارًا في الأبحاث الفلسفية المعاصرة المعنية بتاريخ ومقارنة الأديان وتطور الفكر العقدي في العالم بوجه أعم من جهة ثانية.
الديانات الإبراهيمية:
يصعب على الناقد المحلل التأصيل لهذا المصطلح في ضوء الكتابات التاريخية، ويرجع ذلك لندرة الوثائق من جهة، وتشعب المصادر من جهة أخرى. فالديانة الإبراهيمية قد أرخ لها اليهود في كتابهم المقدس بـ 1900 ق.م وجعلوها أصل لكل الملل اللاحقة التي يعتبرونها هرطقات باطلة وتجديفات كاذبة، وذلك باستثناء الديانة الموسوية التي جاءت بالتوراة بعد ضياع صحف إبراهيم وهي الشريعة الأم التي تحمل كلام الرب وناموسه. أما المسيحية فهي تعتبر نبي الله إبراهيم من أكابر الأتقياء وأوائل الأصفياء وهو أب كهنوتي للسيد المسيح وذلك بحسب ما ورد في إنجيل متى (1:1) وكذلك في رسالة غلاطيا للقديس بولس (16:3) وهو كذلك أب لبني إسرائيل بحسب بما ورد في أعمال الرسل (26:13)، وهو بالجملة أرفع وأسمى قدراً ومثالاً بشرياً على الإيمان بالإله، وقد أكدت ذلك أقوال يسوع بنفسه في العهد الجديد. وجاء القرآن مؤكداً أن الدين عند الله الإسلام، والإسلام هو دين الحنفية “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.
وقد أضحت بذلك الديانة الإبراهيمية هي الأصل الملي والمصدر الشرعي للعقائد السماوية، الأمر الذي أعطى للمصطلح مشروعية الانتشار في الأحقاب التاريخية المتواترة رغم غيبة التوثيق التاريخي لبنية الفكرة والمصطلح معًا.
وللكتابات الماسونية رأي آخر فيحدثنا محمد رشاد فياض رئيس محفل الشرق الأعظم الذي تأسس عام 1717م ببريطانيا أن مصطلح الديانات الإبراهيمية كان يتردد بين الأساتذة الماسونيين وفي جلساتهم المؤسسة لفكرة وحدة الأديان ويقول في ذلك: “الميمات الثلاث في الموسوية والمسيحية والمحمديّة تجتمع هكذا في ميم واحد وهي ميم الماسونية، وأن باء البوذية والبرهمية تجتمع أيضاً في باء البناء – بناء هيكل الإنسان – ثم يقول: الماسونية ليست عمالة لأي ديانة أو عنصرية معينة، إنها عقيدة العقائد وفلسفة الفلسفات وبالمبادئ الإنسانية هي مزينة”.
وقد تردد هذا المفهوم بين أوساط المثقفين والساسة والفلاسفة، وبات شائعاً منذ عام 1811م في كتابات الروحيين وعلى رأسهم جماعة الثيوصوفية والفرق الباطنية الصوفية فضلاً عن المحافل الماسونية في مصر والشام وتركيا.
ثم جاء الفيلسوف والمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883-1962) الذي يعد بحق الآب الروحي لهذا المصطلح في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، فيرجع له الأثر الأكبر في الجمع بين التصور العقدي والتوظيف الماسوني والأيدلوجيّة السياسية، لهذا المصطلح، وذلك منذ مؤتمر الجزائر للمستشرقين عام 1906م، ومؤتمري الأديان في أثينا ولندن عام 1912م. ثم جماعة (البدلية) في دمياط بمصر عام 1934م مع ماري كحيل الحلبية (1889-1979م) التي أسست العديد من الجمعيات الخيرية للإخاء الديني أشهرها جماعة (إخوان الصف) بمصر عام1941. وأخيرًا أعلن صراحة عن مشروعه عن الديانة الإبراهيمية في مقاله الأشهر عام 1949م وكتابات تلميذه الكاهن الماروني اللبناني يواكيم مبارك (1924-1995م) الذي انصرفت جهوده لتدعيم الحوار بين الإسلام والمسيحية. وجميعهم كان يرمي إلى نسخ الأديان السماوية الثلاثة بالإضافة إلى بعض الديانات الوضعية والطوائف في سياق واحد؛ ليسهل في البداية السيطرة عليها بعد تحليل بنية ثقافاتها وإتاحة الفرصة أمام الماسونيين والسياسيين للتخطيط لتقسيمها.
في أخريات القرن العشرين يظهر في الأفق دور المخابرات الأمريكية والصحف الأوروبية والجامعات ذات الصلة المباشرة بالماسونية وعلى رأسهم جامعة هارفرد، ذلك للترويج للديانات الإبراهيمية بمعان ودلالات براقة تبعًا للثقافة السائدة المراد نشر المصطلح فيها. وذاعت رسالة وقصة السجين المصري في أمريكا ويدعى (سيد نصير- 1955م) وهو فنان بورسعيدي حصل على الجنسية الأمريكية وأدين بالتورط في قتل “الحاخام مائير كاهانا” زعيم حركة كأخ الإسرائيلية المتطرفة في 1990م وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفحوى رسالته هو ضرورة الجمع بين شتات الموحدين ودياناتهم وعلى رأسها الديانات الإبراهيمية السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وتلقف هذه الرسالة الفيلسوف السويسري هانس كونج (1928-2021م) الذي جعل الأخلاق التطبيقية أساس الحوار بين الأديان الإبراهيمية وأقوى الروابط التي توحد بين المؤمنين بها وذلك في المؤتمر الذي دعا إليه تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية الصادر عن اليونسكو عام 1995م.
والسياسيان الأمريكيان ديك تشيني (1941م) والرئيس أوباما (1961م) في مطلع الألفية الثالثة، ثم مع دعاة التطبيع وعلى رأسهم ترامب (1946م) ونتنياهو (1949م) عام 2020. وأخيراً اتفاق أبراهام الذي عقد في البيت الأبيض أغسطس 2020م بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، فظاهره تسامح عقدي وباطنه علمنة ماسونية وجوهره تطبيع صهيوني وهيمنة أمريكية وما خفي كان أعظم.
والذي يعنينا في هذا المقام هو الكشف عن أبعاد المصطلح الذي تبنته الديانة المورمونية وبات البرهان الذي احتج به أنبياءها أمام الأغيار المعترضين على اجتراءاتها ونسخها للديانات السابقة عليها.
والجدير بالملاحظة في هذا السياق أيضا أن الديانة المورمونية في أمريكا لها نظير آخر في إفريقيا وهو متمثل في الديانة الراستافارية التي ظهرت عام 1930م بأثيوبيا وهي من أكثر المتأثرين بالمورمونية في معظم معتقداتها ولاسيما في قضية النسخ إذ جعلت من هيلاسيلاسي عوضا عن المسيح في قيادة الديانة المسيحية وحرب آخر الزمان.
وإذا ما عدنا للأعمدة الرئيسة التي تربط بين الديانات الإبراهيمية سوف نجدها تتلخص في : وحدانية الإله، المقصد العام لشريعة السماء، الإيمان بالبعث والآخرة حيث الثواب والعقاب، ذلك فضلاً عن يوم القيامة والصراع السابق عليه بين قوى الخير التي يقودها أحد الأبرار من الأنبياء أو الأتقياء (المسيا، يسوع، المهدي)، وأولياء الشيطان وقوى الشر.
حجية النسخ المورموني:
يجتهد أنبياء المورمونية المتتابعين في استنباط أدلتهم على مشروعية نسخهم للشرائع بحجتين : أولها نقلية مستمدة من العهد الجديد، والثانية عقلية لا ينكرها إلا المغيبون والحمقى لأنها تتصل بالواقع المعيش وكل مقتضيات العصر من علوم وفلسفات ونظم وسياسات. ومن الأدلة النقلية ما جاء به يسوع في العهد الجديد إذ قام بإلغاء بعض الأحكام وتعديل البعض الآخر؛ إذ جعل أسفار العهد الجديد (27) ناسخة لما ورد في أسفار العهد القديم (39)، وفضّل عطلة الأحد عوضًا عن السبت، معمدية المنتمين عوضًا عن الختان، والقربان عوضاً عن الذبائح، واستقبال القبلة إلى الشرق عوضًا عن جدارية “مزراح” بالقدس. كما عطل عقوبة الرجم للزاني والزانية التي رواها أبو التاريخ الكنسي يوسابيوسالقيصري (265-339م) لضعف مصدرها، وقدم التسامح والسلم على القتال والقصاص. وقد تحدثنا فيما سبق عن بعض التعديلات التي أجراها نبي المورمون على الكثير من المعتقدات اليهودية والمسيحية وها نحن نكمل ما بدأناه في السطور التالية.
جاء في إنجيل لوقا على لسان يسوع (36:39 – 5) قوله: “ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق والا فالجديد يشقه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد، و ليس احد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق فهي تهرق والزقاق تتلف؛ بل يجعلون خمرا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعا، وليس أحد إذا شرب العتيق يريد للوقت الجديد لأنه يقول العتيق أطيب”.
يبدو أن جوزيف سميث تأثر بهذا القول عند تعديله أو نسخه للأقوال والأحداث والقصص والأحكام الشرعية الواردة في الكتاب المقدس، فجعل النسخ لاغيًا لما قبله وليس مكملًا أو معدلًا أو شارحًا، وبنفس المعيار أوّل قانون الإيمان ومفهوم الخلاص وحقيقة الصراع الذي سوف يأتي في آخر الزمان. غير أنه أهمل قول يسوع أيضاً الذي ورد في إنجيل متى (5- 22:17) ’’لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لانقض بل لأكمل، فاني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل؛ فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات وأمّا من عمل وعلم فهذا يدعى عظيماً في ملكوت السماوات؛ فإني أقول لكم إنكم ان لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات، قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم، وأما أنا فأقول لكم ان كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع ومن قال يا احمق يكون مستوجب نار جهنم’’.
ويشير القول السابق إلى وحدة الناموس وحرص يسوع على تصحيحه أو تعديله وليس إلغاءه كلية كما فعل أنبياء المورمون.
ويبدو أن نبي المورمونيين قد حاول الجمع بين المنحى التفكيكي في قراءة النص المقدس تارة والنهج البنيوي النسقي السياقي تارة أخرى، والتأويل الذاتي الحر تارة ثالثة. لذا قد اختلف المفسرون حيال موقف نبي المورمونية من الديانات السابقة، فذهب البعض إلى أن الأساس الذي أقام عليه دعوته النقضية قد انطلق من تعاليم أريوس المنطقي ولا سيما في قضية (الكروستولوجي) أو طبيعة المسيح وقانون الإيمان النيقي، في حين ذهب البعض الآخر إلى أن الأثر الأكبر الواضح في كتاب المورمون هو الأثر التوحيدي المصري والفكر العقدي الإسلامي الذي تأثر به سكان أميركا قبل نزوح الأوروبيين إليها أي في الفترة التي اكتشف فيها العرب المسلمون وجود القارة الأمريكية على الشاطئ الثاني من المحيط الأطلنطي أو بحر الظلمات كما كانوا يسمونه، حيث كان سكان هذه الأرض من الموحدين المؤمنين بوحدانية الإله من المنظور الإخناتوني والتعاليم الإسلامية.
وتشهد بذلك كتابات أمير البحار الأندلسي خشخاش بن سعيد بن أسود (871/957م). وعثور لويس بيركلي على آنية من الخزف تحوي نقوداً رومانية ترجع إلى القرن الرابع الميلادي وأخرى إسلامية تعود إلى القرن الثامن الميلادي وذلك في القرن التاسع عشر. وتقطع هذه القرائن بأن الأفكار العقدية والثقافة الرومانية والإسلامية كانت معروفة لسكان الأرض الأمريكية في تلك الأحقاب التاريخية. ونستخلص من ذلك كله أن الإشارات التي وجدت في كتاب المورمون تحدثنا عن الأثر المصري واليوناني وتعكس دراية نبي المورمونية بتلك الحقائق عند وضع روايته عن الألواح الذهبية المقدسة التي اتخذ منها حجّة على نبوته.
وللحديث بقيّة
***
بقلم : د. عصمت نصار